Share
  • Link copied

الحفاظ على أسوار ومآثر المدن القديمة وإكراه التحضر بالمغرب.. الرباط نموذجا

تعتبر أسوار المدن وأبوابها القديمة تراثا عمرانيا وإنسانيا يختزن تاريخ الحقب السابقة، ويسهم في التميز الثقافي والهوياتي، ومنه ما يدخل ضمن التراث الإنساني العالمي المشترك.

لكن المدن تتسع وتستجيب لمظاهر التحضر وحاجيات المواطن المعاصر، مما يضعها في تحدٍّ بين الحفاظ على تراثها المعماري وخصوصياتها التاريخية وبين الإبداع والانفتاح.

وتظهر جولة بمدينة الرباط مدى التكامل المعماري بين العمارة القديمة، وانسياب التطور في الزمن نحو عمارة العصر الكولونيالي (الاستعماري) الحديث، وبين أشكال العمارة العصرية التي جعلت من المدينة “عاصمة الأنوار”. لكن أحيانا هذا الانسياب نحو العصرنة لا يكون سلسا، ويتطلب مجهودا لتحقيق معادلة المدينة التراثية والعصرية في الآن ذاته.

وتقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” (UNESCO) “يساعد كل من التراث والإبداع على إرساء الأسس اللازمة لنشوء مجتمعات معرفة مفعمة بالحياة وتزخر بأوجه الابتكار والازدهار”.

مدينة الرباط عاصمة المغرب، تسبح فوق تاريخ يمتد لأكثر من 27 قرنا من الزمن، تمتح من الحضارات القديمة، وتوثق للتاريخ الحديث، وهي واحدة من المدن التي تتطور باستمرار. فكيف يمكن الحفاظ على تاريخ المدينة وتراثها والاستجابة للعصر في الوقت نفسه؟

في عام 2012 أدرجت اليونسكو الرباط، بوصفها عاصمة حديثة ومدينة تاريخية وتراثا مشتركا، على قائمة التراث العالمي.

وتعتبر الرباط نتاج حوار بين الماضي القديم والتاريخ العربي الإسلامي والحداثة الغربية. موروثها المعماري لا تخطئه العين، وتعدّ صومعة حسان (التي تعود للعصر الموحدي) بمثابة شامة على جبين المدينة وتدل عليها، ويحيط بها السور الموحدي الذي يطوّق معمارها المتميز بطول يبلغ 2263 مترا مدعما بـ74 “برجا”، ويشتمل على 5 أبواب ضخمة.

بناء إرث للأجيال القادمة

يعتقد المستشار بمجلس جهة الرباط عادل بن حمزة أن الحفاظ على التراث خاصة في جانبه العمراني الذي يتعلق بالمشهد العام، لا يمكن أن يكون محط تناقض مع مسألة العصرنة والتحديث، التي يعرفها المشهد الحضري والعمراني سواء في الرباط أو غيرها من المدن.

ويوضح بن حمزة، في حديث للجزيرة نت، أن ما تفرزه المدارس الهندسية العمرانية الجديدة هو مساهمة في بناء إرث للأجيال القادمة، معتبرا أن لكل مرحلة تمثلها الخاص للمجال وللهندسة والجمالية المعمارية في ارتباط مع الحركية وما تفرضه كل مرحلة تاريخية من إكراهات.

وهذا ما عبّر عنه الخبير في التراث والبحث الأركيولوجي عبد الجليل هجراوي بالقول إن “الهوية الثقافية تشكّل تمييزا للشعوب والحضارات، ولا يمكن العيش من دونها، لكن التوسع الحضري وإبداع بنايات جديدة ضرورة تغدي سيرورة التاريخ”.

وأفاد هجراوي الذي شغل منصب مدير التراث بوزارة الثقافة في وقت سابق، -في حديثه للجزيرة نت- بأن مشكل الحفاظ على التراث تحد عالمي، إذ لا يمكن الحفاظ على كل أشكال العمران التاريخية خصوصا في حالة المغرب ذي التاريخ الغني والمتنوع، وفق قوله.

تراث ومعلمة عصرية

يقول عادل بن حمزة “من باب المنطق أن نميز بين العمارة في سنة 2022 والعمارة قبل ألف سنة مثلا، المهم ألا يكون هذا على حساب ذلك”.

واستشهد بن حمزة بمشروع محطة القطار وسط المدينة (توجد بين نمطين معماريين متكاملين، نمط العمارة الموحدية في الأسوار المحيطة بالمدينة، ونمط العمارة المغربية الكولونيالية الذي تشكل المحطة الحالية جزءا منه). ويعتبر المتحدث ذاته أن هندسة المحطة لم تأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع والتكامل في المشهد العمراني المجاور، والذي يعتبر درسا في الانتقال المشهدي العمراني، حسب توصيف بن حمزة.

وكان شكل البناية الضخم قد أثار الكثير من الجدل والاستهجان، واستنفر حماة التراث لتسجيل مواقف ضد البناية، خصوصا بشأن واجهة المشروع التي تقابل السور الموحدي وتهدّده.

وتوقفت أشغال مشروع إنجاز المحطة الجديدة للقطار “الرباط المدينة”، ولا يعرف لحد الآن مصير البناية.

تعارض مع معايير التصنيف

وكانت منظمة اليونسكو قد عبّرت في وقت سابق عن اعتراضها على طريقة تنفيذ السلطات المغربية لبعض المشاريع المندرجة في إطار برنامج لتطوير العاصمة الرباط، ومن بينها توسيع محطة السكك الحديدية، وذلك بسبب تعارضها مع المعايير التي اعتمدتها المنظمة الأممية لتصنيف المدينة العتيقة للرباط تراثا عالميا للإنسانية.

وقبل المحطة، كان برج محمد السادس (بناية عصرية بأكثر من 50 طابقا بضفة وادي أبي رقراق) الذي يشرف على انتهاء الأشغال به، قد شهد تعديلا سابقا.

وحسب وثيقة لليونسكو، قالت لجنة التراث العالمي إن التدابير المتخذة بشأن التأثير البصري للبرج واندماجه المجالي قد حققت بعض الفوائد. وأضافت أن الحلول المقترحة لامتداد واجهة محطة “الرباط-المدينة” بالمحاذاة مع القديمة هي الأنسب من الناحية المعمارية والفنية، مشيرة إلى أن تفاصيل مشروع ترميم المبنى الأصلي من المحطة سيقدم إلى مؤتمر مركز التراث العالمي، للنظر فيه من قبل الهيئات الاستشارية.

وطلبت اليونسكو، حسب المصدر ذاته، من الرباط الاستمرار في تقديم معلومات عن المشاريع الجارية والمخططة التي قد تؤثر على القيمة العالمية الاستثنائية للمدينة، وأن تقدم إلى مركز التراث العالمي بحلول الأول من فبراير/شباط القادم تقريرا محدثا عن حالة الحفاظ على الممتلكات، لكي تدرسه لجنة التراث العالمي في دورتها الـ45.

التوافق ممكن.. كيف؟

يقترح عبد الجليل هجراوي نظرية الجزء من الكل، ويناقش في حديثه مع الجزيرة نت معايير اختيار الجزء المعبر عن التراث للاحتفاظ به. ويدفع هجراوي بضرورة التقاء الآراء العلمية والمتخصصة في مختلف المجالات ذات الصلة من أجل قرار مشترك.

واعتبر هجراوي أن الإشكال يتمثل في “ما المؤشرات لاختيار الجزء من الكل؟ ومن له الصلاحية للقيام بهذه العملية؟”.

وسجل رئيس جمعية رباط الفتح عبد الكريم بناني، في تدوينة على الصفحة الرسمية للجمعية تحمل توقيعه، أن مآثر الرباط تحتضر، لافتا الانتباه إلى أحد أبواب المدينة “باب الأحد”، الذي اعتبر أن إصلاحه بخس الموروث التاريخي والحضاري والثقافي للمعلمة. وقال “هؤلاء المسؤولون يشتغلون من دون الاكتراث للقيمة الحضارية لهذه المآثر ومن دون الرجوع إلى العارفين بهذا التراث”.

ويعتقد بن حمزة أن التوفيق بين العصرنة والحفاظ على التراث ممكن متى تشبّع المعماريون بعراقة هويتهم الحضارية، ومتى كان المسؤول الذي يصيغ دفتر الشروط على القدر نفسه من الوعي.

يذكر أن المدن التراثية بالمغرب تشهد مشاريع ترميم وتأهيل ضمن “مشروع إنقاذ المدن العتيقة”.

المصدر: الجزيرة

Share
  • Link copied
المقال التالي