Share
  • Link copied

الجهوية المتقدمة في المغرب تحديات الحاضر وآفاق المستقبل

في خضم السعي الدؤوب لتعزيز الحكامة الترابية ودفع عجلة التنمية الشاملة، برزت الرسالة الملكية السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة، التي انعقدت في مدينة طنجة يومي 20 و21 دجنبر 2024، كإطار مرجعي يؤكد على الأهمية القصوى لهذا الورش الإصلاحي الكبير. إذ تعتبر الجهوية المتقدمة من الركائز الأساسية التي يعتمد عليها المغرب لتحقيق اللامركزية الإدارية، وتعزيز المشاركة المحلية في صنع القرار، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى جميع جهات المملكة.

تسلط الرسالة الملكية الضوء على التحديات الكبرى التي تواجه تفعيل الجهوية المتقدمة، بدءا من تأخر تفعيل الميثاق الوطني للامركزية الإدارية، مرورا بضرورة تدقيق الاختصاصات بين الجهات والجماعات الترابية، ووصولا إلى تعزيز الديمقراطية التشاركية وربط المسؤولية بالمحاسبة. كما تطرح الرسالة رؤية واضحة لمواجهة هذه التحديات، مع التركيز على أهمية التقييم الذاتي ووضع خارطة طريق استراتيجية للمرحلة القادمة.

في هذا المقال، سنقوم بتحليل مضامين هذه الرسالة الملكية، التي تعد بمثابة خارطة طريق لتفعيل الجهوية المتقدمة في المغرب. كما سنستعرض السياق العام لهذا الورش الإصلاحي، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، بالإضافة إلى التحديات والإشكاليات التي تعترض طريقه. بالإضافة إلى ذلك؛ سنناقش الرؤية المستقبلية التي طرحتها الرسالة، والتوصيات العملية التي يمكن أن تسهم في تعزيز فعالية الجهوية المتقدمة كأداة لتحقيق التنمية المستدامة والشاملة.

المحور الأول : إطار السياق الاستراتيجي للرسالة

تندرج الرسالة الملكية ضمن إطار استراتيجي واضح يعكس الأهمية الكبرى لورش الجهوية المتقدمة، ليس كمجرد إعادة توزيع إداري، بل كخيار حاسم لتحقيق تحول تنموي شامل. فمن خلالها، يتجلى أن هذا الورش يشكل ركيزة أساسية لتعزيز اللامركزية، عبر منح الجهات صلاحيات أوسع لتنفيذ السياسات العامة بكفاءة وفعالية. كما تسلط الرسالة الضوء على دور الجهوية المتقدمة في تحقيق تنمية متكاملة تشمل مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على الحد من التفاوتات المجالية.

وإدراكا لأهمية التفاعل بين الدولة والمجتمع، تؤكد الرسالة على ضرورة إشراك المواطنين والمجالس المحلية في صياغة وتنفيذ المشاريع التنموية، بما يعزز من الفاعلية التشاركية ويضمن مقاربة أكثر شمولية واستجابة لانتظارات الساكنة.

المحور الثاني : التركيز على الجهوية كآلية للحكامة

يعد أحد المحاور الأساسية التي تطرقت إليها الرسالة السامية هو تأكيد الجهوية المتقدمة كركيزة أساسية للحكامة الترابية، حيث تمثل وسيلة استراتيجية لتحسين فعالية الإدارة المحلية من خلال تعزيز التمكين الإداري والتوسع في الصلاحيات المحلية، مما يتيح للجهات القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات بما يتلاءم مع احتياجاتها المحلية. هذا التوجه يتناغم مع مفهوم الحكامة الجيدة التي تقوم على معايير أساسية من قبيل الشفافية؛ المسائلة؛ الفعالية؛ و المشاركة، حيث تهدف الجهوية إلى تعزيز هذه المبادئ في الإدارة المحلية.

وبذلك، فإن الهدف لا يقتصر على الانتقال من إدارة مركزية إلى أخرى أكثر لامركزية، بل يسعى إلى تطوير نظام إداري تشاركي ومرن، قادر على مواكبة التحديات المعاصرة وتحقيق تحسين مستدام في جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، بما يسهم في تلبية تطلعاتهم ويعزز من فعالية الحكومة في مختلف المستويات.

المحور الثالث : التحديات الهيكلية والمؤسساتية

تتطرق الرسالة السامية إلى مجموعة من التحديات الهيكلية والمؤسساتية التي تعترض تفعيل الجهوية المتقدمة، وتعد هذه التحديات من المحاور الجوهرية لضمان نجاح هذا المشروع التنموي.

