يعتبر الحق في تقرير المصير من الحقوق المكفولة بموجب قواعد ومبادئ القانون الدولي، فبصرف النظر عن ما يثيره هذا الحق أو المبدأ من جدل حول سيادة الدولة، فإن تطور القانون الدولي أضفى عليه طابع الإلزامية مع وضع حدود له تحول دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو المس بسلامة أقاليمها، بما يتماشى مع مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة المتمثلة في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحماية حقوق الإنسان وتنمية العلاقات الودية بين الأمم.
وقد ظهر الحق في تقرير المصير مع إعلانات الحقوق (إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789)، كما ورد بمبادئ السلم الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ويلسون التي شكلت منطلقا لتأسيس عصبة الأمم سنة 1919، إلا أن عهد عصبة الأمم اتسم بهيمنة العقلية الاستعمارية على مواده الستة والعشرين من خلال تقسيمه للشعوب إلى متحضرة وأخرى غير متحضرة مشمولة بالانتداب والوصاية من طرف الأمم المتقدمة، مما فتح المجال للدول الكبرى (بريطانيا وفرنسا) لشرعنة الاستعمار بصك عهد عصبة الأمم.
بيد أن مبدأ تقرير المصير سيعرف تطورا لافتا بعد التخلي عن نظام عصبة الأمم وتعويضها بهيئة الأمم المتحدة التي تم تأسيسها بناء على مخرجات الحرب العالمية الثانية، وهو تطور أفرز نوعين من حق تقرير المصير؛ خارجي له علاقة بالاستقلال عن الاستعمار الغربي؛ وداخلي مرتبط بحماية الحق في علاقته بمنظومة حقوق الإنسان على المستوى السيادي للدولة، لتظهر في ما بعد أنماط مبلقنة من تقرير المصير كالاستقلال الأحادي الجانب عن الدولة الأم (الانفصال)، وحق تقرير المصير الخارجي للأقليات وغيرها من الأشكال التي انحرفت بالمبدأ عن سياقه وأهدافه الفضلى.
أولا: الأساس المعياري للحق في تقرير المصير
تزامنت مرحلة تقعيد مبدأ تقرير المصير مع إحداث نظام الأمم المتحدة وما تلاها من وضع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك تلك التي يحتكم إليها لحظة الحرب أو السلم، أي أن الحق في تقرير المصير صار مطلبا عالميا بعدما تم تدويله ضمن نسق يقر بعالمية النظام الدولي وكونية الحقوق الإنسانية التي تسري على جميع البشر، فاضطرت الدول الاستعمارية إلى التنازل عن مستعمراتها تحت الإكراه في سياق اتسم بتراجع المركزية الأوربية وصعود الاتحاد السوفياتي كقوة دولية مدعمة لحركات الاستقلال ومحدثة، في الآن ذاته، نوع من التوازن بالنظام الدولي.
وقد تمظهر ذلك، في بادئ الأمر، عبر التنصيص على تقرير المصير بميثاق هيئة الأمم المتحدة (المادة 1 الفقرة الثانية والمادة 55) بصفته مبدأ يهدف إلى تحقيق علاقات سليمة وودية بين الأمم، ثم إقراره ضمن مقتضيات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المادة 21 “إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم.. ويجب ان تتجلى.. بانتخابات نزيهة.. أو بإجراء مماثل”؛ بما يوحي إلى أن الانتخابات هي شكل من أشكال تقرير المصير للشعوب، فنص عليه إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة لسنة 1960، خاصة البند الثاني والبند السادس الذي أشار إلى حدود المبدأ “كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد، تكون متنافية مع مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”، ليتم إضفاء طابع الحق عليه من خلال المادة الأولى (الفقرة الأولى) المشتركة بين العهدين (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
إن هذه المادة المكونة من ثلاثة فقرات أكدت على البعد السياسي (الاجراءات السياسية) والمحتوى الاقتصادي (التصرف الحر في الثروات والموارد الطبيعية) للحق في تقرير المصير، فتبوأت مواد العهدين بما يفيد أنها ضمانة أساسية للاحترام الفعلي للحقوق الفردية والجماعية المضمونة بهما، وقد فسرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في تعليقاها العام رقم 12 على المادة 1 بأن هذا الحق غير قابل للتصرف لجميع الشعوب ولا يمكن فصله عن أحكام أخرى بالعهد وقواعد القانون الدولي، كما يرتب واجبات مقابلة على جميع الدول وعلى المجتمع الدولي، وأشارت أيضا إلى أنه “يجب أن تمتنع الدول على التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والتأثير سلبيا في ممارسة الحق في تقرير المصير”.
وفي سنة 1970 أقرت الجمعية العامة إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة، حيث جعل من تقرير المصير مبدأ من مبادئ القانون الدولي العام، كما أعطى له بعدا أخر يرتبط بسيادة الدول على أقاليمها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ناهيك على أنه وسع من مضمون مبدأ تقرير المصير كي لا يبقى محصورا على حالة الاستعمار، وأقر في مقتضياته على ضرورة “امتناع الدول عن تنظيم أو تشجيع تنظيم القوات غير النظامية أو العصابات المسلحة، بما في ذلك المرتزقة، للإغارة على إقليم دولة أخرى”، بما يكرس للبعد الداخلي للحق في تقرير المصير، وأضاف “على كل دولة أن تمتنع عن إتيان أي عمل يستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي دولة أخرى أو بلد اخر”.
وأعاد إعلان وبرنامج عمل فيينا الصادر عن المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، المنعقد بفيينا سنة 1993، التأكيد في جزئه الثاني (الفقرة الثانية) على الصيغة الواردة في إعلان المبادئ التي مفادها أنه “يجب عدم تفسير (الحق في تقرير المصير) بأنه يرخص أو يشجع أي عمل من شأنه أن يمزق أو يمس جزئيا السلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية للدولة المستقلة ذات السيادة التي تلتزم في تصرفاتها مبدأ تساوي الشعوب في حقوقها وحقها في تقرير مصيرها بنفسها، وبالتالي لديها حكومة تمثل جميع سكان المنتمين إلى الإقليم من دون تمييز من أي نوع”، بما يفيد بأن السلامة الإقليمية والوحدة السياسية أهم قيود هذا الحق.
وفضلا عن ذلك، تضمنته معظم الصكوك الإقليمية في بنودها، كما ورد بالمادة الثالثة (تقرير المصير الداخلي)، والرابعة (الحكم الذاتي) لإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية الصادر سنة 2007. (أنظر في هذا السياق سعيد الصديقي، حق تقرير المصير بين وحدة الدول ودعوات الانفصال، منشور بتاريخ 2/10/2017 بجريدة هسبريس، ومقال تحت عنوان: من تقرير المصير الخارجي إلى تقرير المصير الداخلي، منشور بتاريخ 2017/10/26 بجريدة هسبريس).
ثانيا : الحق في تقرير المصير ومفارقات الواقع الدولي
أفرزت التحولات اللاحقة على إحداث هيئة الأمم المتحدة واقعا دوليا مضطربا بسبب التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال فترة الحرب الباردة، هذا الصراع وظفت فيه جميع الأسلحة الناعمة بما في ذلك التوظيف السياسي لتقرير المصير بغية تقسيم الدول أو إنهاكها في معارك مع كيانات مصطنعة ومدعمة من هذا الطرف أو ذاك، الأمر الذي نتج عنه ظهور العديد من الكيانات الانفصالية التي كانت تهدف إلى الاستقلال عن الدولة الأم، لينتهي المطاف بهذه الكيانات بعد انهيار المعسكر الشرقي، إما إلى التخلي عن خيار الانفصال أو التحول إلى ميليشيات مسلحة مهددة للأمن والسلم الدوليين أو إلى ظهور أنماط جديدة من تقرير المصير من خلال تبني خطاب حقوق الإنسان.
هذا التطور وازاه ظهور ما يعرف في القانون الدولي بالتدخل الإنساني من خلال استعمال القوة العسكرية لإيصال المساعدات الإنسانية للضحايا أثناء الحرب، حيث استعمل بقرارات لمجلس الأمن في حالات العراق (القرار688) سنة 1991 والبوسنة (القرار794) والصومال (القرار670) سنة 1992 (قرارات مجلس الأمن S/Res/688 وS/Res/794 وS/Res/770)، الأمر الذي يطرح الكثير من الأسئلة حول ما إن كان التدخل الانساني ينتهك سيادة الدولة أم أن السيادة تتعلق بحقوق الأفراد وحرياتهم المضمونة بميثاق هيئة الأمم المتحدة؟ وهل هذا التدخل يتم لأغراض إنسانية أم لغايات غير إنسانية؟ ثم لماذا لا يتم استعمال سلطة مجلس الأمن طبقا للفصل السابع للتدخل الإنساني بالسياقات الدولية التي تنتهك فيها حقوق الإنسان بغية تقديم المساعدات الإنسانية للضحايا؟
من جانب أخر، يعتبر حق تقرير المصير من الحقوق التي تتعامل معه القوى الكبرى بسياسة المكيالين، خاصة الاستقلال الأحادي الجانب عن الدولة الأم، وتجسد حالتي إقليم كوسوفو وشبه جزيرة القرم ازدواجية الموقف عند القوى الكبرى، فبينما تعترف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الغربية بالكيان المنفصل عن صربيا سنة 2008، تعتبر روسيا والصين وصربيا والأمم المتحدة بأن كوسوفو هي إقليم لصربيا وبأن الاستقلال الأحادي الجانب غير قانوني وقائم على خرق سافر للقانون الدولي، في حين اعترضت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي على انفصال شبه جزيرة القرم بشكل انفرادي عن أوكرانيا سنة 2014 وانضمامها لاتحاد الروسي.
حيث اعتبر ضم غير مشروع وانتهاكا صارخا للسلامة الأوكرانية وسلامة أراضيها (أنظر رضا فلاح، القانون الدولي لحق تقرير المصير وترجيح البعد الداخلي في مواجهة الانفصال: حالة نزاع الصحراء المفتعل، منشور في مؤلف جماعي صادر عن مركز الدراسات القانونية والقضائية والاجتماعية، سنة 2019)، إن حالتي شبه جزيرة القرم وكوسوفو تكشفان عن انحراف المبدأ من خلال ربطه بالانفصال عن الدولة الأم، لأن ذلك يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر ويفتح المجال للمطالبة بتفعيله في الحالات المشابهة، كما أن الانتصار لطرح الانفصال ومعارضته في نفس الوقت من طرف القوى الكبرى يؤكد بأن هذا المبدأ لا يخضع لمعايير دولية ثابتة.
على غرار ذلك، فإن الواقع الدولي يؤكد بأن الاستقلال الأحادي الجانب للكيانات التي تتوفر على مقومات الدولة (السلطة،الشعب،الإقليم) لا يرتب اعترافا دوليا إلا في حالة الاعتراف من الدولة الأم، فمثلا لم يعترف المنتظم الدولي ببنغلاديش التي استقلت سنة 1971 عن باكيستان إلا في سنة 1974، أي بعد اعتراف باكيستان بها، مع الإشارة إلى أن وضع جمهوريات الاتحاد السوفياتي المتفككة بعد نهاية الحرب الباردة لا ينطبق عليها مفهوم الاستقلال الأحادي الجانب ــــــ رغم أن البعض من هذه الدول اتحدت من جديد في تكتلات إقليمية لدول أوربا الغربية ـــــ لأن التفكك هو تعبير عن إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل الاتحاد أو هو تجسيد لانهار المنظومة بكاملها، ومن مفارقته أنه تبلقن فأنتج دول الأقليات كما حدث بيوغسلافيا السابقة التي تفككت إلى ستة دول وإقليم غير معترف به (كوسوفو).
ينضاف إلى هذه الحالة انفصال جنوب السودان، فهذه الأخيرة انفصلت بمباركة الدولة الأم، حيث كانت السودان أول الدول المعترفة بالكيان الانفصالي، وهي حالة ناتجة عن تسوية سياسية بين طرفي النزاع من خلال الاتفاق على إدارة مرحلة انتقالية تخول جنوب السودان تقرير مصيره إما بالانفصال أو بالوحدة، لكن هذا المخرج السياسي يخفي في حقيقة الأمر إشكالات عميقة مرتبطة بتورط الحكومة المركزية في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من جهة، وبالدعم الخارجي للطرف الانفصالي وضغوطات الأطراف والمؤسسات الدولية على الحكومة المركزية من جهة ثانية، ثم أن هذا الانفصال لم يؤدي إلى الاستقرار والازدهار، بل أضحت جنوب السودان في حالة من الفوضى القبلية والعرقية وغارقة في مستنقع الفقر والتخلف.
ونشير إلى أن حالة جنوب السودان المعروضة أنفا تندرج ضمن ما يسمى بالانفصال العلاجي، أي الانفصال كعلاج للمآسي التي خلفها النزاع المسلح بين الحكومة المركزية والجماعات الانفصالية عبر تسوية قادها الطرفين، لذا فتقرير المصير بهذا الشكل يقع حوله خلاف حول ما إن كان انفصالا ام انتقالا، حيث تتشابه الحالة السودانية مع الحالات التي تمارس فيها السلطة الحاكمة أساليب التطهير العرقي والتمييز العنصري تجاه أحد مكونات الشعب (أغلبية أو أقلية)، فتبادر في ما بعد إلى إطلاق مصالحة وطنية بغية الانتقال إلى دولة المؤسسات والمواطنة الكاملة (حالتي جنوب إفريقيا، رواندا)، ومع ذلك فانفصال جنوب السودان لم يؤدي إلى علاج تلك المآسي بقدر ما أنه عمق جراحها.
ثالثا: التحديات الراهنة للحق في تقرير المصير
كثيرا ما يتذرع أصحاب نزعات الانفصال بمبدأ تقرير المصير، باعتباره حقا يخول لهم تأسيس كيان مستقل بهم، أما مبررات ذلك فهي إما عرقية أو قبلية أو سوابق لا يعتد بها كنماذج للقياس، إنها دوافع معلنة أما الخفية فلها صلة بإرث الاستعمار أو مخلفات الحرب الباردة أو بمشروع فوضوي يبتغي تقسيم الدول إلى دويلات مجهرية، لهذا فمطلب الانفصال يتماشى مع سياسة التقسيم وتكريس الصراعات بين الدول لأسباب قد تكون نفسية أو تاريخية أو لحسابات الزعامة أو لأغراض جيوسياسية ضيقة لا تخدم مصلحة أي طرف، بحكم أنها رهانات خاسرة في عصر يعتمد على التكتلات الإقليمية في شتى المجالات وبناء الوحدة الاقتصادية العابرة للحدود لمواجهة تحديات الألفية الثالثة.
إن الانفصال في مدلوله العام معناه تقسيم الأوطان إلى دويلات متناحرة فيما بينها ببيئة دولية تنحو في اتجاه التكتل الإقليمي والاندماج المشترك والاتحاد المتكامل، فهو نقيض الوحدة الضامنة للتعددية والاختلاف، وتعسف في ممارسة الحق بغية خدمة أجندات دولية تعمل على تفتيت الدول وتفويت فرص التقدم عليها، إنه خطاب يستمد في البيئة العربية جذوره من النزعات القبلية والمذهبية والعرقية، لهذا فإن التصدي لهذا الخطاب يقتضي معالجة الدوافع الداخلية التي أنتجته، ومواجهة العوامل الخارجية المدعمة له بغية احترام حق الشعوب في العيش بكرامة وسلام بعيدا عن أي تأثير خارجي يهدد وحدتها السياسية.
فتبعا لذلك، هناك عدة طرق متعارف عليها دوليا لتقرير المصير التي تنتصر جلها لبعده الداخلي، وأنجعها هي الديمقراطية بشقيها التمثيلي والتشاركي بغية ضمان مشاركة واسعة لجميع السكان، بما في ذلك احترام إرادة الأمة عبر انتخابات نزيهة تفرز مؤسسات تمثيلية لجميع سكان أقاليم الدولة، كما يتجسد عبر نظام الجهوية المتقدمة التي تتيح لسكان الجهات انتخاب ممثلين لتدبير شأنهم العام المحلي عبر مجالس منتخبة مع مراعاة خصوصية كل جهة، ويتجسد كذلك عبر نظام الحكم الذاتي تحت سيادة الدولة الأم، ناهيك على تعزيز فرص التنمية المجالية والعدالة الاجتماعية بغية معالجة الأسباب التي أدت بمطلب الانفصال للبزوغ إلى الواجهة.
جدير بالذكر إلى أن بنية الدول في الوقت الراهن متعددة القوميات وليست تعبيرا عن أمة واحدة متجانسة، فداخل المجتمع المتعدد يتيح الحق في تقرير المصير إمكانية أن يكون الأفراد أحرارا، لكن إذا ما سمح بتطبيقه على عواهنه، فلن يوضع حد للتجزئة وستطالب كل أقلية متمايزة بصفة دولة، وفي هذا السياق لابد من التذكير بكلمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي الذي قال “إذا ما طالبت كل مجموعة عرقية أو دينية أو لغوية بصفة الدولة، فلن يكون للتجزئة حدود وسيصبح السلم والأمن والرفاه الاقتصادي للجميع أبعد منالا بكثير. ويكمن أحد متطلبات حلول هذه المشاكل في الالتزام بحقوق الإنسان” (الأمين العام للأمم المتحدة، تقرير تحت عنوان برنامج السلم: الديبلوماسية الوقائية وصنع السلم وحفظ السلام، مقدم لمجلس الأمن في 31 يناير 1992، A/47/277-S/2411).
ثمة إشكالية أخرى يطرحها “الشعب” الذي يريد تقرير مصيره، حيث تثبت التجربة التاريخية بأنه من الصعب وضع معايير دقيقة لمفهوم الشعب، خصوصا في عصرنا الراهن المتسم بالتنوع داخل الشعب الواحد، ناهيك عن حركيات الهجرة واستقرار الأشخاص وتنقلهم العابر للحدود الجغرافية، ونستحضر هنا فشل الأمم المتحدة في تحديد الهوية، لغاية إجراء الاستفتاء بالصحراء المغربية، حيث واجهتها صعوبات فتخلت عنه؛ ناهيك على أن الاستفتاء بحد ذاته يثير إشكالات قانونية، إذ يفتح المجال لجميع الأقليات أو المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي للمطالبة بإجراء استفتاء الانفصال (حالتي كرديستان العراق وكاطالونيا بإسبانيا سنة 2017)، ثم أنه يعطي حقا لأقلية لتقرر في مصير يهم أغلبية الشعب من قبيل البث في مستقبل وحدة الوطن وطبيعة خريطته المستقبلية.
خاتمة:
إن تقرير المصير، وإن كان حقا من حقوق الإنسان، فإن إعماله بالواقع الدولي يتعرض للتوظيف السياسي، سواء من طرف القوى الكبرى أو من الكيانات الانفصالية التي تتبناه كذريعة لتقسيم الأوطان خدمة لأجندات دولية تسعى إلى الهيمنة والتحكم في خريطة العالم بما يتماشى مع مصالحها الخارجية، لأن دعم مطلب الانفصال مفاده إضعاف الدول من خلال استهداف أحد مكونات قوتها المتمثلة في وحدة أراضيها أو في السيادة والسلامة الإقليمية، كما أن بلقنة تقرير المصير الخارجي تحت مطية حقوق الإنسان يؤدي إلى ميلاد دول مجهرية لا تتوفر على المقومات اللازمة للنهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي حسب ما أثبتته تجربة الدول المتفككة بأوربا الشرقية وجنوب السودان، مقابل ذلك، فإن التصدي لنزعات الانفصال يقتضي حماية منظومة حقوق الإنسان بما في ذلك تعزيز فرص التنمية الاقتصادية وترسيخ البناء الديمقراطي والمؤسساتي للدول على المستوى الداخلي.
مقال متميز ويستحق القراءة لكن يبقى صعب التمييز بين اطروحة الانفصال وبين حق الشعب في تقرير مصيره، وهناك ملاحظة اخرى حول طبيعة النجمة المرفوقة مع الاسم صاحب مقال لكن لم اجد شيء يدل عليها، بالتوفيق
متميز أستاذي