تتسارع خطى التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة،حتى أصبح الذكاء الاصطناعي عنصرا أساسيا في حياتنا اليومية، يتغلغل في كل جوانبها بصمت ومهارة، من الوسائل الرقمية التي تستجيب لأوامرنا الصوتية، إلى الخوارزميات الخفية التي تتحكم في المحتوى الذي نشاهده على منصات التواصل الاجتماعي، وصولا إلى الأنظمة المالية المعقدة التي تدير معاملاتنا بسرعة البرق. لكن هذا التكامل المخيف بين البشر والآلات الذكية، يحيل على سؤال محوري يستدعي التأمل: ماذا سيحدث عندما يتخطى الذكاء الاصطناعي حدود كونه مجرد أداة مساعدة ليتحول إلى قوة قادرة على تشكيل وعينا والتلاعب بقراراتنا؟
إن ظاهرة الإدمان الرقمي تمثل الخطوة الأولى في هذه المنظومة المتطورة. فأنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تصمم بعناية فائقة لخلق حالة من الاعتماد النفسي والعملي حيث تستخدم هذه الأنظمة آليات المكافأة الفورية التي تشبه تلك المستخدمة في ألعاب القمار، وتوفر الخوارزميات في منصات مثل “نتفلكس” و”سبوتيفاي” إشباعا فوريا يبقي المستخدمين مشدودين لساعات طويلة.
هذا وتؤكد الدراسات الحديثة في مجال علم النفس الرقمي أن التعرض المستمر لهذه الآليات يؤدي إلى انخفاض تدريجي في قدرة الأفراد على التفكير النقدي المستقل، مما يخلق فراغا معرفيا تتسابق الخوارزميات على ملئه.
بعد ذلك تأتي مرحلة الاستئناس، حيث يتسلل الذكاء الاصطناعي إلى المجالات الحيوية كالصحة والتعليم والإعلام، لدرجة يصبح الاستغناء عنه أمرا شبه مستحيل. تعزز هذه المرحلة الثقة العمياء في توصيات وقرارات هذه الأنظمة، لتمهد الطريق نحو التلاعب المنهجي الذي يمثل جوهر نظرية التحكم. في هذه المرحلة، تستغل الثقة المكتسبة لتمرير معلومات مغلوطة أو موجهة تخدم أجندات محددة، كتلك الخوارزميات التي تروج لوجهات نظر سياسية معينة عبر أخبار مصممة بدقة متناهية، أو أنظمة التوصيات التي تدفع المستخدمين نحو أنماط استهلاكية تخدم مصالح الأوليكارشية الاقتصادية.
وتعتمد فاعلية هذه المنظومة على تقنيتين متقدمتين: الفقاعات المعلوماتية التي تعزل المستخدمين في محيط يعكس معتقداتهم السابقة، وتقنيات التوليد العميق للواقع التي أصبحت قادرة على إنتاج محتوى يحاكي الحقيقة بدقة مذهلة. والجمع بين هاتين التقنيتين يخلق بيئة خصبة لنشر معلومات مضللة يصعب تمييزها عن الحقائق، خاصة مع وجود أنظمة توليدية متطورة قادرة على إنتاج فيديوهات وصور وأخبار تبدو حقيقية تماما رغم كونها مختلقة بالكامل. وقد شاهدنا مثلا كيف انتشرت صور :”أيلون ماسك” وهو يتناول وجبة عشاء بمراكش لدرجة أن مواقع إخبارية تناقلتها ليتبين بعدها أنها صور مزيفة.
والعواقب المحتملة لهذا السيناريو مقلقة للغاية، إذ تهدد قدرة الأفراد على التمييز بين الحقيقة والزيف، مما قد يؤدي إلى ما أسماه الفيلسوف “تيموثي سنايدر” “الموت البطيء للعقل النقدي”. على المستوى الجماعي، يهدد هذا التطور أسس الديمقراطية نفسها، حيث يمكن لنخبة تكنولوجية محدودة أن تتحكم في توجيه الرأي العام عبر السيطرة على الخوارزميات التي تشكل وعي الأفراد.
ولمواجهة هذا المستقبل المحتمل، تبرز الحاجة إلى مقاربة متعددة الأبعاد تشمل الجانب التشريعي عبر سن قوانين تلزم شركات التكنولوجيا بالكشف عن آليات عمل خوارزمياتها، على غرار قانون الخدمات الرقمية الأوروبي. كما تشمل الجانب التعليمي من خلال تأسيس مناهج “المناعة المعلوماتية” التي تسلح الأفراد بمهارات تحليل المصادر وكشف التضليل. وأخيرا، تبرز أهمية تطوير تكنولوجيا مضادة تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي شفافة قادرة على تبرير قراراتها وتوضيح منطق عملها للمستخدمين.
لاشك أن الذكاء الاصطناعي هو بمثابة أداة قوية يعتمد تأثيرها على من يتحكم في توجيهها. والسيناريو الذي تطرحه نظرية التحكم ليس حتميا، لكنه يقدم تحذيرا جديا من خطر تحول التكنولوجيا، في غياب الضوابط الأخلاقية والقانونية الصارمة، إلى أداة لاستعمار جديد لا يستهدف الأراضي والموارد، بل يستهدف العقول والوعي الجمعي.
ومن حسن حظ الأجيال التي عايشت الفترة الانتقالية بين ما قبل الذكاء الاصطناعي وما بعده أن هؤلاء يتعاملون معه بحذر وتوجس، في حين أن ما يسمى بجيلz فتحوا أعينهم في عالم التكنولوجيا الحديثة وقد يكونون أكثر عرضة للتلاعب والتحكم من طرف الأيادي الخفية التي تسعى للسيطرة التامة.
ونحن نقف على حافة هذا التحول الهائل فإن مستقبل الإنسانية يتأرجح بين التعايش مع الذكاء الاصطناعي بتحفظ شديد وبين الاستسلام التام لسطوته وها نحن نرى كيف تهدد الخوارزميات الخفية استقلالية العقول والحرية والكرامة.
تعليقات الزوار ( 0 )