يقُولُ الشيخُ علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام: ” إنهُ لعجبٌ عجِيبٌ أن تأخُذَ بيدِيكَ كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مَثَلٍ، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ثم لا تجدُ فيه ذكراً لتلك الإمامةِ العامةُ أو الخلافةَ…ليس القران وحدهُ هو الذي أهمل تلك الخلافةَ ولم يتصدى لها، بل السنةُ كالقرانِ أيضا. تركتها ولم تتعرض لها.”(ص،25)
سياقُ هذا القول بحث كتب علي عبد الرزاق في عشرينيا القرن الماضي بمصر، وفي ظروف سياسية كان فيها النقاشُ محتداً حول منصب الخليفة ونظام الخلافة، لكون هذا النظام انتهى بناهية الإمراطورية العثمانية واستقلال الدول التي كانت تحت نفُوذها، والنقاشُ ظهر بسبب طمعِ بعض القادة العرب والمسلمين في تقلُدِ منصبِ الخليفة وإحياءِ نظام الخلافة، فظهرت أصواتٌ مؤيدة لذلك وأخرى معارضة، غير أن صوت الشيخ الأزهري علي عبد الرزاق كان أكثر وضُوحاً من خلال الأطروحة التي دافع عنها في كتابه والتي يعتبر فيها، أن الإسلام لم يأتِ بنظام حكمٍ معينٍ للمسلمين، وأنه ترك لهم حرية أمور دُنياهم ومنها نظام الحكم الذي يمكن أن يكون جمهوريا أو ديمقراطيا أو دستوري أو إشتراكي أوليبرالي، بحسب ظروف وأحوال كل أمة. وفي هذا الإطار يقول علي عبد الرزاق أن المسلمين نظموا دولتهم في شكل نظام سياسي أطلقُوا عليه الخلافة.
لكن جوهر المشكلة عنده، يعود إلى أن الكثير من عامة وخاصة المسلمين يعتقدُون عن يقينٍ أن حكومة الخلافة التي اختارها المسلمون في تاريخهم، دعى لها الدينُ بل إن هذا الدين لا يمكن أن يقوم إلا بها، ومن الواضح أن هذا الإعتقادُ حاضرٌ بشكلٍ واضحٍ في كتب الفقه والحديث وغيرها، حيث يَجمعُونَ بين حفظ الدين والقيام بأمور الشريعة وبين قيام نظام الخلافة، هذا المعنى نجدُه في التعريف الذي وُضِعَ للخلافة حيث يُعَرفُهاَ ابن خلدون في مقدمته بأنها: “خلافةٌ عن صاحبِ الشرعِ في حراسةِ الدين وسياسة الدُنيا”، فالخليفة عندهم ينوبُ عنِ النبي في شؤون الدين والدنيا، يَأمُرُ ويُطاعُ ويُنفِذُ شريعة الله، لقد انتبه علي عبد الرزاق إلى الخلطِ الذي وقع بين صفة الرئاسة الدينية للنبي والزعامة السياسية له، فاختلط عليهم الديني بالسياسي، لذلك انقسموا حول مصدر سلطة الخليفة مذهبين:
أ-فريقٌ ذهب إلى أن الخليفة يستمدُ سلطته من سلطان الله وقوته من قوته.
ب-فريقٌ ذهب إلى أن الخليفة يستمدُ سلطته من الأمة فهي مصدر سلطته وهي التي تختاره.
هذَا الخلافُ في مصدر سلطة الخليفة بَرَزَ واضحاً في التاريخ السياسي للمسلمين، وفي صراعاتهم المذهبية التي كانت تتخذ حركات سياسية تَدعَمُ هذا الخليفة أو تثور على ذاك الخليفة، وهو خلافٌ سنجده كذلك في أوربا عصر النهضة بين أنصار نظرية حق الملوك المقدس، والمصدر الإلهي لسلطتهم، وبين نظرية العقد الإجتماعي والتي تقوم على أن الحكومة أساسها تعاقد واتفاق بين الأفراد، وأن سلطة الملوك غير مقدسة ومصدرها إرادة الشعب.
لقد رفض الشيخ علي عبد الرزاق الرأي الذي يقول أن وظيفة الخليفة واجِبةٌ بالشرع، وأن الخلافة كنظامِ حُكمٍ أوجبتهُ الشريعةُ الإسلاميةُ ودعة له، كما أنه ساق مجموعةً من الأدلةِ والحُجج لدعم أطروحته ووجهة نظره، ولا يخفى علينا ما يمثله موقف علي عبد الرزاق بالنسبة لهذا الموضوع، فالرجل عالم من علماء الأزهر وشيخ جليل وقاضي مرموق في مصر، لهذا فقد أثار كتابهُ زوبعتاً و عاصفتاً لم تهدأ إلا بعزله من منصبه وسحب شهادة العالمية منه، وفيما يلي سنسرد الأدلة التي دافع بها عن موقفه كما جاءت في كتابه:
أ-لا يُوجد دليل من القران على وجوب الخلافة ولم يأتي في القران ذكر لهذه الخلافة كناظمٍ للحكم.
ب-لم يثبت الإجماعُ على الخلافةِ كناظم للحكم منذ تأسيسها، بل إختلف المسلمون فرقا ومذاهب حول كل خليفة بين مؤيد ومعارض.
ج-ليس القران وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقران أيضا، قد تركتها ولم تتعرض لها.
ثم يقول علي عبد الرزاق في عبارة صريحة: “وأنتَ إذا تتبعتَ كُل ما يُريدُونَ الرجُوع اليهِ من أحاديثِ الرسُول صلى الله عليه وسلم لم تجد فيها شيئاً أكثر من أنها ذَكَرَتْ الامامَةَ أو البيعة أو الجماعة الخ مثل ما روى “الأئمة من قريش” و”من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية”. لذلك يصعب أن نجد دليلاً يمكن أن يتخذه حجة الذين يعتبرون أن الخلافة عقيدةٌ شرعيةٌ وحكماً من أحكام الدينِ.
وأعتقِدُ أن على عبد الرزاق إستطاع أن ينتبهَ للطابعِ الدنيوي للخلافةِ من خلال تاريخ الخلفاء والخلافة الإسلامية، مما ينزعُ عنها الصفة العقدية والدينية التي يتمسك بها دعات إحياء هذا النظامِ في الحُكمِ، حيثُ يقولُ: “ذلك أن مَقَامَ الخلافةِ الإسلامية كانَ مُنذُ الخليفةِ الأول، أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، إلى يومِنَا هذا، عُرْضَةً للخارِجينَ عليهِ المنكرِينَ لهُ، ولا يكَادُ التاريخُ الإسلاميُ يعرفُ خليفةً إلا عليه خارجٌ، ولا جيل من الأجيالِ مضى دُون أن يشاهِدَ مصرعاً من مصارع الخلفاء”.
هَذِه النظرةُ التاريخيةُ لتشكل وتطور نظام الخلافة الإسلامية دليلٌ واضِحٌ على أنها ليست من شؤون الدين، ولا تقوم عليها عقيدةُ المسلمين، لأنه لم يثبُتْ أن الإسلام قد إستفاد من هذه الخلافة ولم يظهر أن غيابها قد أضر الدين، بل بالعكس حسب الشيخ على عبد الرزاق نظام الحكم الذي عرفه المسلمون والذي سمي بالخلافة، أضر بالإسلام والمسلمين وجعل من الدينِ مطيتاً يمتطيها َكُلُ طامعٍ في السلطة وكل مستبدٍ بالأمةِ.
وَلنَا في التاريخ العربي الإسلامي أمثلةٌ كثيرةٌ تشهَدُ على الطابع الدنيوي لنظام الخلافة، لم تكن التجربةُ السياسيةُ الإسلاميةُ قائمةٌ على أساس وحدةٍ حقيقيةٍ، لم تكن دولةً موحدةً ولا مدينةً موحدةً، الوحدةُ الدينيةُ كانتْ فقط مِثاَلًا مُتخيلاً لأن الواقِعَ الإجتماعي والتاريخي يشْهَدُ بأن مقولة الإسلام الموحِد كلامٌ شكليٌ ظاهري. أما الواقعُ فلا وجُود فيهِ لوحدةٍ إسلاميةٍ.
كان هُناك تناقُضٌ مُطلقٌ بين أممية الدعوة الإسلامية والقيمُ التي جاءَ الإسلامُ يدعُو لها، وبين تجربةِ الخلافة في تاريخ المسلمين، لقد بقي العامِلُ القبلي تقريباً هو العاملُ المحركُ لهذهِ الخلافة، مما ينفي قيم العدل والمساواة والأخوة في سياسة نظام الخلافة وأن لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، فمُنذُ أول خليفةٍ بعد وفاةِ النبي ظهَرَ العامِلُ القبلي في تشكيل نظام السلطة، حيثُ احتكرت قريش السلطة ضد باقي المسلمين، وحتى بين القرشيين نشأ الخلاف والشقاق وسالت الدماء حول الخلافة.
لذلك يمكنُ أن نستنتج مما سبق بأن الفاعل الأول في الحضارة العربية الإسلامية لم يكن الدين، بما هو مجموعةٌ من القيمِ ومنظُومةٌ عقدية وأخلاقية، وإنما العاملُ المحرك كان مبدأُ السلطة المتمثلةُ في الخلافة والدويلات والممالك المتنازعة والمتصارعة.
لم يكن للإيمانِ الحقيقي أيُ دورٍ في تشكل نظامِ الخلافة، لقد كان مُجردَ شعارٍ ترفعهُ السُلطةُ السياسيةُ أمامَ رعاياهَا لتُبرر حكمَهُمْ، كانت الدول الإسلامية كلها دولاً دنيويةٌ بكل المقاييس، ولم يكن للدين باعتباره منظومة من القيم وجُودٌ حقيقي فيها، كان الخلفاءُ يُقدمُون أنفسهم بكونهم يدافعون عن الدين ويحافظون عليه، وكان هذا مجرد شعار يسوغون به مشروعية أنظمتهم، ولنأخذ مثلاً الخلافةُ الاموية ونطرح سؤالا: ما علاقة الخلافة الأموية بالإسلام؟ وما هي المظاهرُ التي تدل على أن الدولة الأموية كانت تنطلقُ وتسيرُ على هدي القيم الدينية؟ الجواب ليس صعبا فقط يمكن تصفحُ فصلٍ أو فصلين من كتابٍ في تاريخ الخلفاء ودُولهم حتى نكتشف أنها كانت خلافةٌ دنيويةٌ وليست دينية، كانت خلافة غزوٍ وغنيمةٍ وقبيلة، وكذلك الخلافةُ العباسيةُ التي تميزت بإنحلالٍ أخلاقي كبيرٍ تجلى في كثرة الجواري والغلمان وازدهار سوق العبيد ورواج الخمور…، ولم يكن هذا يحرك الخليفة ولا يُنقصُ من سُلطته، مما يدل على أن المسلمين كانوا يرونها نظام حكم دنيوي وليس ديني، لقد كان الدين ولا زال مجرد قناع ووسيلة من أجل السلطة وتحقيق منافع دنيوية.
مراجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع:
-علي عبد الرزاق، الإسلام وأصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة-تونس، بدون تاريخ.
تعليقات الزوار ( 0 )