شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، (الحلقة 6) تبدل موقف القاضي عبد الكريم من إسبانيا

تظهر المعطيات التي وصلتنا بخصوص علاقة القاضي عبد الكريم بإسبانيا تكون قد كانت إيجابيا قبل أن تتدهور لاحقا بسبب سيطرة ذهنية المصالح الضيقة على المعمرين. ونسجل ما خطه ابنه محمد في مذكرات لارينيون، بكون والده “كان يرى أن دولة المغرب قد شاخت وهرمت، وأن أيام شبابها وكهولتها قد انصرمت، وأن تداخل الأجانب في شأنها صار أمرا مقضيا (…) ورأى من الحكمة والرأي السديد أن يساعد إسبانيا فيما عهد إليها من تنفيذ شروط مؤتمر الجزيرة الخضراء”. (مذكرات لارينيون، ص 53). وبسبب ذلك الأمل ربط علاقة إيجابية مع إسبانيا لمصلحة إخراج منطقته من عزلتها ومن تخلفها الاجتماعي؛ ذلك التخلف الذي عبر عنه أحد الدبلوماسيين الأمريكيين وهو يصل طنجة من جبل طارق، مسجلا: “يصل الإنسان بعد الساعتين يقضيهما في عبور البحر الأبيض المتوسط من جبل طارق إلى طنجة من القرن العشرين إلى القرن العاشر”. (عبد المجيد بن جلون، جولات في مغرب الأمس، ص 4).   

    لكن وجوه قبيلة أيث ورياغل لم يكونوا يشاركونه الرؤية؛ فما كان منهم إلاّ أن اتهموه بالخيانة والولاء لإسبانيا. وتفعيلا لتلك التهمة على الأرض، كان يُحكم عليه بالخيانة وأحراق داره؛ ولم ينجُ هو من الإحراق إلا بالهروب بحرا إلى مدينة تطوان بمساعدة إسبانيا. سجل أحد معاصري المرحلة والأحداث معا، أن إسبانيا كانت تساعده كذلك، بعد الوساطات بينه وبين الغاضبين ضده، على إعادة بناء داره وتعويض ممتلكاته. أما هو فكان يبين لعقلاء القبيلة الذين يجتمع بهم “مقاصده، ويشرح لهم أنه يخدم مصالح شعبه ووطنه” قبل أن يضيف في نهاية اللقاءات بهم “أن الوطنية الآن مقبورة في أنحاء الدنيا ولم تبق إلا في داري، ومن طال عُمُرُه منكم فسيرى العالم كله يلتمس الوطنية من داري”. (بالقاضي، أسد الريف، ص 67).       

     وعلى الرغم من مظهر علاقة القاضي عبد الكريم بإسبانيا فإن علاقته بالشريف أمزيان لم تكن هامشية أو عشوائية، أو عدائية؛ بل كان يرى فيه قائدا جديرا بقيادة المقاومة ضد إسبانيا الغازية للريف، وبذلك كان يعلل اجماع الريفيين على الامتثال لقيادته في المقاومة، كما رأينا في الحلقة السابقة. وكان ذلك الإجماع حول المقاومة إلى “حرب ذات أهمية لا تقل أهمية على أي حرب أخرى. وصارت إسبانيا تحارب لتفتح لا للحماية”. (ص 50 من مذكرات لارينيون). 

 لم يطمئن الإسبان إلى علاقة القاضي عبد الكريم التي بدأت بعدم رضاه وتوجيه انتقاداته لسياستهم في الريف، وسجلوا أنها تتجه نحو القطيعة؛ فلجأوا، في 1915، إلى تهديده، حين أمروا بسجن ابنه محمد في مليلة حتى يتراجع والده، ويسلم بسياسة إسبانيا نحو الريف. تكلم محمد، في مذكرات لارينيون، عن إلقاء القبض عليه فقال: “عند إلقاء القبض علي عينوا لي ضابطا برتبة كورونيل لإجراء البحث، ولما تم السؤالات والبحث صرح للجنرال خوردانة ببراءتي مما أشيع علي، فأجاب الجنرال خوردانة من تطوان أن ابن عبد الكريم يبقى في السجن حتى يقدم والده”. لكن الوالد رفض القدوم حتى لو كنت أنا الرهينة. (مذكرات لارينيون ص 71). فهل كان القاضي عبد الكريم وابنه محمد مجرد عميلين لإسبانيا، وأن ابنه غير ولاءه من سلطان المغرب إلى ملك إسبانيا؟ (جرمان عياش، أصول حرب الريف، ص 346 و347)، وأن محمدا كان جنديا إسبانيا ويأكل الخنزير؟ (بوعبيد، مجلة زمان، عدد شتنبر 2016). 

أصرت الإقامة العامة الإسبانية في تطوان على زيارة القاضي عبد الكريم للسلطة الإسبانية، حتى يتم إطلاق صراح ابنه المرهون في السجن بمليلة. ويمكن أن تتم الزيارة إلى جزيرة النكور، الواقعة قبالة بلدة عبد الكريم أجدير. وحدثت تلك الزيارة بعد 11 شهرا من سجن محمدا رهينة في مليلة؛ وأطلق صراحه وأعيدت إليه وظائفه. غير أن خيار المقاومة المسلحة كان قد تبلور وترسخ لدى الرجل. قال محمد في مذكرات لارينيون إن والدي “أوصانا (أنا وأخي امحمد) إذا لم نقدر على الدفاع والقتال، فلنرتحل.” (ص 80 من المذكرات.) 

لم تتوقف إهانات الذين رأوا في حركة التحرير الوطنية مجرد تعبير عن كراهية الأجانب، وتهورا غير محسوب العواقب، وخيانة للوطن، بل “انفصالا” لعبد الكريم الخطابي، لأنهم كانوا يرون في الاستعمار الغربي فتحا حضاريا لا يقل عن فتح المسلمين أو العرب للمغرب في القرن السابع الميلادي. تجعلنا هذه التوصيفات والاتهامات ندرك مدى الورطة التي أوقع فيها المناصرون أو المتعاطفون أنفسهم مع الاستعمار الأوروبي ضد شرف وطنهم وكرامة أبنائه الأحرار. وبلغ بهم حقدهم حدوده القصوى في زمن “الدولة الوطنية” من حرمان محمد بن عبد الكريم الخطابي من قبر في ثرى وطنه الذي ضحى من أجله. فهل كان قرار الحرمان مجرد قرار محلي، يتناسب مع ما ذكره الشاعر عبد اللطيف بن يحيى في إحدى قصائده: 

دُفنتَ بعيدا عن وطنك 

بعيدا عن أحبائك 

لأن ذئاب الوطن.. يا أبتاه 

تخشى من رفاتك 

تخشى أن يصير قبرك دوحة 

نستظل تحتها 

تخشى أن يصير لوحة 

نعلقها فوق جدران المدينة 

لأنها تقول لهم ما ليس يعجبهم”؟ 

   أم أن قرار إبعاد محمد بن عبد الكريم عن وطنه، حيا وميتا، قرار غير مغربي في أساسه، وفقا لما يشيعه بعض العارفين بخبايا أسباب حرمانه من تربة وطنه، أو كما كان يعتقد نجله سعيد بن محمد بن عبد الكريم، أثناء مناقشاتنا لموضوع معاقبة الخطابي بترك جثمانه في المنفى، وعدم المصداقية في تنمية المنطقة التي حاربت الاستعمار. 

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي