من حيل الاستعمار الإسباني، الذي كان عارفا بثقافة المقاومة عند ساكنة الريف، لجأ إلى إيجاد وسائل تمكنه من استدراج واستمالة الساكنة للاقتناع بمزايا الوجود الإسباني بينهم. وكانت أول وسيلة لجأت إليها إسبانيا هي الإعلام. ويتعلق الأمر بإنشاء “جريدة تلغراما الريف” (El Telegrama del Rif) في 1 مارس 1902 في مدينة مليلة المحتلة، التي تكفلت بتقديم وعود الدولة الإسبانية للمغاربة واستمالتهم إلى مناصرة وجودها في المغرب، بتطوير الريف بوسائل النقل والتنقل؛ وبإنشاء مدارس عصرية لأبناء المسلمين في كل من مليلة وتطوان، وكذا مدرسة لتعليم الطب في مدينة مليلة. وادعت أن منهجيتها تقوم على تبادل المصالح والمنافع والتعاون الثقافي والعلمي بين الإسبانيين والمغاربة. من ذلك مثلا، راحت تنوه باللغة العربية واللغة الإسبانية كلغتين جارتين وصديقتين منذ زمن الأندلس إلى اليوم؛ كما كانت تلجأ من حين لآخر إلى الإشادة ببعض المستعربين الإسبان الفخورين بضلوعهم في علوم اللغة العربية وتقديرهم لها، وإلى التنويه بتخصيص صفحة لأخبار إسبانيا وأخبار المغرب الإيجابية؛ فضلا عن مقالات باللغة العربية على الجريدة يوميا، كما كانت تحتفل باختتام السنة الدراسية في المدرسة المزدوجة اللغة والثقافة لأبناء المغاربة التي تأسست في مليلة.
وفي السياق نفسه راحت تشيد بالأعياد الدينية للمسلمين وتسترضي عواطفهم من خلال الإشادة بمعتقداتهم الشعبية وطقوسها، كالاحتفال بـ”أضرحة الأولياء الصالحين”، والإشادة بإحياء مواسمهم. إضافة إلى التركيز أكثر على ترسيخ سيكولوجية القضاء والقدر، التي كانت سائدة بقوة منذ عصور الانحطاط الثقافي والاجتماعي الطويلة؛ فكانت تدعمها يوميا بمتلازمة تقول: “ما شاء الله لابد أن يكون، كل شيء مكتوب عند ربي”، التي كان يراد من ورائها القبول بالاستعمار كقضاء وقدر إلاهيين لا مفر منه.
وبعد سنتين من تأسيس جريدة “تلغراما الريف” سارت فرنسا على خطى إسبانيا، فأسست في مقر بعثتها الدبلوماسية، بمدينة طنجة، جريدتها التي اختارت لها عنوان “السعادة”، لكي تقوم بدور مماثل لـلجريدة الإسبانية؛ وتقوم بصفة مركزة على إغراء كبار القوم بمزايا الاستعمار، واستغلت بمهارة تسابق كبار القوم لحيازة الجنسية الفرنسية أو حمايتها؛ لضمان تأييدهم لها، أو وقوفهم ضد سياستها المؤدية إلى احتلال المغرب، واعتبارهم المقاومين فتانين، أو “جرثومة العصيان” حسب تعبير السلطان مولاي يوسف لاحقا. (جريدة السعادة، عدد 20 يوليو 1926).
من خارج المغرب، شهد عبد العزيز الثعالبي الوطني التونسي، الذي زار المغرب في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، بأن المغاربة يرون أن خروج بلدهم من وضعه المتخلف عن العصر لن يكون إلا بالتحاقه بالاستعمار. (أحمد بن ميلاد ومحمد بن إدريس، الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحركة الوطنية التونسية، ص 60). مع التذكير بأن المغرب لم تكن فيه صحافة مغربية، لأن المخزن لم يكن يسمح للمغاربة بتأسيسها.
منهجية المقاومين
كان ذلك جانبا من المنهجية الاستعمارية، التي كان من جملة أهدافها إعداد النفوس للترحيب بالغزو الاستعماري، والسكوت عن مجازره واعتبارها مجرد تسكين، أو “تهدئة” في لغة المعمرين وأنصارهم. وفي المقابل كانت هنالك منهجية الشريف أمزيان ورفاقه، التي وجدت في مرجعيتها الثقافية والتاريخية طرائق متعددة للدفاع الذاتي والتلقائي عن حياض الوطن؛ إنها ثقافة، وهوية، ومقاومة المغاربة الأحرار للعدوان، الذين لم يتأثروا بما تأثر به المنبهرون بشعارات التطوير الاجتماعي، واللحاق بركب التقدم الحضاري، بفضل حسنات الاستعمار الأوروبي.
ومن ثمة، فإن منهجية مقاومة الشريف أمزيان لم تكن ضد الاستعمار الإسباني فقط، بل وقفت في وجه نخب مغربية اعتبرت الشعارات والوعود الاستعمارية جسرا يربط المغرب بركب الأمم المتقدمة، حسب زعمهم، أولئك الذين زعموا في الثلاثينيات من القرن العشرين، أن الواجب نحو الوطن يمكن القيام به بواسطة العمل السياسي الوطني ضمن الشرعية، (أي الاستعمار)؛ إنه السلوك السياسي السلمي الذي تبناه رسميا زعماء الحركات الوطنية السياسية؛ ومن بينهم الزعيم علال الفاسي الذي أكد في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، أكد، فيه أن المقاومة المسلحة للاستعمار كانت بمثابة ردة فعل عن الدهشة الناجمة عن الاحتلال الأجنبي في البوادي والجبال؛ أما أهل المدن فكانوا، حسب تبريره، في انتظار “جيل جديد متشبع بروح المقاومة السلمية التي لا تعطي السلاح المقام الأول في كل معركة”، (علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، ص 145).
وفي هذا الاتجاه اعتبرت جماعات العمل السياسي الوطني، عموما، المجنسين المغاربة بالجنسيات الأجنبية وطنيين. وكان تقلد بعضهم القيادة في الحركة الوطنية المغربية أمرا عاديا؛ على عكس ما كان الموقف في كل من الجزائر وتونس. ففي تونس انتشرت احتجاجات وصدرت فتاوى تُخرِج المجنسين التونسيين حتى من صفوف المسلمين، ومن الوطنيين التونسيين. وكمثال على ذلك الموقف الصارم للمسلمين والوطنيين التونسيين ضد المجنسين، الأحياء منهم والأموات، الذي نشرته جريدة “الجامعة العربية”، بتاريخ 25 مايو 1933 باسم الحزب الدستوري الحر التونسي ردا على فرض سلطات الاحتلال الفرنسية دفن مجنس في مقابر المسلمين بقوة السلاح، ضدا على إرادة المسلمين. قبل أن تسجل أن تصرف سلطات الحماية “تدل على استهتار بحقوق الشعب”.
أما في الجزائر، وعلى الرغم من قوانين 1865، و1918، و1936 التي حددت شروط من يحق له الحصول على الجنسية الفرنسية من الأهالي أو “ألأنديجان”؛ فإن القاسم المشترك بين هذه القوانين، هو فرض تخلي المجنسين الجزائريين عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامية. ونتيجة لذلك، وبعد أخذ ورد، أصدر الشيخ عبد الحميد ابن باديس، (تـ 1940)، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في1937، فتوى تنص على أن “التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة الإسلامية، ومن رفض حكما واحدا من أحكام الإسلام عُدَّ مرتدا عن الإسلام بالإجماع”. كما أفتى بـ”عدم صلاة الجنازة على المتجنس، أو دفنه في مقابر المسلمين”. (جريدة البصائر الأسبوعية، عدد 79، 20 – 8 – 1937.)
أما في المغرب فلا ندري، على وجه اليقين، الأسباب المختلفة التي جعلت نخبا مغربية، ذات نفوذ في المدن المغربية وفي أريافها الغنية، قبل الحماية وأثناءها، تخالف المنحيين التونسي والجزائري، على السواء، بشأن المجنسين. على الرغم من الانتساب التاريخي لكل سكان شمال إفريقيا إلى مذهب فقهي مشترك واحد، وهو المذهب المالكي وإلى العقيدة الأشعرية كذلك. ولذلك لم يكن مستغربا، في نظرنا، أن يكون بين صفوف الوطنيين المغاربة مجنسون ومحميون من قِبَل دول أجنبية بدون أي حرج.
(يُتبع)
*مفكر ودبلوماسي سابق
الكثير الكثير من المعلومات القيمة اطلعنا عليها الدكتور علي الإدريسي فله الشكر والتقدير