عثمان الزياني*
ضحى التواصل السياسي مجالًا متعدد التخصصات، يجمع بين علم الاتصال والعلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع والتسويق. ومن منظور التواصل السياسي أيضًا، تُعَدُّ الديمقراطية حوارًا مدنيًّا، وهي عبارة عن محادثة مستمرة بين القادة أو المرشحين للانتخاب من جهة وبين المواطنين الذين يقودونهم أو يرغبون في قيادتهم من جهة ثانية. وفي هذا الصدد، غدت المناظرات التليفزيونية أحد أكثر الأمثلة المذهلة للتغطية الإعلامية المعاصرة للسياسة، حيث أصبحت تقليدًا إلزاميًّا في الحملات الانتخابية في العديد من الدول الغربية خصوصًا على مستوى الانتخابات الرئاسية، وباعتبارها أيضًا واحدة من أدوات السياسة المعاصرة الأكثر إثارة على مستوى الممارسات التواصلية للديمقراطية. وهذا ما يعزز إلى حدٍّ كبير الفكرة القائلة: إن كل الانتخابات غدت تحركها وسائل الإعلام؛ إذ إن الجزء الأساسي من أية حملة سياسية/انتخابية يحدث في وسائل الإعلام، فقد انتقلت هذه الأخيرة تدريجيًّا من القيام بدور الإبلاغ عن السياسة وما يدور في مجالها إلى لعب دور المشارك النشط في العملية السياسية والانتخابية؛ حيث أصبح السياسيون والمنتخبون يعتمدون بشكل متزايد على وسائل الإعلام في التواصل مع الناخبين، وفي نفس الوقت يتلقى الناخبون معظم معلوماتهم المتعلقة بالمرشحين من خلال وسائل الإعلام، مما منح المناظرات التليفزيونية زخمًا كبيرًا من الأهمية أثناء الحملات الانتخابية.
وعلى قدر أهمية المناظرات التليفزيونية ونبل تعبيراتها ومراميها، استطاعت الانتخابات الرئاسية التونسية أن تقتحم حيزها وأطرها ومقاصدها التي ظلت حكرًا على النظم الديمقراطية، معلنة بذلك عن حدث تاريخي استأثر بالاهتمام الكبير داخليًّا وخارجيًّا، في تأكيد منها على تثبيت دعامات المسار الصحيح للانتقال الديمقراطي، من خلال هذه التجربة الفريدة الدالَّة التي تعبِّر عن الرغبة في تكريس ثقافة انتخابية جديدة وحديثة قائمة على الانفتاح والحوار الديمقراطييْن، وتكريس قيم الشفافية والنزاهة على مستوى استحقاق التنافس الانتخابي الرئاسي. وهي تُعَدُّ بمنزلة دعوة إلى مصالحة المواطنين بالسياسة والسياسيين، وتشكيل وعي انتخابي مبني على حرية الإرادة والاختيار والتقرير على مستوى سلوك التصويت، وهي كلها أمور إيجابية تغذِّي نزعات القطع مع الماضي الاستبدادي وتؤسس لفعل انتخابي حداثي وعقلاني بعيد عن أية وصاية سياسية/انتخابية.
وتحت عنوان عريض ودال “الطريق إلى قرطاج، تونس تختار”، انطلقت المناظرات التليفزيونية(1)، والتي استوعبت مرشحين من مشارب متنوعة، تؤطِّرهم أيديولوجيات متشعبة ومختلفة إلى حد التعارض (إسلامي، ليبرالي، يساري راديكالي، يميني، تكنوقراطي…)، وهو ما لقي استحسان كل المتتبعين، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة سواء من طرف الإعلام التونسي (القنوات العمومية أو القنوات الخاصة، والإذاعات المحلية)، وأيضًا الإعلام العربي والدولي بمختلف مشاربه، وعرفت ردود أفعال منقطعة النظير على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وهي دليل على مدى أهميتها وفرادتها على الأقل في العالم العربي.
إن مقاربة الموضوع تكتسي أهمية بالغة، بفعل مكانة المناظرات التليفزيونية في العملية الانتخابية، وباعتبارها تقليدًا عريقًا في النظم الديمقراطية المقارنة، وبفعل راهنيتها في المشهد السياسي والانتخابي التونسي، مما يجعلها كموضوع للبحث تثير أسئلة كثيرة عن مدى أهميتها، وماهية دلالتها، ومستويات تأثيرها، وإلى أي حد يمكن أن تشكل عاملًا حاسمًا في نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية.
وللإجابة عن هذه التساؤلات، استعان الباحث بالمنهج النقدي الذي يعتمد في استنتاجاته وتعميماته على بعض المقدمات النظرية والوقائع الموجودة والمرتبطة بحدث المناظرات التليفزيونية في حد ذاتها، ومحاولة الابتعاد عن الحدس والتخمينات والانطباعات العامة، والاحتكام إلى الحقائق الظاهرة والكامنة أيضًا، والمعلومات والبيانات المقبولة، والتعليلات المنطقية المرتبطة بدينامية المناظرات التليفزيونية، وما خلقته وأفرزته من حراك سياسي/انتخابي منقطع النظير. ومن أجل دراسة الموضوع ومحاولة تحليله وفق نسق تساؤلاته، قسَّم الباحث الورقة إلى المحاور الآتية: أهمية المناظرات التليفزيونية في الانتخابات الرئاسية، والمناظرات التليفزيونية تمرين ديمقراطي قابل للتطوير والتحديث، ودور المناظرات التليفزيونية في حسم نتائج الانتخابات الرئاسية.
1. أهمية المناظرات التليفزيونية في الانتخابات الرئاسية
إن اعتماد المناظرات التليفزيونية في الانتخابات الرئاسية التونسية من شأنه أن يزيد من اهتمامات المواطنين ومعرفتهم السياسية، بحكم أنها تؤدي إلى تغيير محتمل في المواقف تجاه النظام السياسي أو التأثير على صورة السياسي في حد ذاته؛ مما سيدعم ويعزز أكثر مسار الانتقال الديمقراطي في تونس. كما تُيَسِّر (المناظرات التليفزيونية) عملية الحصول على المعلومات حول مختلف القضايا المثارة للنقاش، والتأثير أيضًا على تصورات الناخبين حول سمات المرشح؛ ذلك أنها تحفز المواطنين للبحث عن معلومات إضافية، والتحدث مع الآخرين حول البرامج والمشكلات والسياسات والأفكار التي تثار داخلها، وهي تجربة معزِّزة للشعور بالثقة في تحصيل هذه المعرفة السياسية وتغذية قدرتهم على المشاركة في العمل السياسي. وقد تؤدي مشاهدة المناظرات وتتبعها إلى تنشيط عدد من الميول المدنية والديمقراطية الكامنة؛ وتعزيز شعور المواطنين بالفعالية السياسية، بما في ذلك فعالية المعلومات السياسية، وتقلِّل في نفس الوقت من السخرية السياسية، وتعزز دعم المؤسسات السياسية، والاهتمام بالحملات الانتخابية الجارية وتحفيز المواطنين على التصويت. وهذا يبرهن على أن تعرض الجمهور للجدل السياسي على مستوى المناظرات الانتخابية التليفزيونية يسهم في إنتاج آثار معرفية وسلوكية لها قيمة كبيرة للعملية الانتخابية الرئاسية.
وعليه، يمكن القول: إن المناظرات التليفزيونية حول الانتخابات الرئاسية في تونس يمكن أن تؤدي وظيفة ديمقراطية قيِّمة، من خلال تمكين الناخبين من تقييم الرؤساء المحتملين وسياساتهم؛ لأنها تساعد على تبسيط اختيارات الناخبين، أو تحفزهم ليصبحوا مواطنين أكثر وعيًا وثقة وإشراكًا. فهي قد تسهم إلى حد كبير في تشكيل الآراء المستنيرة حول المرشحين والسياسات. وإلى جانب التأثير المباشر على تفضيلات تصويت المواطنين، فهي قد تفرز نوعًا من الخيار العقلاني لدى الناخب التونسي، وتؤدي إلى خلق مزيد من الناخبين المطلعين، ويمكن أن تكون مصدرًا مهمًّا لإقناع الناخبين في الأمور المتعلقة بالسياسة بصفة عامة والانتخابات بصفة خاصة، بحكم أنها تصل إلى أكبر عدد من الجمهور، وعلى اعتبار أن هذه المناظرات التليفزيونية استطاعت عبر تاريخ اعتمادها وتطورها وفق نماذج الديمقراطيات الغربية توليد أكبر “جمهور مشاهدة” أثناء الحملات الانتخابية خصوصًا الرئاسية منها؛ ذلك أن المناظرات التليفزيونية تشكِّل دائمًا الحدث السياسي الأبرز والقادر على جذب انتباه المواطن الذي قد يكون منشغلًا بآليات تواصلية انتخابية أخرى، أو قد يكون على الهامش منغمسًا في حالات اللامبالاة السياسية والانتخابية.
وعليه، فالمناظرات التليفزيونية تنتج عنها تأثيرات إيجابية وعلى مستويات مختلفة:
أ- التأثير على المستوى المعرفي: تؤثِّر المناظرات التليفزيونية بشكل إيجابي في التكوين المعرفي لدى المواطنين/الناخبين من خلال اجتثاث أصول معرفية قديمة معيبة، وإحلال محلها معلومات ومعارف جديدة تهم العملية السياسية والانتخابية، وتوفر فرصًا أكبر للتفاعل والمشاركة والتتبع والمراقبة، والتي تترتب عليها سلوكيات انتخابية جيدة تؤثر بشكل إيجابي على العملية الديمقراطية والاستحقاقات الانتخابية، فهي تشمل تغيرات على مستوى المعلومات التي تتشكل لدى الفرد بخصوص العملية الانتخابية، وخصوصًا مجمل الآراء والاعتقادات والمواقف والسلوك، فيما يتعلق بجانب الحملات والبرامج الانتخابية وتكوين معرفة شاملة حول المرشحين، وكون المناظرات دائمًا ما تفرض الاحتفاظ بآراء سياسية أكثر ثباتًا ورزانة وعقلانية ومعرفة المزيد عن المرشحين والأرجح التصويت بشكل صحيح.
ب- التأثير الوجداني/العاطفي: إن من بين الإشكالات التي يعاني منها المواطن التونسي في علاقته مع العملية السياسية والانتخابية هي تشكيل ما يُعبَّر عنه في أدبيات التحليل الماركسي بالاغتراب السياسي، وهي حالة نفسية تعبِّر عن فقدان الفرد للثقة في النظام السياسي ومؤسساته وفاعليه، وما يترتب عليها من إحباط وسخط سياسيين، مما يتسبب في ارتفاع مستويات العزوف السياسي والانتخابي. وعلى هذا الأساس، وبحكم الارتباط المفصلي بين الجانب المعرفي المرتبط بالجانب العقلي والجوانب النفسية، فإن تأثير المناظرات التليفزيونية مسألة واردة إلى حدٍّ كبير، فهي قادرة على إحداث محفزات وجدانية عاطفية إيجابية، بحكم المعارف السياسية والانتخابية التي تتشكِّل لدى المواطن/الناخب، داعمة بذلك مسلكيات إعادة الأمل السياسي، وترسيم إحداثيات التفاؤل السياسي لدى المواطنين، وهي كلها أمور قد تُحدث قطائع مع حالات الشعور باللامعيارية واللامعنى واللاقدرة التي تلازم الجانب الوجداني/العاطفي لدى الناخب، والتي تقوِّض ميولاته الانتخابية الإيجابية.
ج- التأثير السلوكي: من خلال التأثير في مختلف أشكال التصرف والأفعال وردود الأفعال التي يظهرها المواطن أثناء اللحظة الانتخابية نتيجة تأثره بالمناظرات التليفزيونية، فهذه الأخيرة تعتبر بمنزلة محفز إيجابي للسلوك الانتخابي بدرجة أولى، عبرها يمكن تبلور سلوك انتخابي شفاف ونزيه يعتمد في أصوله على المنافسة الحرة بين البرامج، وعبرها يحترم المرشحون مدارك ومعارف المواطنين/الناخبين، وعن طريقها يحسِّن المواطن اختياره بعد نقاشات مستفيضة قائمة على التناظر والحجاج، حيث يسعى كل طرف مترشح إلى إقناع الناخبين بوجاهة مقترحاته وآرائه وبرامجه وخططه في مواجهة مختلف القضايا التي تؤرِّق المجتمع التونسي. إن قيم الحوار الديمقراطي التي تؤسسها وتفرزها المناظرات التليفزيونية يمكن أن تسهم في تقويم مختلف اعوجاجات السلوك الانتخابي التونسي التي تراكمت خلال حقبة من الزمن الاستبدادي الذي كانت تؤطره فروض السلطوية الانتخابية والوصاية الانتخابية وغياب أي إمكانية لحرية الاختيار في انتخاب الرئيس، بالإضافة إلى النفوذ الذي تمارسه سلطة المال في العملية الانتخابية برمتها.
ويبقى الدور الأمثل أيضًا الذي ستقوم به هو أنها ستسهم في فك وتكسير أغلال تابوهات كانت محظورة إلى عهد قريب في تونس وهي قدسية ورمزية رئيس الدولة. وفي هذا الصدد، تقول زينب التوجاني: “رمزيًّا، ستلعب المناظرة بالشكل العمودي الذي كانت عليه تأثيرًا حاسمًا في اللاوعي النفسي الجماعي للتونسيين خاصة صغار السن، فهم يتدربون على عدم تقديس الحكام، بمعنى أن الرئيس المقبل ليس ذلك الأب الذي يحدد القواعد ويفرضها ويضعها. لقد انقلبت العلاقة من أبوية والشعب في موضع القاصر إلى علاقة فيها الشعب ممثَّلًا في موقع الصحفيين يُسائل هذا الواقف أمامه طالبًا أن يحكمه لا بوصفه يملك سيادة من ذاته أو خارج عقد العلاقة بينه وبين المواطنين، بل هو في موقع يطلب الشعب أن يختاره وشرعيته الوحيدة حُسن إجابته وتواصله وإقناعه، مما يؤكد السقوط الرمزي لأبوية موقع الرئيس وانتهاء سلطة المستبد الرمزية النفسية”. وفي نفس السياق، يرى محمد الجويلي أن ميزة هذه المناظرات كونها “تضع مكانة الرئيس موضع تساؤل وامتحان؛ وهذا من شأنه أن ينزع عنه صفة القداسة وصورة الرئيس الذي لا يخطئ مثلما هي موجودة في بيئتنا العربية الإسلامية وذهنيتنا السياسية. لذلك، تضع هذه المناظرة الرئيس في موضع سخرية وتردد عندما لا يجيب بشكل جيد، وهذا كسر للعلاقة بين السلطة المطلقة والحقيقة المطلقة، وهو أهم إنجاز في اعتقادي تحققه المناظرة وكل ما بقي وما زاد على ذلك تفاصيل لا قيمة لها؛ فالقداسة هي التربة التي ينبت فيها الاستبداد”(2).
2. المناظرات التليفزيونية تمرين ديمقراطي قابل للتطوير والتحديث
غدت المناظرات التليفزيونية عنصرًا أساسيًّا في التواصل على مستوى الحملات السياسية المعاصرة، أي أضحت عبارة عن “جزء مؤسسي من مشهد الحملة”، فهي تجذب جماهير أكبر، وأكثر تنوعًا من أي شكل آخر من أشكال التواصل أثناء الحملات الانتخابية، ويجد الناخبون المؤيدون أن مناقشات المرشح مفيدة. كما أن المناظرات التليفزيونية من أكثر مصادر المعلومات قيمة في عملية اتخاذ القرار بخصوص التصويت النهائي. وهذا الأمر قائم في الدول التي خبرت اعتماد هذه المناظرات بطريقة احترافية، أما فيما يتعلق بالتجربة التونسية فهي تعتبر جنينية وفي بداياتها الأولى، وعملية تبيئتها تمت في بيئة انتخابية ورثت الكثير من الاختلالات والاعتلالات التي هي بحاجة إلى التصويب والتصحيح، لأن نجاح المناظرات ليس مرتبطًا فقط بالسياقات الخاصة بالمناظرة، وإنما أيضًا بالسياق العام للانتخابات، فهي بحاجة إلى ديمقراطية مفتوحة تؤمن بالحوار والنقاش والجدال والتداول وثقافة الاختلاف. وعلى الرغم من اعتبار هذه المناظرات حدثًا تاريخيًّا بالنسبة لتونس التي شكلت بدورها مهدًا للثورات الشعبية، إلا أنها في عز الانبهار بها حملت معها جملة من النواقص التي لا تؤثِّر في غاياتها النبيلة، وهذه الهنات قابلة للاستدراك والتجاوز مستقبلًا في حالة التعامل معها بنوع من الحزم والاحترافية، وهذه المثالب لا تفسد لقيمة الحدث وأهميته في حد ذاته، وهذا يدفعنا إلى رصد هذه الاختلالات فيما يلي:
– الاستغراق في الاهتمام بالأمور الشكلية والإجرائية في إنجاز هذه المناظرات على حساب المضمون، وأضف إلى ذلك توقيت المناظرات والفارق الموجود بينها كرَّس حالة من عدم المساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين؛ ذلك أن المرشحين في المناظرة الأولى والثانية استطاعوا تجاوز بعض العيوب التي شهدتها المناظرة الأولى، على الرغم من اللجوء إلى نظام القرعة، مما جعل الكثيرين يطالبون بإجرائها في نفس التوقيت وبثها في نفس اليوم إنصافًا لكل المرشحين.
– إن كثرة عدد المتناظرين سواء بشكل كلي أو على صعيد كل مناظرة على حدة، أثَّر بشكل كبير على تركيز الناخب وجعلته مشتت الذهن، مما أثر بشكل سلبي على محاولة تركيب صورة معقولة ومنطقية عن كل مرشح، حيث يغيب التقييم المنصف والعقلاني، مما فوَّت على المشاهدين أيضًا فرصة المعرفة العميقة والدقيقة لبعض الشخصيات، ليس هذا فحسب بل غياب التفاعل بين المرشحين الذي وقف حجر عثرة في إنجاز مناظرات وفق مفهومها العلمي القائم على أساس التناظر والجدال، والتي تستوجب التسلح بالقدرات الخطابية والتواصلية والإقناعية، من خلال اعتماد أساليب الحجاج والبيان، وتأكيد رجحانية القول ودحض آراء الخصوم والمعارضين، فالمناظرات فرصة تنافسية لتأكيد صحة الرسائل التي يبعث بها المرشحون، وكل مرشح يسعى إلى استبعاد قيمة المعلومات المتعارضة مع وجهة نظره، ويلقي بظلال من الشك على مصداقية المنافسين، ويتجنب التفكير المعقد من أجل كسب الاهتمام واكتساب جاذبية فورية كاستراتيجية مقنعة، من النوع الذي يرتبط عادة بالإعلان والعلاقات العامة. وهذا يتطلب التحلي بالهدوء الضروري في التعبير عن المواقف ومحاولة بلورة حلول وبدائل مقنعة لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو الأمر الذي لا يتولد إلا في حالات التفاعل المباشر، وهذا يدخل ضمن اهتمامات نظرية التفاعلية الرمزية في علم الاجتماع التي تعلي من قيمة التفاعل وجهًا لوجه وما يترتب عنه من نتائج إيجابية تضفي على المناظرة نوعًا من الدينامية، وفيها تتكشف سمات الكاريزما الشخصية لكل مرشح ومختلف قدراته وإمكانياته؛ ذلك أن المناظرات التليفزيونية في الانتخابات الرئاسية التونسية يمكن أن تشجع المواطنين على الإدلاء بأصواتهم على أساس الصورة التي تتشكل لديهم حول المرشح ونمط شخصيته وقياس مدى امتلاكه لسمات القيادة (الناخبون يهتمون أكثر بالخصائص الشخصية للمرشح)، بالإضافة إلى برنامجه طبعًا.
وعلى الرغم من التأكيد دائمًا على تأثير المتغير الحزبي والأيديولوجي والعائلي والقبلي وباقي المؤثرات الأخرى على السلوك الانتخابي، فالمناظرات التليفزيونية تضع النقاش السياسي على المرشحين أنفسهم خلال فترة الحملة الانتخابية، أي إذكاء منسوب “السياسة التي تركز على المرشح”، والتي تشجع المرشحين على أن يصبحوا “صرحاء” مع الناخبين، بمعنى أن تغدو المناظرات بمنزلة كرسي اعتراف، كما تخضع الخلفيات الشخصية للمرشحين وسمات الشخصية للتدقيق من قبل النقاد السياسيين والإعلام أيضًا، وهذا يجب ألا يحجب حقيقة أن يكون تقييم المرشحين على أساس ما يقولون أيضًا، وكذلك على كيفية تصرفهم، وتحركاتهم، وأنماط تفاعلاتهم مع مختلف القضايا المطروحة. وعليه، فعملية صنع القرار لدى الناخبين أصبحت بحاجة إلى أن تسهم المناظرات التليفزيونية في تشكيل وبناء تصورات الناخبين للخصائص الشخصية للمرشحين التي يمكن أن تؤثر على اختيارات السلوك التصويتي للناخبين. إن المناظرات التليفزيونية تجعل السمات الشخصية عنصرًا أساسيًّا في التقييم السياسي الانتخابي، على الرغم من أن العديد من الناخبين قد يقاومون الإقناع، إلا أن المعايير التي يستخدمونها في إصدار الأحكام السياسية تبدو أكثر مرونة؛ ذلك أن المناظرات تجعل الانتباه إلى السمات الشخصية للمرشح في متناول الناخبين بشكل أكبر، مما يجعل الفرد يزن سمات المرشح بشكل أكبر عند إصدار حكم سياسي/انتخابي، مثل تقييم المرشحين أو اختيار التصويت. في النهاية، فإن الحكم على المرشحين هو انعكاس للمعايير التي كان الوصول إليها أكثر إدراكًا، وليس إحصاءً للمعلومات التي حصل عليها الناخب أثناء الحملة الانتخابية. وعليه، يمكن القول: إن المناظرات التليفزيونية قد تسهِّل وتشجِّع خيارات التصويت على أساس جودة شخصية المرشحين.
– اتسام النقاش بنوع من الرتابة نتيجة الأسلوب المدرسي المعتمد في طرح الأسئلة، والإجابات المقدمة من طرف المرشحين التي تمت أيضًا بطريقة روتينية، مما أضفى على المناظرات نوعًا من النمطية خالية من الدينامية والحيوية نتيجة غياب الجدالات المباشرة بين المرشحين، أي التفاعل المباشر بين المتناظرين، وهذا نتيجة أيضًا لطريقة إدارة المناظرة التي لا تفتح المجال للتناظر بين المرشحين، على الرغم من فتح المجال لحق الرد في المناظرة الثانية والثالثة، التي أضفت بشكل محدود نوعًا من الجدال والنقاش.
– هناك أيضًا الجانب المتعلق بمضمون الأسئلة حيث كانت عامة وغير دقيقة بما يكفي، كما شملت الأسئلة بعض القضايا التي لا تدخل في باب صلاحيات الرئيس كما حددها الدستور التونسي، كما أن مقدار الوقت الممنوح للمرشحين مقيد بالنسبة لعدد المتنافسين، ولعل مضمون الأسئلة التي تم طرحها بحاجة إلى وقت كبير خصوصًا عندما يتعلق السؤال بقضايا ذات بُعد استراتيجي مضبوط ومحكم. وما ينطبق على الأسئلة ينطبق أيضًا على أجوبة المرشحين، والتي اعتبرها الكثير من المتتبعين عامة فاقدة للمعنى والرمز (تعويم الإجابات)، ويعوزها المنطق الحجاجي، أي إن كلام المرشحين لم يتسلح بالبراهين والحجج القادرة على إقناع المواطنين، والذي يعبِّر عن غياب رؤية واضحة للملفات والقضايا المطروحة، مما أسقط عددًا من المرشحين في اعتماد نمط الخطاب الشعبوي من أجل استدرار واستمالة الجانب العاطفي والوجداني للمرشحين، وهذا ما يبرز مدى الصعوبة التي واجهها المرشحون في ترتيب أولويات الشعب التونسي.
– كانت المناظرة الأولى خالية من المشاحنات وحافظت على حد أدنى من اللياقة وآداب الحوار والنقاش تقريبًا إلا في حالات قليلة حيث اتهم المنصف المرزوقي (مرشح “ائتلاف تونس أخرى”)، منافسه، وزير التعليم السابق، ناجي جلول (مرشح مستقل)، بـ”الاستيلاء” على نقطة من برنامجه وتتعلق بالماء وبذور الزراعة. وفي رد على حديث جلول عن ضرورة أن يكون الرئيس أيضًا مثقفًا وبأن الرؤساء السابقين لم يكن بينهم مثقف، ردَّ المرزوقي قائلًا: “بلى لقد كان رؤساء مثقفون بتونس”(3).
– من الملاحظ في بداية المناظرات أنه غالبًا ما يحصل نوع من الارتباك لدى الكثير من المرشحين، حيث تميزت بالخروج في الكثير من الأحيان عن مضمون الأسئلة، وظهر عدم التركيز لدى عدد من المرشحين، ثم بعد ذلك حاول المرشحون المتناظرون استدراك الأمر بالعودة إلى شعاراتهم وخطاباتهم السياسية واستظهار مضامين حملاتهم الانتخابية في سبيل الظهور بمظهر جيد في التواصل مع المتفرجين والمستمعين ومحاولة تسجيل نقط لصالحهم تنال رضا الجمهور. وهذا يؤشر بشكل كبير إلى أن عددًا من المرشحين يفتقدون القدرات الخطابية والتواصلية والإقناعية والتي ربما ستلعب لغير صالحهم متى لم يتوفروا على متغيرات أخرى تدعمهم في معركتهم الانتخابية.
وعليه، يجب التفكير مستقبلًا في سبل الارتقاء بالممارسات العملية للمناظرات ومحاولة تجاوز هذه العيوب والثغرات، وذلك وفق مسلكيات تجعلها تضاهي ما هو معمول به في النظم المقارنة، أي تكريس أصول المناظرة الحقة، على اعتبار أنها فعل لغوي وكلامي قائم على التبادلية والتفاعلية ومنتدى للحوار الديمقراطي الذي يعبِّر عن ثقافة الاختلاف، وعن التدافع الحضاري والسجال المثمر في تشخيص الواقع واستظهاره بما يكفل اجتهاد المرشحين في ابتكار الحلول وتقديم أجوبة شافية عن مجمل قضاياه الشائكة. وإذا كانت المناظرات هي عبارة عن خطاب حجاجي، فإن الحِجَاج هو فن الإقناع أيضًا، وعليه وجب السير قدمًا في تجسيد أبجديات المناظرات التي تعبِّر عن قيم الديمقراطية الحوارية والتداولية والعمل على غرسها في العقل السياسي التونسي حكامًا ومحكومين في سبيل القطع مع موروثات ثقافة الاستبداد والتسلط.
وقد يُنظر إلى هيكل المناظرات وتدبيرها الزمني أيضًا من زاوية الحرص الشديد على توفير وقت متساوٍ للمرشحِين الرئاسيِّين أمام الشعب التونسي باعتبارها مسألة منطقية وعادلة، فهي تحرص على توفير الوصول المتساوي للمرشحين وتمكينهم من القدرة عن الإعلان والتعبير عن مضامين برامجهم وآرائهم وتصوراتهم بخصوص مختلف القضايا الشائكة من أجل إعلام وتثقيف الجمهور العام، لكن يجب توخي الحذر بتوفير وقت التحدث مع ضرورة الوعي بإمكانية التحيز الدقيق للإعلام. وعليه، فإنه مستقبلًا يجب إقرار التدابير الوقائية والتصحيحية المتزامنة، التي تُعَدُّ مهمة للغاية أثناء إجراء المناظرات. وبالتالي، وجوب الاستثمار -وعلى قدم المساواة- في البعد الإجرائي للمناظرات من خلال الإعداد والتخطيط الجيد وتمكينها من مختلف الدعامات التقنية واللوجستية، والاجتهاد أيضًا على مستوى مضامين المناظرات عن طريق إعداد أسئلة دقيقة ودالَّة ومعبِّرة والتي تحفز المرشحين المتناظرين على تقديم أجوبة مقنعة بعيدة عن الخطابات التي تنهل من معين الشعبوية، بمعنى الحرص على إنتاج تعبيرات خطابية تحاكي واقع الشعب التونسي ولا تعلو عليه، مع اقتراح وتقديم وعود عقلانية وواقعية، وغير مثالية وبعيدة عن الطوباوية. وعليه، تجب الاستعانة في الإعداد الإجرائي والشكلي، وعلى مستوى المضمون، ببيوت الخبرة وخبراء الإعلام والتواصل والعلوم السياسية للاستفادة من خبرتهم في تجويد طريقة إعداد المناظرات وكيفيات عملها وتسييرها وتدبيرها في سبيل تحقيق أهدافها وغاياتها.
3. دور المناظرات التليفزيونية في حسم نتائج الانتخابات الرئاسية
إن المبرر الذي يتم الاستشهاد به في كثير من الأحيان للاهتمام الكبير الذي يُمنح لمناظرات الحملات الانتخابية الرئاسية أنها تصل إلى جمهور كبير. على سبيل المثال، ما يقرب من 80% من السكان البالغين في الولايات المتحدة شاهدوا أو استمعوا إلى واحدة على الأقل من مناظرات كينيدي-نيكسون لعام 1960، ويظل عدد المشاهدين في المناظرات الرئاسية للانتخابات العامة التليفزيونية قويًّا، عادة في حدود 50 إلى 60 مليون. في الواقع، سجل نقاش كلينتون-ترامب الأول، لعام 2016، رقمًا قياسيًّا في عدد المشاهدين حيث بلغ حوالي 84 مليون مشاهد. ذلك أن المناقشات الرئاسية تستمر دائمًا في توليد أكبر جمهور مشاهدة لأي حدث مرتبط بحملة انتخابية تليفزيونية(4). وبالنظر إلى التجربة التونسية، وعلى الرغم من حداثتها، استطاعت أن تستقطب الكثير من المشاهدين والمتتبعين، بالإضافة إلى ما أعقب هذه المناظرات من نقاشات وردود أفعال إيجابية رغم بروز بعض المآخذ، وبعض الآراء التي قلَّلت من أهميتها، فهي بشكل أو بآخر استطاعت أن تُحدث نوعًا من المصالحة مع السياسة، بحكم أنها خلقت مساحات وفضاءات للنقاشات السياسية سواء على مستوى وسائل الإعلام التقليدية أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الأمر يسهم إلى حد كبير في خلق نوع من الوعي السياسي والانتخابي وتشكيل ثقافة انتخابية جديدة تقطع مع موروثات الثقافة الانتخابية السلطوية في العقل السياسي/الانتخابي التونسي.
وعلى قدر هذه المزايا التي تنتجها المناظرات التليفزيونية نجد ما يقرب من ستة عقود من الأبحاث المنشورة، كان موضوع التحليل الأكثر متابعة في أدبيات النقاش السياسي قد سعى إلى الإجابة على السؤال التالي: “هل تعتبر المناظرات مسألة مهمة في الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية على الخصوص؟” هذا السؤال، الذي يركز على طبيعة تأثير النقاش، ركز بشكل أساسي على متغيرات النتائج الرئيسية لتفضيل المرشح واختيار الأصوات على وجه التحديد، بمعنى يبقى السؤال المطروح دائمًا: هل تؤثر المناظرات على نتائج الانتخابات الرئاسية بشكل حاسم؟ وهذا السؤال الإشكالي بدوره أخذ حيزًا كبيرًا على مستوى النقاش السياسي والأكاديمي والشعبي في تونس، فعلى قدر أهمية وحداثة هذه المناظرات وما تشكِّله من نقلة نوعية في المشهد الانتخابي التونسي على مستوى الانتخابات الرئاسية، فهي تحمل في طياتها مكامن اللبس والغموض ومن الصعب اعتمادها كمتغير حاسم، ومن الصعب التنبؤ بمدى تأثيرها وفعاليتها ومدى قدرتها على ترجيح كفة مرشح على حساب آخر.
