شارك المقال
  • تم النسخ

“الدواء” من جنس العمل! في نقد الفلسفة المادية

لم يتوقف الإنسان يوماً عن ملاحقة فضوله الفطري في الاكتشاف والتطلع لما وصل إليه أخوه الإنسان، سواءاً أكان ذلك في مجتمعه، أو حتى في أقاصي الأرض.

وليس بخفي ما شهده العالم العربي والإسلامي من تتابع حركات ثقافية قادمة من الغرب أثرت بشكل واسع في المحيط الإسلامي، ممتدةً لإحداث تغييرات واضحة في تضاريس الحالة الاجتماعية والمعرفية والفلسفية، وكما أن الحديد لا يفله إلا الحديد، فإن ما يحاكي العقل لا يتوقع مواجهته إلا بمقالٍ موازٍ له، وهنا يمكن تناول أحد الاتجاهات الفكرية التي برز أثرها والتأثر بها، وهو الفكر المادي سيما ذو العلاقة بالامتداد التاريخي. إذ تعتبر المادية التاريخية أحد أبرز الأساسات الدافعة بانطلاق الفكر الماركسي نسبة للفيلسوف(كارل ماركس) ، وتثبيت أسسه بحيث لا تزال هذه الفكرة تدرس في المعاهد والجامعات رغم إثبات فشلها بانهيار بنيان النظام الاشتراكي وقصور قوانينه الديالكتيكية.

يعد استمرار التغذية العلمية لمجال ما أثبت هشاشته وضعفه، دليلاً وإشارةً واضحة على اتصاله بفلسفة وفكر، مما يعني وجود حاجة علمية “عاجلة”، وإن هذه الحاجة العلمية حتى تتحدد معالمها الواضحة لا بد أن تغذى بإرهاصات فلسفية تطرح معظم التساؤلات، وتحصر التجاذبات المفاهيمية في سياق منتظم، إذ لم يتفق العلماء على اعتبار “الماركسية” من الأساس نظرية علمية، وبخاصة أنها جاءت في ظرفية علمية “متخمة”، ودُسّت بين ذلك الكم الهائل من النظريات التي كان الغرب يعيش نشوة تحقيقها والنجاح فيها.

وبصورة أقرب، فإن المنهج العلمي يمتاز بما لديه من حزم واتزان ووضوح، بعيداً عن الجدل والتنبؤ والغموض الذي كان يمتاز به فحوى المنهج الماركسي، وبالتالي فإن هناك هوة واسعة بين طرح ماركس و”خط الفوز” بالوصول والموافقة مع المنهج العلمي، وبمعنى أكثر وضوحاً فإن ماركس بنفسه صرح عن جدلية منهجه، في حين أن المنهج العلمي يستبعد كل ما ثبت أنه أقل صواباً ويبدله بالأقرب للدقة، ولا يقبل بالضياع في دائرة الجدل والانقلابات المستمرة، ولا التناقض من أساسه، فالعلم يفترض الاستمرارية لا التغير المفاجئ.

كما أن “عامل الزمن” يعتبر مهماً جداً في تثبيت وتأكيد صحة النظرية العلمية من نسفها، وهذا ذاته ما حصل مع نظرية ماركس المادية، و”حتميته الشيوعية” التي أثبت التاريخ عدم دقتها، إذ لم تتضخم “البروليتاريا”، ولم تنكمش كما وصف طبقة رؤوس الأموال، بل أن هناك تحولات كبيرة حصلت أدت لاختلاف هذه المعادلة من مثل الاعتماد الثوري الجديد على وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتغير ملامح الحركة الصناعية وأدواتها، وإلى جانب ذلك فإن صورة المجتمع المختصرة بين بروليتاريا وبرجوازية لم تتحقق، بل أن هناك طبقة متوسطة فاعلة وتغير مستمر بين الطبقتين المذكورتين في تطور وتراجع.

وعليه، فإن المادية التاريخية كمنظور هيمن على الماركسية الغربية، لا يمكن تعميمه على الصورة التاريخية، لافتقار أساسه في ذات المجال، وإنما يبقى مضمار نجاحه يدور حول التحليل الاقتصادي، وتقديم تحليلي الطبقات الاجتماعية وحسب، فالجدل المادي يؤسس لمنظور من ذات النوع على الامتداد التاريخي، ولا يمكنه بناء مادية تاريخية بهذا التعبير الفضفاض، وبالتالي فإن الأهم إيلاء الجهد البحثي والفلسفي في الجدل المادي الذي يدرس العلاقة بين الطبقات الاجتماعية وتغيرات الاقتصاد، والتفاعل بين طبقات المجتمع، وليس المادية التاريخية .

للفلسفة وجه تثبته أينما وحدت، في إخراج المكنون الفكري تجاه القضايا والثقافات التي تلامس واقع الإنسان، وها هي هنا تعتمد في إثباتها ونفيها على كل ما هو بعيد عن العاطفة، أو القرارات المفاجئة، سيما أن نتاجاتها متأنية ومدروسة ومبنية على تعمق موضوعي ومحايد، وباستخدام أدوات التحليل ومناهج النقد، فالمادية رفضت لما عجت به من صيغة “قسرية”، وقرارات حتمية بالشيوعية، وهذه الحياة تعلمنا أن التغيير هي السنة الثابتة فيها!

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي