Share
  • Link copied

الحرب بين بشاعة القتل وجمالية الابداع

ارتبطت الحرب  بتطور الحضارة الإنسانية  رغم  ما كان يصاحبها  دائما من صورمن مآسي النزوح والضحايا والترمل والجراح والصراخ وأنين الجرحى وأشلاء الموتى . لكن على الرغم من ذلك فهي تختزن في بعض جوانبها جمالية نادرا ما عولجت من جوانب إبداعية.

مجملات الحرب   

إن أي قراءة متمعنة للحرب كظاهرة التصقت بالوجود البشري قبل أن ترتبط بتطور الدولة كركيزة أساسية لتأسيسها ، سيلاحظ  بأن الحرب ارتبطت باكسسوارات  تجميلية للحرب كظاهرة عنيفة وعدوانية  تمثلت في اللباس العسكري الأنيق و الموسيقى العسكرية الحماسية والأوسمة المزركشة والاستعراضات المنظمة  والانضباط العسكري. ولعل هذا ما تعكسه مختلف الاستعراضات العسكرية التي تنظمها مختلف الدول في مناسباتها الوطنية . ولعل هذا المظهر قد تنبه له سلاطين المغرب الذين اقتنعوا بأهمية استعراض القوات العسكرية في إثارة مشاعر الخوف والطاعة لدى الرعية. وقد ظهر ذلك بالخصوص من خلال ما أشار إليه المؤرخ عبد الواحد المراكشي بصدد الاهتمام الكبير الذي كان يوليه الملك عبد المؤمن بن علي الكومي للاستعراضات العسكرية؛ حيث كتب مايلي : قال، أي جعفر الوزير، دخلت على عبد المؤمن وهو في بستان له، قد أينعت ثماره، وتفتحت أزهاره، وتجاوبت على أغصانها أطياره، وتكامل من كل جهة حسنه،وهو قاعد في قبة مشرفة على البستان، فسلمت وجلست، وجعلت أنظر يمنة وشأمة، متعجبا مما رأى من حسن ذلك البستان، فقال لي : يا أبا جعفر، أراك كثير النظر إلى هذا البستان : قلت يطيل الله بقاء أمير المؤمنين والله إن هذا منظر حسن  فقال: يا أبا جعفر : المنظر الحسن  هذا؟                

قلت : نعم، فسكت عني، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة، أمر بعرض العسكر آخذي أسلحتهم       

وجلس في مكان مطل، وجعلت العسكر تمر عليه قبيلة بعد قبيلة وكتيبة إثر كتيبة، لاتمر كتيبة إلا والتي بعدها أحسن منها جودة سلاح، وفراهة خيل، وظهور قوة، فلما رأى ذلك التفت إلي وقال : يا أبا جعفر هذا هو المنظر الحسن، لاثمارك وأشجارك”.

  كما حرص سلاطين المغرب منذ قرون خلت على استخدام الموسيقى العسكرية في بث الحماس وتقوية روح التعبئة، وكذا في اختيار أحسن الألبسة العسكرية لجيوشهم.

 حيث وصف أحد المؤرخين الحملة العسكرية التي قادها السلطان أبو عنان لحرب قسنطينة والزاب كما يلي : “في ضحى يوم الخميس 20 جمادى الأولى عام 757هـ (1356م) برز خارج فاس الجديد الجيش الذاهب إلى إقليم القسنطينة والزاب تحت قيادة السلطان أبي عنان. وقد كان في مقدمة المواكب قواد الجيش من بني مرين والعرب والأندلس والأغزار والوصفان، وكل قائد له عمل ونظامه الخاص، وتميز قواد الأغزار بالطبول والمزامير نظيرعادة الملوك المصريين وجعلوا بأعلى أعلامهم شعارهم الذي هو من خصلة للشعر، وكان سلاح هؤلاء  القواد باستثناء الأندلسيين هو القس الغربية المجلوبة من البلاد المشرقية والمحكم صنعها في البلاد المغربية، أما جموع قواد الأندلس فكانوا يستعملون القسي الفرنجية . وقد ارتدى هؤلاء الأصناف أنواع الأقبية المرموقة بالذهب الإبريز وفوقها المصفحات من الحلل والأنزاق (الرمح القصير) والأثواب البديعة المجلوبة من الشام والعراق منسوقة بها المسامير المذهبة وأيضا الدروع الجيدة الصنع، واختصت خيول الأندلسيين بحسن الترتيب والبراقع البديعة الجمال والجلاجل المذهبة التي تملأ الجو أصوات أجراسها، وجاء بعد هذه الجموع المشاة الأندلسيون عليهم الأقبية المختلفة وفوق رؤوسهم الرتافيل (قلانس مقببة) قد اعتقلوا بالعصي الطوال وثبوا بالأمداس (الجبال) وتقلدوا بالنبابيل وما منهم إلا من حملت عصاه رايه تداعى هباب النسيم، وأثر هؤلاء جاء الوصفان المترجلة قد لبسوا الأقيبة الرائعة واحتملوا السيوف الفائقة ثم العدويون اللابسون لأحسن الثياب ” في حين أولى الأمراء المرابطون أهمية كبرى لاستخدام الطبول في مختلف المعارك التي خاضوها ضد خصومهم وأعدائهم. فقد شنوا كل حروبهم ومعاركهم تحت وقع الطبول التي كانوا يستخدمون أصواتها وقرعها لإدخال الرعب في نفوس أعدائهم وتحميس جنودهم. فقد استخدم الملثمون طبولهم الضخمة لزرع الخوف في نفوس أعدائهم خاصة في الضفة الأخرى من المتوسط الذين كانوا غير متعودين على استعمال هذه الآلات التي كان يفضلون عليها النفخ في الأبواق . وقد ظهر ذلك واضحا في الانتصار العسكري الذي حققته جيوش المرابطين على جيش الملك الإسباني الفونس السادس، حيث كان لاستخدام هذه الطبول دور ساعد على الحسم العسكري في معركة الزلاقة الشهيرة. ولعل هذا ما دأبت عليه الدول العصرية من خلال تكوين فرق موسيقية لمواكبة استعراضات جيوشها أو في تكوين جنودها على الانضباط وتقوية الروح العسكرية.

   -إبداعات الحرب

من الصعب أن يستوعب المرء أن يشكل أتون الحرب بمظاهر القتل فيها ، وتطاير الأشلاء ، وهدير المدافع ، وانتشار الأدخنة ، وسفك الدماء ، ومظاهر الدمار أي شكل من أشكال الابداع  سواء كان شعريا ، أو روائيا ، أو رسما أو نحتا . لكن يبدو أن عنترة بن شداد سبق أن بدد هذا التصور  وهو الذي خبر وطيس المعارك وصهيل الخيل عندما أنشد بيته الشعري الرائع يتغنى فيه بمحبوبته عبلا  قائلا:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل          مني وبيض الهند تقطر من دمي                        

فوددت تقبيل السيوف لانها          لمعت كبارق ثغرك المتبسم  

فهذا البيت الشعري ، الذي يعتبر من أبلغ الأبيات الشعرية التي تضمنها ديوان العرب هو نتاج إبداع لمعركة دوى فيها صليل السيوف ، وتطايرت فيها رؤوس الفرسان. كما أن شعر أبوفراس الحمداني كان نتاج حرب دامية بعد أسره في حرب مع أعداءابن عمه سيف الدولة . أما على المستوى الروائي فتعتبر رائعة تولستوي ( الحرب والسلام )  إبداعا حول حرب ضروس  خلدها   تولستوي من خلال هذه الرواية لتنضاف إليها رواية ارنست همنجواي (لمن تقرع الأجراس) التي لم تكن مجرد رواية عن الحرب الأهلية الإسبانية؛ بل كانت استكشافا عميقا للحالة الإنسانية وسط فوضى الصراع. حيث يعرض همنغواي القارئ إلى الحقائق القاسية للحرب، والصداقة الحميمة بين الجنود، والحماسة الايديولوجية التي تدفع الأفراد إلى القتال. إن أوصافه التفصيلية وعمقه العاطفي لا تصور المشهد المادي للحرب فحسب، بل تصور أيضاً الخبايا الإنسانية والنفسية التي تنبع داخل البشر أثناء أصعب لحظات الحياة . كما تعد لوحة الرسام الاسباني بيكاسو جيرنيكا،  التي  رسمت بأسلوب التصوير الزيتى يتكون من الألوان الأزرق الداكن، الأسود والأبيض ، نتاج  قصف لطائرات النازيين الألمان والقوات الفاشية الإيطالية لهذه المدينة الصغيرة فى الباسك فى شمال إسبانيا عام 1937 لدعم تمرد الجنرال فرانسيسكو فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية حيث  تعرض مأساة الحرب والمعاناة التى تسببها.

كما ألهمت الحرب إنجاز عدة منحوتات بما فيها  النصب التذكاري للجندي المجهول بمدينة نصر الذي شيد على شكل هرم في القاهرة في مصر من تصميم النحات المصري سامي رافع وشُيّد بأوامر من الرئيس أنور السادات، تخليداً للجنود للمصريين الذين فقدوا أرواحهم في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973. كما أن تمثال مدينة آزوف في روستوف أوبلاست في روسيا. يعتبر ترسيخا لذكرى جنود الجيش الإمبراطوري الروسي الذين قتلو خلال الحرب العالمية الأولى. أما في المجال الغنائي فتعتبر أغنية “ زهرة المدائن عن مدينة القدس لفيروز التي ألّفها ولحّنها الأخوان رحباني، عقب هزيمة العرب في حرب 1967 تحفة فنية رائعة  عن ويلات هذه الحرب وطعم النكسة المر. في حين تعتبر أغنية المطربة شريفة فاضل “أم البطل” ، التي كانت من تأليف نبيلة قنديل وألحان علي إسماعيل بعد وفاة ابنها سيد السيد بدير، صرخة إبداعية لفنانة أم ترثي نجلها الشهيد في حرب أكتوبر.  من هنا ستبقى الحرب رغم فظاعتها النفسية والجسدية والتدميرية تشكل مجالا للابداع تذكر دائما بهذه الكينونة البشرية التي تجمع بين الشر والخير وأن تلك اليد التي تمتد للزناد أو الزر للقتل والتدمير قد تمتد أيضا للريشة والقلم والجبص لتخلد إبداعات حول جوهر النفس البشرية في تناقضاتها بين السمو الروحي المتمثل في روح التضحية والفداء  والحضيض البشري المتمثل في القتل والاغتصاب وسفك الدماء.                       

Share
  • Link copied
المقال التالي