شارك المقال
  • تم النسخ

الثقافة: طوق نجاة للمجتمع

مرت ستة عقود على استقلال بلد المغرب، والمشرفون على إدارته لم يفلحوا بعد في تقديم خدمات صحية مشرفة للمواطنين!.. تقارير منظمة الصحة العالمية تقول: إن الوضع الصحي للمواطن المغربي وضع مأساوي، يرثى له من حيث تحسين الولوج إلى العلاجات الأساسية والأدوية، والحرص على تكثيف الاستثمار في الموارد البشرية، والوقاية من المحسوبية والرشوة ومحاربتها، ودعم آليات التمويل.. إلخ.

إنه من المؤسف حقا أن جودة الخدمات الصحية التي تقدمها وزارة الصحة لم تتحسن في خطواتها بل تراجعت القهقري. وقد رأيت بأمي عيني الهول في مستشفى محمد الخامس المركزي بمدينة طنجة، عندما ذهبت لتلقي الإسعافات الأولية وأخذ  صورة شمسية لقدمي اليسرى أصيب بكسور في حادثة سير.

كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل عندما وصلت إلى المستشفى. وبعد أخذ صور الأشعة السينية للقدم المكسورة ، ذهبت إلى غرفة تثبيت الجبس، إذا بممرضة تقول: آسفة، الطبيب المختص في العظام غير موجود، إذهب إلى البيت لترتاح وعد في الصباح الباكر!!!

في الصباح الباكر عندمت وصلت إلى المستشفى، كانت قاعة الانتظار مكتظة بجيش من  المرضى، جالسين ينتظرون دورهم لتلقي العلاج. جلست وسط هؤلاء البؤساء أنتظر دوري.

ولكن أي دور؟!

الانسان المغربي لا يعرف شيئا اسمه انتظار الدور أو المحافظة على النظام!

أسمع في القاعة شجارا، شتما، كلاما بذيئا، صراخا…

أرى أشخاصا يأتون متأخرين فيسمح لهم بالدخول مباشرة إلى مكتب الطبيب ثم ينصرفون، بينما الجالسين في القاعة، فلينتظروا يوما، أو يومين، أو أكثر… لا يهم!!!

كان نصيبي من الإنتظار يوما كاملا لتجبير الكسور بالجبس. حسبت أنني قد انتهيت من هذا الجحيم عندما خرجت من غرفة تثبيت الجبس، فإذا بالممرض ينادي علي:

لا تنسى الشهادة الطبية، وهو يشير إلى غرفة مكتوب على بابها: مكتب منح شهادة طبية. هممت بالدخول فطلب مني السيد الواقف قرب الباب: عليك بالانتظار، فالممرض مشغول مع شخص آخر. جلست على مقعد أنتظر.. أنتطر.. وطال الانتظار!

عقارب الساعة تشير إلى ما يقارب الخامسة!..

يا إلهي!..

ما بال هؤلاء القوم وماذا أصابهم!..

بينما كنت شاردا بأفكاري، أتأمل فيما رأيت اليوم وسمعت، نادى علي أخ الزوجة، كان برفقتي:

تعالى.. لقد أذن لنا بالدخول!

جلسنا إلى جانب مكتب كبير، يجلس وراءه سيد ببذلة أنيقة، استقبلنا ببسمة ساخرة، لا تسر الناظر. يمسك بيده قلما وورقة ، سألني بلهجة غير سليمة: عبارات باللهجة المغربية ممزوجة بعبارات فرنسية:

كم من يوم تريد أن أملأه لك في الشهادة؟

فكرت قليلا وقلت له:

والله لم أفهم ما تقصده بقولك، هل وضحت أكثر ما تقصده؟

بادر أخ الزوجة بقوله:

فلنقل شهرا وعشرة أيام…

أجابه الممرض:

لا، أمنح له شهادة طبية، مدتها خمسة وعشرون يوما!..

لكن إذا أردت المدة التي اقترحها صاحبك، فهذا وضع آخر، نستطيع تدبيره. طبعا هو يقصد بالتدبير أن نرشيه ليمنح لي شهادة طبية بحسب اقتراح أخ الزوجة!!!

إن تجربتي هاته شهادة أمام التاريخ على فساد قطاع الصحة في هذا البلد البائس، بل حتى النخبة المثقفة والسياسية، أغلبيتها مشغولة بمصالحها الشخصية الضيقة، لا يهمها ما يحدث في البلد. وفي هذه الحالة ينطبق على المجتمع ما يسمى  (لا فعالية) أو (لا ثقافة).

وحتى لا يبقى كلامي مبهما وغير واضح، أحاول أن أشرح ما أقصده هنا بشيء من التوسع.

لا شك أن لفظة الثقاقة يساء فهمها واستخدامها في المجتمع المغربي. فهي مشكلة واقع الانسان المغربي، سلوكه وأسلوبه للحياة. فالمثقف ليس هو الذي يتفوه بكلمة فرنسية أو كلمتين أو حتى جملة أو جملتين كما أسمعها لي ممرض مكتب منح شهادة طبية، فهذا يسمى متعلما وليس مثقفا.

ثمة فرق جوهري بين المتعلم والمثقف…

كتب الباحث الإجتماعي مالك ابن نبي في إحدى مقالاته الصحفية عن مشكلة الثقافة، فيقول:” إن العلم يعطي المعرفة، إنه يعطي اللباقة والمهارة، وفقا للمستوى الإجتماعي الذي يتم عليه البحث العلمي، والعلم يعطي امتلاك القيم التقنية التي تولد الأشياء.

والثقافة تعطي العلم، إنها تعطي السلوك والغنى الذاتي الذي يتواجد على كل مستوات المجتمع، والثقافة تعطي امتلاك القيم الإنسانية التي تخلق الحضارة.

الثقافة والعلم ليسا مترادفين.

الثقافة تولد العلم دائما، والعلم لا يولد الثقافة دوما، ولا يمكن استبدال أحد هذين المفهومين بالآخر. إن هذا التمييز أساسي، أولا لدى وضع برنامج يهدف إلى الإرتفاع بثقافة بلد ما إلى أعلى مستوى من مستوات الحضارة، وثانيا في فهم الظواهر الإجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية”.

لم يحارب المجاهدون المستعمر الفرنسي والإسباني في المغرب بالمعرفة التي تتمتع بها النخبة، وإنما بالادراك والوعي الذي وجد على المستوى الشعبي في مواجهة الاستعمار. فالمجاهد عبد الكريم الخطابي مثلا، لم يواجه الاستعمارالاسباني بالعلم، وإنما واجهه بثقافة تخليص العباد والبلاد من قبضة المستعمر الظالم. وهذه الثقافة جسدها ذلك الفلاح البسيط والراعي والمزارع، عندما تسلم بندقيته وانضم إلى صفوف المجاهدين لمحاربة المستعمر.

ظل المجاهد الخطابي وفيا لروح الشهداء الذين قضوا نحبهم في المعارك، وعارض وثيقة الاستقلال التي وقعتها النخبة السياسية المفاوضة مع المستعمر، معارضة شديدة، لأن ضميره يأبى الاستهتار بدماء الشهداء.

هذا الوفاء لتضحية الشهداء هي قيمة من القيم الانسانية، لم يكن المجاهد الخطابي يملكها لولا الثقافة التي خلقت لديه جهاز المراقبة، يراقب به ذاته كي لا يتاجر بدماء الشهداء، كما فعل الآخرون عندما وقعوا على وثقية رخيصة، منحت امتيازات اقتصادية وثقافية للمستعمر الفرنسي دون قيد ولا شرط، لم يكن يحلم بها. امتيازات شوهت ومسخت هوية الانسان المغربي وشخصيته، وفسدت روحه، وبالتالي أغرقت المجتمع كله في فوضى عارمة، لا يعرف كيف يخرج منها سالما، منذ أن وقع على تلك الوثيقة المشؤومة إلى وقتنا الحالي.

ما رأيته في مشتشفى محمد الخامس بمدينة طنجة هي نتيجة هذه الفوضى، والسيد الممرض مانح الشهادة الطبية بلسان مشوه وأخلاق فاسدة، هو عينة من عينات هذا المجتمع الذي تسوده (اللا ثقافة).

الثقافة بمفهومها التاريخي – على حد تعبير مالك بن نبي – هي التي تخلق الانسان الذي يراقب، ويراقب ذاته بادىء الأمر.  تخلق الإنسان الذي يبحث عن تناسق بين عالم الظواهر وعالم الداخل، بين مراقبة الذات والأوضاع الاجتماعية. بكلمة أخرى، النظرة التي تسمح للإنسان أن يسيطر على ذاته، وأن يسيطرعلى الأشياء التي ابتدعتها عبقريته.

فالموظف عندما يذهب إلى عمله، يذهب بروح تأديته بتفان وأخلاق وبلسان سليم يفهمه المواطن، وفي هذه الحالة نستطيع أن نقول:

إن هذا الموظف له ضمير حي، غير طماع، يمقت المحسوبية والرشاوي.. بكلمة مختصرة، له أخلاقيات المهنة وأنه مثقف.

وكذلك السياسي الذي يتولى تدبير شؤون البلد لا بد له من ثقافة أخلاقية مراقبة، تعصمه من زلات وانحرفات في السلوك والعمل. فالثقافة ببعدها الإجتماعي والنفسي هي طوق النجاة من أوحال الفساد وبراثين الاستبداد والظلم.

إن الأحداث التي عصفت بالعالم العربي في العقد الماضي (الربيع العربي كما يسمى في الاعلام) أزاحت مستبدين من الوجود، واقتلعت جذور كراسيهم. ولكن يبدو أن مجتمعات عالم العرب لم تنضج بعد، لتتحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية. في مصر حدث انقلاب عسكري طاغي لم يرحم الانسان المصري. اليمن أغرقت في حرب أهلية، تذكي شعلتها المذهبية السنية والشيعية المقيتة. وقس على ذلك حالة ليبيا.

ينبغي ألا نكون بسطاء وسطحيين في تحليلنا لهذه الأحداث، لأن مشكلة الانسان العربي المسلم، هي مشكلة نضج ووعي تاريخي. ليس من السهل عليه أن يحدث تغييرا في المجتمع بثورة أو انتفاضة، بل الأمر يحتاج منه أن يحدث انقلابا في عقله وتصوره، كي تتبدل نظرته للأمور.

هذا التغيير هو أصعب من إحداث مائة ثورة، لأن رتابة روحه وجمود عقله ضاربة في جذورالزمان، منذ أن حاول الإمام الغزالي إصلاح المجتمع، فباءت محاولته بالفشل كما تشير الأبيات الشعرية المشهورة التي أنشدها على إثر خيبة أمله في الاصلاح:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل

وعدت إلى تصحيح أول منزل

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه

منازل من تهوى رويدك فانزل

غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد

لغزلي نساجا فكسرت مغزلي

يقول القائمون على إدارة شؤون وسياسة بلد المغرب عبرأبواقهم الإعلامية: إن البلد يتمتع بوضع مستقر مقارنة ببلدان الشرق الأوسط. ونحن لا نختلف معهم ويجب أن نحافظ على هذا الوضع ونقدر هذه النعمة…

ولكن هل تجدي هذه التصريحات التي توهم البسطاء من الشعب بأن البلد مستقر وهو بخير؟! بينما البلد مشلول اقتصادية واجتماعيا وثقافيا!

قطاع الصحة المنخور بالفساد، لا يعالج فقط باستقرار البلد، بل يحتاج إلى نخبة متشبعة بالوعي التاريخي، ومتسلحة بمعرفة واقع الانسان المغربي ومشاكله النفسية والإجتماعية. نخبة يجب أن تكون خطة إصلاحها على هدي هذه الشرعة السماوية: “غير نفسك تغير التاريخ”.

لا بد لهذه النخبة أن تبدأ من نفسها، وإذا حصل لها هذا المبدأ، كانت لها الإرادة والقدرة على التفاعل مع الشعب، وذلك عندما تكشف عن الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها  المجتمع، من تخلف وسلبية ولافعالية، وبالتالي تضع خطة منهجية للحلول، مدعمة  بالسياسة واتخاذ  القرارات. بكلمة أخرى، هناك علاقة تبادلية بين الثقافة والسياسية. السياسي يراقب سلوكه بفضل جهاز المراقبة الذي اكتسبها من الثقافة.

إن مشكلة تخلف الشعب، لا تعالج بكلمات أدبية أو خطابية، إنما بتغييرما بالنفس، يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تحترم كرامته، وحينئذ يرتفع عنه طابع القابلية للاستعمار – بتعبير مالك بن نبي -، مع أننا نعلم علم القين أن اللوبيات المتحكمة بمصير البلد ستعمل على تخريب كل خطة تهدف إلى الإصلاح والتغيير.

الأزمة السياسية الحالية في المغرب سببها أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تحكم الظاهرة السياسية، والتي تحتم علينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في آن واحد، وفي هذا – كما سبقت الاشارة – دلالة على ما بين تغيير النفس وتغيير الوسط الاجتماعي من علاقات وطيدة ومتينة، أو كما قال الكاتب الاجتماعي السياسي الأمريكي (بيرك):” إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها”.

*كاتب مغربي مقيم في هولندا

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي