في أواخر شهر مارس الماضي، دق الخبراء الاقتصاديون لدى المجموعة المالية الدولية التي مقرها نيويورك الأمريكية “غولدمان ساكس” جرس الإنذار حيال الموجة الجديدة من الذكاء الاصطناعي، بتأكيدهم أن هذه الطفرة التكنولوجية تهدد بزوال 300 مليون وظيفة من الوظائف ذات الدوام الكامل في جميع أنحاء العالم.
وبحسب الدراسة التي نشرتها المجموعة يوم الأحد 26 مارس، فإن 18٪ من الوظائف في جميع أنحاء العالم قابلة للحوسبة والملاءمة مع تطورات الذكاء الاصطناعي التوليدية، خاصة في الكيانات الاقتصادية المتقدمة، حيث تفوق نسبة المهن المعرضة لغزو الذكاء الاصطناعي مقدار الثلثين في أوربا والولايات المتحدة، فيما يمكن أن تصل هذه النسبة من سيطرة التقنيات الجديدة إلى ربع سوق العمل.
ومع ظهور أداة “شات جي بي تي” التوليدية المطورة من طرف شركة “اوبن اي” الخريف الماضي، سارعت العديد من الشركات بالفعل إلى إعادة التفكير في الطريقة التي يجب أن يعمل بها موظفوها بشكل يومي، وفتح طرح “شات جي بي تي” للعموم الأبواب أمام المطورين لكشف النقاب عن مزيد من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تقترح حلولا تقنية من شأنها توفير آلاف ساعات العمل للشركات، بالشكل الذي قد يؤدي إلى تعطيل “خطير” لسوق العمل، وفقا لخبراء المجموعة المالية الأمريكية.
وتؤكد هذا المنحى دراسات مرجعية لنفس المجموعة تفيد بأنه على الرغم من أن 60٪ من العاملين اليوم يشتغلون في مهن لم تكن موجودة في عام 1940، فقد حل تسارع التغيير التكنولوجي مع عقد الثمانينيات من القرن الماضي محل العمال بشكل أسرع مما خلق فرص عمل، ولم تخل دراسة “غولدمان ساكس” الحديثة من نبرة تفاؤلية مفادها أن التغيير في أنماط العمل من خلال الاعتماد واسع النطاق للذكاء الاصطناعي قد يؤدي في النهاية إلى تعزيز الإنتاجية وزيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7٪ سنويا على مدار السنوات العشر القادمة.
وفي أحدث مقال له، يحمل نفس العنوان الذي اخترناه أعلاه، يتساءل الخبير الدولي الفرنسي سيلفان دورانتان مدير مجموعة بوسطن العالمية للاستشارات، ماذا لو كان من الضروري لفهم التحديات الحقيقية للذكاء الاصطناعي، إعادة قراءة “البيان الشيوعي”؟
في ذلك النص التأسيسي الصادر عام 1848، لا يوجد بالطبع أي حديث عن الذكاء الاصطناعي، فالثورة الجارية آنذاك كانت صناعية وليست رقمية، ومع ذلك، فإن التحليل السوسيولوجي للمجتمع الذي قدمه كل من كارل ماركس وفريدريش إنجلز هو الآن بالنسبة لدورانتان في غاية الأهمية أكثر من أي وقت مضى، فالفيلسوفان الألمانيان يؤكدان قبل كل شيء أن “تاريخ المجتمعات لم يكن سوى تاريخ الصراعات الطبقية”، وهو ما ينطبق تماما بحسب الكاتب على ما نلاحظه اليوم داخل الشركات مع صعود الذكاء الاصطناعي.
ويشير دورانتان أنه وفقا لدراسة حديثة أجراها فريقه في 18 دولة وشملت 13000 شخص، وسلطت الضوء على الفجوة المتزايدة حول الذكاء الاصطناعي بين مسيري الشركات والموظفين، “الطبقات المهيمنة” و “البروليتاريا” بتعبير ماركس وإنجلز، ثمة صراع بين اتجاهين: الأول يمثل الموظفين القلقين على وظائفهم، والثاني يتعلق بقادة الشركات الذين يشعرون بطمأنينة أكبر بشأن مستقبلهم، لتخلص الدراسة إلى أنه حينما يتعلق الأمر بالتفاؤل بشأن الذكاء الاصطناعي، يلاحظ وجود فارق قدره 20 نقطة بين هاتين الفئتين!
ويتبلور الصراع الطبقي الناتج عن الذكاء الاصطناعي بحسب الكاتب حول أربعة مواضيع: أولها استخدام الذكاء الاصطناعي، فبينما يؤكد 80٪ من مسيري الشركات أنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي الإنتاجي عدة مرات في الأسبوع، فإن 20٪ فقط من الموظفين يقومون باستخدام هذه التقنية في نفس المدة.
وفي المستوى الثاني، في ما يتعلق بالتدريب على استعمال الذكاء الاصطناعي، فإن الفجوة كبيرة أيضا، حيث يقر 14٪ فقط من الموظفين المستجوبين بأنهم قد تلقوا تكوينا يتناسب مع التطورات الحديثة، بينما يرى 86٪ منهم أنهم بحاجة إلى التدريب على استعمالات الذكاء الاصطناعي في وظائفهم، أما فئة مسيري الشركات الذين تم استجوابهم حول نفس الغرض فتفوق نسبة حصولهم على التدريب حول الذكاء الاصطناعي مثيلتها عند الموظفين بثلاثة أضعاف.
ويشعر الموظفون بالقلق الشديد بشأن كيفية استخدام شركاتهم للذكاء الاصطناعي. فبينما يرى 29٪ من الموظفين أن شركتهم تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول، يبلغ هذا الرقم 69٪ بالنسبة للقادة، وفي مواجهة هذه المخاوف، يطالب 75٪ من الموظفين بمزيد من التنظيم وبالتالي بدور متزايد للدولة، وهو ما يذكر بالتوصيات التي انبنت عليها فلسفة ماركس وإنجلز.
إذن ما العمل؟ يعيد دورانتان تناول سؤال لينين الأساسي، إذ في مجتمع المعرفة، يكمن جزء كبير من الإجابة في التدريب على المهارات، ولنكن واضحين، يقول الكاتب، فالحاجة ليست يومين أو ثلاثة من التدريب على استخدام “شات جي بي تي” أو “دال إي” سنويا، بل تتعلق بالتدريب المستمر على الأدوات التي تتطور باستمرار.
يعد الذكاء الاصطناعي الإنتاجي فرصة لتدريب جميع فرق العمل داخل الشركات على الحوار السريع (البرومبت) مع هذه الأنظمة، والملاحظة الإيجابية بحسب نتائج الدراسة هو أنه عندما تستخدم تلك الفرق الذكاء الاصطناعي، تتضاعف حصة المتفائلين، بينما تنخفض حصة الأشخاص القلقين إلى النصف.
هذا التفاؤل المكتسب بفضل التعامل المباشر مع التقنيات الحديثة، يدعو بحسب الكاتب دائما، إلى ضرورة العمل من أجل تفادي وقوع أزمة بين “برجوازية” الذكاء الاصطناعي، أولئك الذين رأس مالهم هو تدريبهم ومعرفتهم، وبين البروليتاريا الجديدة (النيوبروليتاريا) المفتقدة لتقنيات التعامل مع وسائل الإنتاج الجديدة، والقلقة والتائهة في دورة إنتاج مستقبلية أداتها الأساسية معرفة تقنية تبدو صعبة وبعيدة عن المتناول، ما يزيد من فرص اللامساواة وتفاقم التفاوتات بسرعة فائقة بين النخبة التي تستفيد من المزيد من فرص العمل أو الاستثمارات المجزية، وبقية الفئات ممن لا يرون في الأفق سوى احتمالات الانحدار الطبقي جراء وقوعهم في ظروف “الاستعباد” للأنظمة الرقمية الحديثة كما وقع لأسلافهم في المراحل الأولى للتطور الصناعي عندما واجهوا زحف المكننة وغزو الآلات في مقابل تراجع العمل اليدوي.
وإذن فالرهان الآن، يستنتج الخبير الفرنسي في ختام تعليقه على نتائج الدراسة سالفة الذكر، هو تهيئة الظروف لظهور “طبقة وسطى من الذكاء الاصطناعي”، تشكل الحماية الوحيدة ضد تطلعات “ديكتاتورية البروليتاريا”، وهو الأمر الممكن جدا يضيف دورانتان، في ظل استخدام الشركات بالفعل الذكاء الاصطناعي التوليدي لتدريب الفنيين والتقنيين على الوظائف التي لم يكن بإمكانهم الوصول إليها في السابق.
تعليقات الزوار ( 0 )