  • أولى هذه التحديات هي تفعيل الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، حيث يشدد جلالة الملك في رسالته على أهمية الإسراع في تطبيق هذا الميثاق، الذي يعد خطوة محورية في نقل الصلاحيات الإدارية من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي، ما يتطلب تنسيقا كاملا بين مختلف القطاعات الحكومية لضمان تنفيذ هذا التوجه بشكل فعال.
  • ثانيا، يتجسد التحدي الأكبر في تدقيق الاختصاصات بين الدولة والجهات، مما يستدعي تحديدا دقيقا وواضحا للمهام والصلاحيات الموكلة لكل جهة من أجل تجنب التضارب بين السلطات المحلية والمركزية، وضمان تنسيق فعال بين مختلف مستويات الحكم.
  • أخيرا، يشير جلالة الملك إلى إصلاح التكوينات الإدارية على مستوى الجهات، حيث يعكس الأداء الإداري المتعثر في بعض المناطق الحاجة الملحة إلى تكوين وإعادة تأهيل الأطر البشرية، ما يضمن قدرة الإدارة المحلية على التعامل مع التحديات الجديدة وتحقيق الأهداف التنموية المطلوبة.

المحور الرابع : النموذج الاقتصادي والاجتماعي للجهوية المتقدمة

تعتبر الجهوية المتقدمة، كما أشير إليها في الرسالة السامية، محركا رئيسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث تؤكد الرسالة على أهمية تحفيز الاستثمارات المحلية في مختلف المناطق، وتسهيل الوصول إلى الموارد الاقتصادية الطبيعية التي تتمتع بها بعض الجهات. هذا التحفيز يعد خطوة أساسية لتعزيز القدرة التنافسية للمناطق المحلية، مما يساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام على مستوى الجهات.

وفيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، يشير جلالة الملك إلى ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الجهات، بحيث لا تقتصر التنمية على بعض المناطق دون غيرها، بل يجب أن تشمل كافة المناطق، مما يسهم في تقليص الفوارق المجالية وتحقيق توازن اجتماعي بين مختلف الأقاليم.

أما على مستوى التنمية المستدامة، فقد شددت الرسالة على أهمية مراعاة المعايير البيئية في كافة السياسات المحلية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة، من خلال تبني مبادرات بيئية تهدف إلى المحافظة على الموارد الطبيعية، وضمان التكيف مع التغيرات المناخية بما يساهم في تحسين جودة الحياة في جميع الجهات.

المحور الخامس : التحديات التنموية المستقبلية

في الرسالة السامية، حدد جلالة الملك عدة تحديات تنموية رئيسية يتعين مواجهتها لتحقيق أهداف الجهوية المتقدمة وضمان نجاحها. من بين هذه التحديات، الإجهاد المائي يعد من أبرز القضايا البيئية التي تواجه المملكة، حيث يدعو جلالة الملك الجهات إلى تطوير استراتيجيات مائية مستدامة تلبي احتياجات المياه المتزايدة نتيجة النمو السكاني، مع ضمان الحفاظ على الموارد المائية للأجيال القادمة.

كما تطرقت الرسالة إلى التحولات الاقتصادية العالمية التي تفرض ضغوطا على النمو المحلي، مما يتطلب استراتيجيات اقتصادية مرنة قادرة على التكيف مع التغيرات المتسارعة في الاقتصاد العالمي، بما يعزز القدرة على مواجهة الأزمات الاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة.

وأخيرا، يشير جلالة الملك إلى ضرورة الاستثمار في البنية التحتية على مستوى الجهات، حيث يجب تحسين شبكات النقل، الطاقة، الصرف الصحي، التعليم، والصحة لضمان نمو اقتصادي واجتماعي مستدام في الأقاليم، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وتعزيز القدرة التنافسية للجهات المختلفة.

المحور السادس : إدماج التحول الرقمي

يشكل التحول الرقمي أحد المحاور الجوهرية التي تطرقت إليها الرسالة الملكية، حيث ينظر إليه كأداة أساسية لتعزيز فعالية التدبير المحلي وتحقيق تحديث شامل للإدارة الترابية. فالرسالة تؤكد أن نجاح الجهوية المتقدمة لا يمكن أن يكتمل دون إدماج التكنولوجيا الرقمية في مختلف العمليات اليومية، مما يسهم في تحسين إدارة البيانات وتوفير خدمات أكثر كفاءة للمواطنين. علاوة على ذلك؛ يشدد التوجيه الملكي على ضرورة اعتماد نموذج إدارة محلية ذكية، قائمة على الحلول الرقمية الحديثة، بما يعزز من سرعة وشفافية المعاملات، ويضمن تواصلا فعالا بين الجهات والسلطات المركزية.

وبالتالي، فإن تبني التحول الرقمي ليس مجرد خيار تقني، بل هو ركيزة أساسية لرفع جودة الخدمات العمومية، وتعزيز الثقة بين المواطن والإدارة، وتمكين الفاعلين المحليين من آليات حديثة للتخطيط واتخاذ القرار.

المحور السابع : التركيز على المشاركة المجتمعية

تركز الرسالة الملكية على أهمية تعزيز المشاركة المجتمعية كعنصر محوري في نجاح ورش الجهوية المتقدمة، داعية إلى تجاوز النموذج التقليدي للإدارة نحو مقاربة أكثر تشاركية، تجعل المواطن فاعلا أساسيا في صناعة القرار. ويعد هذا التوجه امتدادا لمبدأ الديمقراطية التشاركية، حيث يهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة في تدبير الشأن العام، وضمان انخراط أوسع للمجتمع المدني في صياغة وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية.

وقد أكدت الرسالة على أهمية إشراك المواطنين في بلورة المشاريع الجهوية لا يعزز فقط من نجاعة التدبير المحلي، بل يرسخ أيضا ثقافة المسؤولية المشتركة، ويدفع نحو حكامة أكثر ديمقراطية ونجاعة، قادرة على الاستجابة الفعلية لانتظارات الساكنة وتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة.

المحور الثامن : التوجه الاستراتيجي لتنفيذ الجهوية المتقدمة

يشكل تنفيذ ورش الجهوية المتقدمة محطة حاسمة في مسار التنمية الترابية، وهو ما تؤكد عليه الرسالة الملكية من خلال إبراز التوجهات الاستراتيجية الضرورية لضمان نجاح هذا المشروع الطموح. ففي هذا الإطار، تشدد الرسالة على أهمية وضع خارطة طريق واضحة المعالم، تتضمن مراحل زمنية دقيقة، لضمان تنزيل هذا الورش وفق رؤية متكاملة. كما تؤكد على ضرورة التقييم المنتظم للأداء، مما يسمح بتكييف الخطط والاستراتيجيات مع التحديات المستجدة، لضمان تحقيق الأهداف بكفاءة وفعالية.

وإدراكا لأهمية التنسيق والتكامل، تدعو الرسالة إلى تكريس منهجية التشاور المستمر بين مختلف الفاعلين على المستويين المركزي والجهوي، لضمان التقائية السياسات التنموية وتعزيز مردوديتها، بما يحقق تنمية متوازنة وشاملة في مختلف جهات المملكة.

المحور التاسع : التحديات الاقتصادية والتكيف مع الأزمات

في ظل عالم يتسم بالتقلبات الاقتصادية والتحديات البيئية المتزايدة، تؤكد الرسالة الملكية على ضرورة تبني نهج مرن يتيح للمغرب التكيف مع الأزمات وضمان استدامة التنمية. فالتغيرات الاقتصادية، مثل الأزمات المالية والتحولات في الطلب على الموارد، تفرض على الجهات والمؤسسات تبني سياسات قادرة على الاستجابة السريعة والفعالة لهذه المتغيرات. كما تؤكد الرسالة على أهمية بناء استراتيجيات تنموية مرنة، تدمج بين التخطيط الاستباقي وإدارة المخاطر، لضمان استمرار المشاريع الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة الأزمات، بما يضمن الاستقرار الاقتصادي والتنموي لكل الجهات.

وفي ختام هذه الرؤية الاستشرافية، تؤكد الرسالة الملكية أن الجهوية المتقدمة ليست مجرد إصلاح إداري، بل رهان استراتيجي لتحول عميق في بنية الدولة ونهجها التنموي. إنها دعوة صريحة للانتقال من التدبير التقليدي إلى نموذج حديث قائم على اللامركزية الفعالة، والابتكار الرقمي، والتنمية المستدامة. كما تسلط الرسالة الضوء على دور المواطن كشريك أساسي في رسم ملامح المستقبل، مما يعزز روح المسؤولية الجماعية، ويضمن توزيعا أكثر عدلا للفرص والإمكانات بين مختلف الجهات. بهذا، ترسم التوجيهات الملكية طريقا واضحا نحو مغرب أكثر توازنا وازدهارا، حيث تصبح الجهوية المتقدمة قاطرة رئيسية لتحقيق تنمية شاملة وعادلة.

*مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

Share
  • Link copied
المقال التالي