وللإشارة، فقد أثبت الكثير من الأبحاث والدراسات أن المناظرات الرئاسية تؤثر على تقييمات المرشحين ونوايا التصويت، وقد أظهرت النتائج أن تقييمات أجهزة الاستقبال لأداء المرشح في المناقشات التليفزيونية تؤثر بشكل كبير على نية التصويت بعد النشر. حيث يؤثر عرض المناظرات على تقييمات الناخبين للمرشحين، بما في ذلك تصورات حول درجة اهتمامهم بالمرشحين، وتقييم صفات القيادة والقدرات الخطابية والتواصلية والبرامج ومختلف التصورات والآراء. وهكذا، يمكن اعتبار أن المناظرات التليفزيونية “تلعب في كثير من الأحيان دورًا مهمًّا ومقنعًا في عملية الحملة”، وهي “ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتغييرات في تفضيلات الناخبين”. إن المناظرات الرئاسية في الحملات الانتخابية تؤثر على تصورات الناخبين حول شخصية المرشحين وتؤثر بشكل كبير على تفضيل التصويت، وهو التأثير الأكثر وضوحًا؛ ذلك أن التواصل عن طريق المناظرات التليفزيونية يمارس أكبر تأثير على قرارات التصويت خصوصًا عندما نجد “أحد المرشحين غير معروف جيدًا، والكثير من الناخبين لم يحسموا أمرهم بعد، أو في حالة ما إذا كانت تبدو المنافسة متقاربة، والولاءات الحزبية ضعيفة”، فعندما يكون عدد أكبر من الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم، فإن تأثيرات المناظرات ستزيد حتمًا إلى أقصى حد. وقد أثبت كل من ميتشيل ماكني (Mitchell McKinney)، وديانا كارلين (Diana Carlin)، هذا المعطى في عملهم البحثي من خلال إجراء تحليل للمناظرات على المستوى الرئاسي، حيث قدَّما بعض بيانات استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب بعد الدعاية والحملات الانتخابية التسع التي شملت مناقشات الانتخابات العامة، يشير إلى أن المناظرات التليفزيونية لعبت دورًا حاسمًا في نتائج أكثر من نصف تلك الانتخابات، بما في ذلك سنوات 1960 و1976 و1980 و2000 و2004. وهذا لا ينفي أن هناك دراسات أخرى فنَّدت هذه النتائج المحصل عليها، واعتبرت أن الحسم في نتيجة الانتخابات مرتبط بمتغيرات وسياقات أخرى لا علاقة لها بالمناظرات التليفزيونية(5).
وارتباطًا بالنموذج التونسي، يرى الكثير من المتتبعين والباحثين بخصوص هذا النموذج أن آثار المناظرات لا يمكن تحديدها على وجه اليقين وتأثيرها سيكون في الغالب نسبيًّا، لأنها ليست واضحة وليست آلية، ولا يمكن عزلها عن عوامل سياقية أخرى. فالأكيد أن استثمار الحملات وفق النمط التقليدي والتي تركز على العمل الميداني والاتصال المباشر بالمواطنين سيكون لها تأثير كبير مقارنة بالمناظرات التليفزيونية التي تظل تقليدًا جديدًا بالنسبة للناخب التونسي الذي لم يستوعب بعد آليات اشتغالها وقياس مدى تعبيرها عن مصداقية المرشحين المتنافسين، مما يجعلها محل شك، كما أن كثرة عدد المرشحين المتناظرين أدخل الناخبين التونسيين في حيرة من أمرهم، وصعَّب عليهم إمكانية التقييم المنطقي والعقلاني لمختلف الطروحات التي تقدم بها المرشحون، وهناك عوامل أخرى مرتبطة بالعامل الحزبي، والرصيد الرمزي والمعرفي والأخلاقي الذي يتميز به بعض المرشحين، وأيضًا نفوذ رجال الاقتصاد والمال والأعمال في الدولة، وإمكانية توظيف المال السياسي، بالإضافة إلى عوامل أخرى قد تؤثر في الفعل التصويتي للناخبين التونسيين، مما يجعل التأثير الرئيسي للمناظرات قد يكون فقط هو إعادة تأكيد للأفضلية التي كانت موجودة بالفعل في ذهن الناخب. ويُنظَر في هذا الشأن إلى أن معظم المواطنين الذين يشاهدون المناظرات قد يفعلون ذلك لتشجيع المرشح الذي يدعمونه بالفعل.
ولكن حتى لو لم يكن للمناظرات تأثير ملحوظ على تفضيلات التصويت للمواطنين الذين سبق لهم الالتزام، فلا ينبغي إهمال تأثيرها على الذين لم يحسموا أمرهم بعد، وقد وجد العديد من الدراسات التجريبية أن المناظرات تساعد الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم أو الملتزمين بشكل ضعيف في تشكيل أو تغيير اتجاهات تصويتهم، لأنه قد يشكِّل هؤلاء المواطنون غير الملتزمين (حتى لو كانوا يمثلون شريحة صغيرة من جمهور مشاهدة المناظرات) شريحة من الناخبين، الذين قد يقررون ويحسمون نتائج الانتخابات لصالح مرشح نال رضاهم أثناء عرض المناظرات التليفزيونية، وهي مسألة ممكنة في ظل احتدام الصراع وتقارب النتائج بين المتنافسين على كرسي الرئاسة.
خاتمة
من خلال مضامين هذه الورقة، يتبين أن المناظرات التليفزيونية تكتسي أهمية بالغة على مستوى الممارسة الديمقراطية بصفة عامة والعملية الانتخابية بصفة خاصة. ففي هذا المقام، تؤشر على أن هناك رغبة قائمة لدى الفاعلين في التغيير السياسي والانتخابي من خلال خلق آليات جديدة للتواصل السياسي/الانتخابي، وإثراء العملية الانتخابية بثقافة سياسية/انتخابية حديثة ترتكز على العقلانية والاستقلالية في الاختيار، كما أنها ستسهم في مأسسة العملية الانتخابية من خلال ربط تفضيلات المواطنين بالبرامج الانتخابية الرئاسية، ومحاولة القطع مع الثقافة الانتخابية المنحصرة في العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية والحزبية أو استعمال المال الحرام، أي التأسيس للثقافة المدنية بعيدًا عن النوازع الفطرية، فهي بدون شك سيكون لها تأثير حتى على مستوى المشاركة السياسية والانتخابية في ظل بروز ظاهرة العزوف واللامبالاة التي تستشري في الجسم السياسي/الانتخابي التونسي. وأما فيما يتعلق بحجم تأثيرها على مستوى نتائج الانتخابات، فهي بدون شك سيكون لها تأثير نسبي بالنظر إلى طبيعة البيئة السياسية والانتخابية التونسية وحجم تأثير باقي المتغيرات الأخرى في السلوك الانتخابي للمواطنين، ولعل نتائج الدورة الأولى من الانتخابات خير دليل على ذلك حيث نجد المترشح “نبيل القروي” مرَّ إلى الدور الثاني من الانتخابات رغم عدم استفادته من المناظرات التليفزيونية بسبب ظروف اعتقاله، في حين قد نعتبر أن المناظرات التليفزيونية لعبت دورًا إيجابيًّا بالنسبة للمرشح الأول، نبيل قيسي، الذي أظهر قدرة على التواصل والإقناع والكلام، ربما أسعفته ومكَّنته من استمالة العديد من الأصوات الانتخابية خصوصًا المترددة. وبالتالي، تبقى مسألة اعتماد المناظرات التليفزيونية كمتغير وحيد ومؤثر حاسم في نتائج الانتخابات الرئاسية غير واردة على الأقل في مرحلة البداية.
لا شك أن البداية قد تكون صعبة للتأسيس لمناظرات تليفزيونية جيدة على مستوى التنافس الانتخابي الرئاسي في تونس، لكن مع مرور الوقت وفي ظل بلورة ممارسات مُثلى وفضلى في إدارتها وتدبيرها وفق الأسس والتقاليد العريقة التي كرستها النظم الديمقراطية الغربية، ستتمكن تونس من تجسيد نموذج قد يشكِّل تجربة نموذجية تغرف منها باقي الدول العربية خصوصًا الدول التي تعيش على إيقاعات وديناميات التغيير الديمقراطي، فالحدث جدير بالتنويه والثناء والاقتداء به، نظرًا إلى المزايا التي يضفيها على الممارسة الديمقراطية خصوصًا في بعدها التواصلي؛ ذلك أن فوائدها لا تقف عند هذه اللحظة، وإنما لها امتدادات، أي إنها ليست لحظية مرتبطة فقط بالحدث الانتخابي، وإنما تسري بشكل إيجابي ومثمر في عجلة السير الديمقراطي، فقط يجب الاستثمار والاجتهاد في تصويبها وتقويمها بما يجعلها في مستوى حجم الرهانات والتحديات الديمقراطية، على ألا تظل مجرد مظهر تواصلي ديمقراطي شكلاني، بل يجب فرض العناية اللازمة على مستوى مضامينها ووظائفها، خصوصًا أن هناك نماذج مقارنة رائدة يمكن الاستفادة منها إلى حد كبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عثمان الزياني، أستاذ باحث في القانون العام والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول، وجدة
مراجع
(1) تم توزيع المرشحين للتناظر خلال ثلاث أمسيات، ثمانية منهم يوم السبت 7 سبتمبر/أيلول، وتسعة يوم الأحد 8 سبتمبر/أيلول، وثمانية يوم الاثنين 9 سبتمبر/أيلول 2019، لمدة ساعتين ونصف الساعة لكل مناظرة تحت عنوان “الطريق إلى قرطاج.. تونس تختار”، وبُثَّت الأمسية على 11 قناة تليفزيونية، بما في ذلك قناتان عامَّتان وعشرون إذاعة. ونُظِّمت المناظرة التي بدأ الإعداد لها منذ مارس/آذار 2019 في مقر قناة “الوطنية” التونسية العامة، ووقف خلالها المرشحون على شكل نصف دائرة أمام منابر اختيرت على أساس القرعة، وفي الوسط صحفيان يُديران الحوار وفقًا للتوقيت المحدد. وطرح الصحفيان أسئلة أعدَّها إعلاميون، وكانت اختيرت بالقرعة مساء الجمعة ورد عليها المشاركون على امتداد ساعتين. وشملت الأسئلة مجالات تتعلق بحقوق الإنسان والأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجية، إضافة إلى تعهدات المرشحين للأيام المئة الأولى من الحكم. انظر: “لأول مرة في تونس: مناظرات تليفزيونية بين مرشحي الرئاسة”، الجزيرة، 8 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 8 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2oqbbbi
(2) انظر: شرف الرياحي ونور الدين بالطيب، “خبراء يقيمون المناظرة الرئاسية: الاختلالات لا تحجب الإيجابيات”، الشروق، 10 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 9 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2os0HYP
(3) انظر: “أول مناظرة انتخابية بتونس: برودة النقاش تقلِّل من الحدث التاريخي”، DW، 8 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 12 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2mWo8sY
(4) Mitchell S. McKinney & Matthew L. Spialek, “Political Debates,” The SAGE Encyclopedia of Communication Research Methods, (2017), 2. “accessed September 12, 2019), https://bit.ly/2piQfDv.
(5) Ibid, 3.
نقلا عن مركز الجزيرة للدراسات
تعليقات الزوار ( 0 )