الجهاد في الشريعة الإسلامية هو مفهوم جوهري ينبع من مقاصد الشريعة الكبرى، التي تهدف إلى تحقيق العدالة وحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض. وقد عُني العلماء عبر التاريخ بإيضاح هذا المفهوم باعتباره وسيلة لتحقيق السلم والرحمة ونشر العدل، وليس كغاية في حد ذاته. الجهاد، في حقيقته، هو أداة عملية تخضع للنظر الشرعي وفق القواعد الأصولية التي تراعي المصالح والمفاسد، متجنبًا التشدد أو التوظيف الأيديولوجي الذي شاب تطبيقه في العصر الحديث.
في الفقه الإسلامي، يُصنف الجهاد على أنه مسألة فقهية عملية تخضع للضوابط الشرعية المرنة، التي تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الظروف الزمانية والمكانية. الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم، كما نص عليه الفقهاء، ولا يُلجأ إلى القتال إلا إذا دعت الضرورة الشرعية إليه. وقد أوضح ابن القيم رحمه الله هذا المبدأ بقوله: “الأصل في الدماء والعقوبات العصمة، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك”، مؤكدًا أن القتال في الإسلام ليس هو الأصل، بل الاستثناء الذي يأتي لدفع الظلم أو حماية حقوق الإنسان.
الجهاد في التطبيق ينقسم إلى نوعين: جهاد الطلب وجهاد الدفع. جهاد الطلب يتمثل في إزالة العقبات التي تعترض حرية الدعوة، دون اللجوء إلى الإكراه، امتثالًا لقوله تعالى: “لا إكراه في الدين”. أما جهاد الدفع، فهو الذي يُفرض على الأمة في حال تعرضها للعدوان، ويكون هدفه الأساسي هو الدفاع عن النفس والدين والوطن حتى يزول الاعتداء. هذه التصنيفات تعكس الطبيعة العملية للجهاد، حيث يُبنى على أسس تراعي حفظ الأرواح وتحقيق المقاصد الشرعية العليا.
غير أن قرار الجهاد، سواء كان طلبًا أو دفعًا، ليس أمرًا فرديًا أو متروكًا للأهواء، بل هو من الصلاحيات الحصرية لولي الأمر (اي رئيس الدولة بصفته القائد الأعلى للجيش ) ذلك أن الجهاد يحتاج إلى تنظيم وإدارة تُجنب الأمة الوقوع في الفوضى أو التنازع الذي يُضعف قوتها. الفقهاء شددوا على أن الجهاد لا يجوز إلا تحت راية شرعية تجمع المسلمين، (اي خليفة المسلمين ) مصداقًا لقوله تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. هذا التنظيم يحول دون الاستغلال غير المشروع للجهاد، ويحفظ الأمة من الدخول في صراعات لا تخدم مقاصدها الشرعية.
رغم وضوح هذا التأصيل الفقهي، إلا أن العصر الحديث شهد انحرافات خطيرة في فهم الجهاد وتطبيقه. فقد ظهرت جماعات متشددة أعادت صياغة مفهوم الجهاد بطريقة أيديولوجية، وحولته إلى مسألة عقدية مرتبطة بالإيمان والكفر. هذه الجماعات استخدمت الجهاد كأداة لتحقيق أجنداتها السياسية، بعيدًا عن الضوابط الشرعية و نصبتها نفسها (الجهة الشرعية ) القايمة على امر المسلمين !!نتيجة لذلك، تشوه مفهوم الجهاد وأصبح يُنظر إليه كعمل عدواني، بدلاً من أن يكون وسيلة لتحقيق السلام والرحمة.
هذه التحولات أفضت إلى ما يمكن تسميته بـ”فقه المحنة”، حيث أصبح الجهاد معيارًا للإيمان وأداة للتضحية بغض النظر عن المآلات. الجماعات المتشددة تجاهلت الضوابط الشرعية التي وضعها العلماء، مثل اعتبار المآل و ضرورة الموازنة بين المصالح والمفاسد، والالتزام بمقاصد الشريعة في تحقيق العدالة وحفظ الأرواح. هذا التحول أضر بصورة الإسلام، وأساء إلى جوهر مفهوم الجهاد الذي جاء لتحقيق الأمن والاستقرار.
مجمع الفقه الإسلامي الدولي أكد في قراراته، ومنها القرار رقم 207 (22/3)، أن الأصل في علاقة الأمة الإسلامية بغيرها هو السلم، وأن القتال لا يُشرع إلا لدفع العدوان أو إزالة العقبات التي تعترض الدعوة. كما شدد المجمع على أن جهاد الطلب، في السياق المعاصر، يمكن تحقيقه من خلال الوسائل السلمية والدعوية، مستفيدين من التطورات التقنية ووسائل الاتصال الحديثة، مما يغني عن الصدام المسلح.
هذا التوجيه الفقهي يتماشى مع مقاصد الشريعة التي تسعى إلى نشر العدالة، وحفظ الدماء، وتحقيق الأمن. لكن هذا التصور لن يتحقق ما لم تتم إعادة الجهاد إلى موقعه الصحيح كمبحث فقهي عملي يخضع للاجتهاد الشرعي والضوابط الأصولية. إعادة بناء هذا المفهوم تتطلب جهدًا جماعيًا من العلماء والمؤسسات الإسلامية لتوضيح أصوله ومقاصده الشرعية، وبيان الضوابط التي تحكمه، ونشر الوعي حول أهميته الحقيقية.
الجهاد في الإسلام ليس مجرد عمل قتالي، بل هو دعوة إلى الخير والعدل، كما أشار ابن القيم: “إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وبه قوامه، وهو نوعان: جهاد بالنفس وجهاد باللسان، والجهاد بالنفس مقدم على الجهاد باللسان عند التزاحم”. هذا التأصيل يوضح أن الجهاد الحقيقي هو ما يحقق مقاصد الشريعة في نشر الامن و الاستقرار والرحمة، وليس ما يستباح به الدماء أو تُشعل به الفتن.
لذا، فإن تصحيح مفهوم الجهاد هو ضرورة شرعية تواجه الأمة. فالاجتهاد في ضبط هذا المفهوم وتوضيح مقاصده يُسهم في تحقيق التوازن بين مقتضيات الدين ومتطلبات العصر، ويُبرز الصورة الحقيقية للإسلام كدين رحمة وعدل وسلام. بهذا الفهم، يمكن للجهاد أن يعود إلى مكانته كأداة لتحقيق الخير العام، بعيدًا عن الفتن أو المصالح السياسية الضيقة، وبما يُعيد للإسلام صورته النقية بوصفه دينًا يسعى إلى تحقيق العدالة والكرامة الإنسانية.
تعليقات الزوار ( 0 )