شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال،(الحلقة 5)… وتستمر المقاومة الوطنية

إن استشهاد الشريف محمد أمزيان، سنة 1912، لم ينجم عنه موت المقاومة، أو موت الحركة الوطنية التحريرية، كما ضن الاستعمار وأعوانه. فبعد تسع سنوات ظهرت حركة تحريرية منظمة أخرى، قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1921 و 1926، التي صنفها جل المؤرخين وزعماء التحرر في آسيا وإفريقيا ضمن المنهج الفعال الذي ساهم بقوة في التعجيل بانزياح ليل الاستعمار.  

انطلقت الحركة من الريف كذلك بقيادة فقيه، كان يعمل في مليلة مع الإسبان إبان حركة الشريف أمزيان. لكن البعض استغل وجود الخطابي موظفا عند الإسبان أثناء المقاومة التي رأسها الشريف أمزيان، للتشكيك في وطنيته، ونظر إليه المشككون كموال لإسبانيا، لأنه لم يُبدِ موقفا إيجابيا من حركة الشريف أمزيان، بل بقي يمارس وظيفته عند الإسبان.  

والواقع أن أولئك جهلوا، أو تجاهلوا، أن تقاليد أهل الريف وكل أهل المغرب، لا تعطي للأبناء رئاسة التقرير في أي أمر، ما دام الأب أو كبير العائلة حيا وقادرا على اتخاذ القرار، ولا تزال هذه التقاليد قائمة بصفة أو بأخرى إلى اليوم، هذا أولا. 

  وثانيا، كان العرف السائد في المنطقة لا يسمح لمن لم يكن متزوجا القيادة في جماعته. ولذا لم يسمح لمحمد بن عبد الكريم رئاسة حركة مقاومة إسبانيا إلا بعد وفاة والده، وبعد أن يكون قد تزوج، كما هو معروف. 

   وثالثا، كان فارق السن بين الشريف أمزيان ومحمد بن عبد الكريم واسعا؛ حيث كان عُمُرُ الأول في العقد السادس، وكان عمرُ الثاني في العقد الثالث فقط.  

   واعتبارا لكل ذلك، كان القاضي عبد الكريم الخطابي، والد محمد، هو من يتولى رئاسة الريف الأوسط، وبالتالي هو من يقرر العلاقة مع الشريف أمزيان.   

    وعليه، كيف كانت علاقة عبد الكريم الأب بالشريف محمد أمزيان؟ يوضح محمد بن عبد الكريم في مذكراته، المشار إليها أعلاه، هذه العلاقة بين الشريف أمزيان ووالده عبد الكريم؛ فيؤكد بأنها كانت علاقة جيدة، وأنهما كانا متفانيين في القيام بالواجب الوطني، وأنهما كانا زعيمين رائدين في العمل الوطني التحريري. غير أن رأييهما حول كيفية مواجهة إسبانيا كان يتحكم فيها أمران على الأقل:  

    أولهما، كان عبد الكريم الوالد يرى أن محاربة إسبانيا يجب أن تكون مسبوقة بالقضاء على فوضى “الريفوبليك” عند الريفيين، (فوضى ناجمة عن غياب الدولة في تطبيق القانون وضبط الأمن في الريف، المشابه أمنيا للسيبة إلى حد ما)؛ والقضاء على الخونة المنفذين لخطط إسبانيا، أو تحييدهم على الأقل، وإبطال أفعالهم المضرة بالوطن، أو التقليل من خطورة المجندين الأهليين، الذين كانوا يسمون بـ”البوليس الأهلي”. 

 أما الأمر الثاني الذي كان موضوع عدم اتفاق بين القائدين فيتعلق بالخطط الحربية. كان أمزيان يؤمن بمنهجية أقرب ما تكون إلى حرب العصابات؛ في الوقت الذي كان فيه القاضي عبد الكريم يؤمن بحرب الجبهات، وتحت إشراف هيئة أركان حربية. بعد توافر نوع من التوازن في القوى بين الطرفين. غير أن هذا الخلاف لم يفسد للصداقة قضية. ولذلك التزم القاضي عبد الكريم مع الشريف أمزيان بما يلي: “إنني لا أوافق على آرائك وخططك، ولا أتحمل مسؤوليتها، ولكني لن أمنع فرسان بني ورياغل وشبابها ومجاهديها من الانضواء تحت لواء قيادتك والقتال معك جنبا إلى جنب”. (عبد الرحمن الطيبي، مجلة “أمل” المغربية، عدد 38، صص 40 و41). ومن جانبه أكد المؤرخ حسن الفكَيكَي، في ثنايا مؤلفه “الشريف محمد أمزيان شهيد الوعي الوطني”، مشاركة عدد كبير من محاربي الريف الأوسط (حيث قيادة القاضي عبد الكريم) الأشداء الذين التحقوا بصفوف مقاومة الشريف أمزيان منذ الإعدادلانطلاق المقاومة. ونقل عن المصادر الإسبانية “أن عدد المجندين الورياغليين فقط (الريف الأوسط) في صفوف محاربي الشريف أمزيان بلغ 5000 محارب في يوليو 1909. (الفكَيكَي، شهيد الوعي الوطني، صص 95و96).   

