حكمت المحكمة الجزائية السويسرية، قبل أيام، في قضية أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة أكسفورد، طارق رمضان، بالبراءة في التهمة الموجّهة له من امرأة سمّيت “بريجيت” في الإعلام الفرنسي والسويسري، وتحميل المشتكية أتعاب المحاماة التي بلغت 151,000 يورو. وقد امتلأت قاعة المحكمة وخارجها بالقنوات التلفزيونية والصحافيين، وخصوصاً الفرنسيين الذين حضروا الجلسة، ليعود بعضُهم إلى جمهورهم، ويدسّوا كالعادة السمّ بالعسل، بطريقة تظهر المواقف المسبقة وانعدام المهنية والشفافية، وعدم احترام للقانون، ولقرار المحكمة السويسرية، وكأنها محكمة دولة غير ديمقراطية، أو محكمة دولة سائبة تتحكم فيها قوى تسيطر على القانون، وتتلاعب به كما يحلو لأصحابها!
وبينما نقلت القنوات السويسرية خبر تبرئة المحكمة بشكل مهني، ودعت طارق رمضان للحديث عن هذا الحدث الذي يشغل منذ بضع سنوات ليس فقط فرنسا وسويسرا، بل تجاوزه إلى دول كثيرة، مثل بريطانيا التي يدرّس الرجل في جامعاتها وإيطاليا ودول آسيوية وأفريقية، خرجت وسائل إعلام فرنسية لتشوه قرار المحكمة، وتقلّل من أهميته، وتستمر في إلقاء التهم الكاذبة نفسها للمشتكيات، وكأنهم لم يحضروا الجلسة ولم يقرأوا قرار المحكمة السويسرية ولا سمعوا به، وخصوصاً في قناة “بي إف أم” المعروفة بمواقف كادرها التحريري المنحاز والمعادي، رغم أنهم دعوا رمضان إلى القناة لكي يتكلم عن هذا الحدث. وقد تحدّث عن حكم المحكمة المهني الذي استند إلى الأحداث الحقيقية، وتمكّن، بالتحقيقات الواسعة والدقيقة، من الوصول إلى صورة متكاملة لشبكة المشتكية وعلاقاتها بباقي رفيقاتها في فرنسا وغيرها والتي تعود إلى قبل عام 2010، وهو ما أنكرته في بداية الأمر، غير أن الصحافي يتجاهل الحدث الأهم الذي ينتظره الناس، وهو إظهار الحقيقة في هذه القضية، ليقول إن المحكمة قد حكمت لك بالبراءة لعدم وجود أدلة، وإن هذا قرار المحكمة السويسرية، لكن التهم في فرنسا مستمرّة ولم يبتّ فيها القانون الفرنسي. في هذه المقابلة التلفزيونية، كان رمضان في مواجهة ثلاثة صحافيين، بدا أنهم قد تهيأوا وبتكنيك يُعمل به في بعض أجهزة الإعلام، مثل مقاطعة المتحدّث في كل جملة توضيحية، وعدم فسح المجال لإكمال أجوبته لمنع تمرير الحقائق، ولإعادة ترديد الأكاذيب والتهم الملفقة وإلهاء المتحدّث بالإجابة والدفاع عن نفسه، بدل الكلام عن الحدث الأساسي، بهدف ترسيخ الرواية الكاذبة لدى المشاهدين بوصفها حقيقة، رغم أن هذه قد أظهرها القضاء السويسري للتوّ بالأدلّة والاستجواب، وحكم فيها قضاة ليست لديهم مشكلة مع اسم طارق رمضان، كما هو الحال في فرنسا، حتى اضطرّ أن يسألهم مرات عدة وبقوة: هل أنتم صمّ؟ هل تسمعون ما أقوله لكم؟ ومن ثم وجه إليهم الكلام بقوله: أنتم تعرفون، لكنكم تقفون بجانب الطرف الآخر!
ليس قرار العدالة السويسرية قرار تبرئة، لأن التهم لم تثبُت على طارق رمضان أصلاً، ليكون متهماً والقاعدة القانونية الأولى التي لم يحترمها القانون الفرنسي لهذا اليوم، ولم يعمل بها منذ البداية، أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهو ما التزمت به المحكمة السويسرية التي أظهرت حقيقة المشتكية، وتحقّقت من كذب ادّعاءاتها وتناقضات كلامها واحدة بعد الأخرى، بل وصلت إلى كل ارتباطاتها مع باقي المشتكيات من أشكال مختلفة “ممن التقطن” من قبل حلقة سمّاها رمضان نفسه، وتضمّ ممثلة المثلية وصحافيين ومصوّراً مؤيداً لسياسة دولة الاحتلال من المعادين للإسلام ولخطاب الاعتدال والعيش المشترك الذي يطرحه منذ سنوات لحل بعض مشكلات المسلمين الفرنسيين، واندماجهم في المجتمع الفرنسي. في حين يمتنع القضاء الفرنسي عن القيام بإجراءات مشابهة لما قام به القضاء السويسري، كما يمتنع عن تلبية حقّ رمضان برؤية طبيب نفسي، للتأكّد من سلامته العقلية لدحض ادّعاءات المشتكيات من أنه مجنون. ورفضت المحكمة الفرنسية أيضاً حقّ رمضان بالتحدّث إلى القاضي المختصّ بشكل مباشر. لكن، وكما قال في قناة “بي إف أم” إن سبب رفض ذلك كله أن القضاء الفرنسي لا يريد سماع الحقيقة. بل نقل الملف إلى المحاكم السويسرية بشكل ناقص وغير كامل!
انتهت قضية المواطن طارق رمضان في سويسرا، لكن قضية أستاذ الفقه الإسلامي والمثقف الذي طبع المشهد الثقافي الفرنسي بقوة منذ أكثر من ربع قرن لم تنته بعد. لقد قضى رمضان تسعة أشهر في السجن المنفرد وهو مريض، ومن بين ما جرى توثيقه من كلام المشتكيات أنهن ومن ورائهن أقسموا على أن يقبع في الزنزانة لتتحوّل حياته بعد هذه القضية إلى جحيم استمر خمس سنوات. ورغم أن الشرطة الفرنسية وصلت، بعد التحقيقات وبالوثائق وفحص المكالمات التي أجرتها النسوة فيما بينهن، إلى أن الاتهامات هذه كاذبة وملفقة ومختلقة، فإن القضاء وبعض القضاة القريبين من السياسة ما زالوا مصرّين على الاتهامات الموجهة له. لذلك دعا رمضان هذا القضاء إلى الاقتداء بنظيره السويسري، واحترام المعاهدات الدولية التي تنصّ على إمكانية تحويل ملفّات المواطنين الأوروبيين إلى بلدانهم، وهو ما ترفضه المحكمة الفرنسية اليوم. كما دعا وزير العدل الفرنسي إلى الاستجابة لطلب العدالة السويسرية هذا، مؤكّداً أنه لا يزال مصرّاً على إظهار الحقيقة في فرنسا، وأنه مستمرّ في ذلك بثقة وبقدرة. وخاطب المحكمة عبر إحدى القنوات السويسرية بالقول: احكموا على شخصي، لكن انسوا أن اسمي طارق رمضان، لو لم يكن اسمي طارق رمضان لكانت هذه الدعوة قد أغلقت حالاً، سواء في سويسرا أو في فرنسا.
من تابع هذه القضية عن قرب في الإعلام الفرنسي، وعلى الساحة الفرنسية، يقدّر أكثر من أي شخص آخر مدى الأذى والتشويه والتضليل الذي استهدف صورة طارق رمضان، المثقّف المسلم في الرأي العام الفرنسي، وخصوصاً لدى المسلمين، لإسقاطه وإبعاده عن الساحة الفرنسية. ورغم كل ما حصل، لم يرفع طارق رمضان دعوى أو قضية ضد المجموعة التي انكشف أمرها في كل هذه التهم الكاذبة والملفّقة، واكتفى بالقول إنه يتهم الأشخاص الذين يقفون وراء هؤلاء النسوة، لأنهم، وبحجّة كره شخص أو فكرة أو مثقف، ينتهون بدعم مشتكية بشكل أعمى من دون حذر، ومن دون معرفة الحقيقة، يدعمونها لمجرّد أنها امرأة، أو لأن ذلك يتوافق مع التزامهم الأيديولوجي، إنهم عمي بسبب أفكارهم، يتّهمون شخصاً بريئاً ليذهب إلى السجن بتهم كاذبة، اتهمهم لأنهم خطر على الديمقراطية، وعلى المجتمع الديمقراطي، ودولة القانون، وحقوق الإنسان.
*كاتبة عراقية مقيمة في فرنسا
تعليقات الزوار ( 0 )