وكان من بين كبار رفاق الشريف أمزيان قاضي الشباب الورياغلي السيد محمد بن حدو العزوزي، الصديق الوفي للقاضي عبد الكريم وشريكه في إعداد خطة هزيمة جيش بوحمارة في النكور- بوسلامة بالرف الأوسط، خريف 1908، وكان القاضي العزوزي يرافق الشريف أمزيان في كل مراحل الإعداد، لحث المواطنين على الانخراط بإيمان في المقاومة، واستمر في نهجه إلى لحظة استشهاده سنة 1915. (محمد عمر بالقاضي، أسد الريف، ص 55).  

لكن البعض، ولسبب يخصه، لا يزال يحاول إلصاق تهمة خيانة الشريف أمزيان من قبل عبد الكريم. وغالبا ما يُقصد محمد بن عيد الكريم وليس والده فقط، خدمة لأهداف غير وطنية، حسب نظرنا؛ لأن الاستعمار وتوابعه عَدّوا المقاومة المسلحة في المغرب ضد الاستعمار بمثابة “آخر اختلاجات النظام القبلي البالي”؛ وفقا لشهادة محمد زنيبر ضمن ندوة باريس عن عبد الكريم الخطابي سنة 1973، المنشورة في كتاب “عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف. 

ويبدو أن عبد الرحيم بوعبيد، الذي أعطى لنفسه صفة قائد للعمل الوطني السياسي السلمي في زمن الاستعمار، لم يكن رأيه في المقاومة المسلحة مخالفا لرأي الاستعماريين القدامى، عندما راح يحذر الفرنسيين في مفاوضات أيكس – ليبان (Aix-les-Bains، سنة 1955، من خطر البدويين البدائيين المهرة في الحرب على فرنسا، ونصح رئيس وزراء فرنسا بالاعتماد على الوطنيين (الأحزاب) لتجنب أعمال حرب البدائيين. (مذكرات إدغار فور، رئيس الحكومة الفرنسية، في الإبان، الترجمة المغربية، ص 63).  

فهل يكون مستساغا أن يتساوى موقف بعض قادة الحركة الوطنية السياسية المغربة مع موقف الاستعماريين من المقاومة المسلحة الوطنية؟ ويحق لنا كذلك أن نتساءل، بعد مضي قرن من الزمن على أنوال، وقرن ونيف على مقاومة الشريف محمد أمزيان؛ وما بينهما من مقاومات مغربية للدفاع عن حرية الوطن ومقدساته، هل تبقى النزاهة الفكرية في تناول تاريخ المقاومة المسلحة ضد الاستعمار المعاصر غائبة عن بعض المتنفذين سياسيا في المغرب؟ وسيبقى صدى تاريخ التحرر المعاصر لا يصل مدرجات الجامعة المغربية ومختبرات البحث العلمي فيها؟   

وفي خاتمة هذه الحلقة يجدر بنا أن نذكر أن محمدا بن عبد الكريم الخطابي سجل، في مذكرات لارينيون، أن والده حاول بكل ما أوتي من الحكمة السياسة التي كان يتعامل بها مع الإسبان، ثني تقدم الجيش الإسباني خارج حدود مليلة، وتجنب تصعيد الأعمال الحربية مع الساكنة الريفية الغاضبة، وضرورة الوفاء بتعهداتها التي وعدت بها في مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906؛ كما كان يبلغ رأيه إلى المسؤولين الأوائل في الإقامة العامة في تطوان، عاصمة المغرب الخليفي، بهدف تجنب المواجهة بين الجابين. إضافة إلى تنبيههم بضرورة منع جندهم والمعمرين من الاعتداء على السكان وعلى ممتلكاتهم. لكن أهواء الاستعمار كانت أقوى من حكمة التعاون بين الشعبين. 

كان القاضي عبد الكريم يلاحظ أن إسبانيا لم تنفذ شيئا مما كانت الساكنة الريفية تنتظره، وأنها رمت بتنبيهاته عرض الحائط؛ ووصل إلى يقين بأن الاستعمار لم يكن يعنيه إلاّ مصالحه الضيقة. الأمر الذي أدى إلى ضج الريفيين، فبادروا إلى حمل السلاح والمشاركة في حركة المقاومة. وفي المقابل كان الريفيون مقتنعين اقتناعا، لا يشوبه شك، بأن لا جدوى من وعود إسبانيا في مؤتمر الجزيرة الخضراء أو من وعودها البراقة خارج المؤتمر، لأن واقع حال الريف كان أصدق من الدعاية والكتب.  

 وأظهر محمد في “مذكرات لارينيون” أن رأي والده كان مرفوضا من الإسبان، كما أن طلبه من الريفيين تحمّلهم المزيد من الصبر، كان عديم التأثير بسبب تعنت الإسبان. وشرح رأيه ذلك في المذكرات فقال: “أشار (والده) على الإسبانيين بوجوب التأني وعدم الإسراع بفصل المسألة حتى يُعمل الواجب، ومن جهة خاطب الريفيين (الشريف أمزيان ورفاقه) بلزوم الصبر وانتظار جواب السلطان الذي كان قد أعلمه كتابة، وعدم إذاية العَمَلَة والأجانب؛ فلم يصادف قبولا من الجانبين وكان ما كان”. (مدكرات لارينيون، ص 54). 

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي