جرت عادة الهيآت الحزبية والنقابية والثقافية والمهنية للتعبير عن آرائها والإعلان عن مواقفها إلى اللجوء إلى إصدار بيانات وبلاغات خاصة، وبمجرد الإعلان عن تلك البيانات، فإنها تصير في ملك الباحثين والدارسين والمهتمين من أجل دراستها واستكناه مضامينها وفق مقاربات متعددة وزوايا نظرٍ مختلفة، وهذا ما سنعمل عليه في قراءتنا لبيان التنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي الصادر عن المجلس الوطني بتاريخ 28 أكتوبر 2023.
وقبل الشروع في هذه القراءة، نشير إلى أمرين اثنين، أولهما: تعرف الساحة التعليمية عددا لا يستهان به من التنسيقيات التي أفرزتها احتقانات في صفوف الفئات المنتسبة إلى القطاع، لعلها تتجاوز خمس عشرة تنسيقية فئوية، وهذا يدل على التشرذم الذي وقع بعد أن كانت الساحة التعليمية متحدة تحت يافطات نقابية تعرف وحدة تنظيمية تؤطر الفئات بكل أصنافها: أعوان، أساتذة مدرسون، أساتذة إداريون، مفتشون، أطر الاقتصاد، موظفو الإدارات الإقليمية والجهوية والمركزية …، ثانيهما: وهو إشارة منهجية بالأساس، نشير من خلالها إلى إخضاع قراءتنا إلى مقاربتين أخلاقية/قيمية وقانونية.
المقاربة القانونية
تخضع الهيآت المؤطِّرة للمنخرطين إلى قوانين صادرة عن الجهات الرسمية المسؤولة، وتعتبر الهيأة ممثِّلةً لمنخرطيها أمام المؤسسات، بما فيها المؤسسات القضائية (المحاكم)، وذلك في القضايا العامة التي تهم الجميع ولا تختص ببعض الأعضاء.
ولا تعتبر هذه الهيآت قانونيةً إلا إذا استكملت الشروط والوثائق المنصوص عليها قانونا من خلال التصريح والترخيص.
إذا نظرنا في التنسيقية (ت و أ ت ث ت) وغيرها من التنسيقيات الحاضرة في الساحة بقوة في هذه المرحلة، فإننا نتساءل عن مدى قانونيتها من خلال مرحلتي التصريح والترخيص، فهل قدمت هذه التنسيقيات أوراقها القانونية للجهات المختصة؟ وهل تسلمت ترخيصا للاشتغال؟ أم أنها لم تتلق ذلك الترخيص، لكنها استنفدت المدة القانونية بعد التصريح لتصير بموجب ذلك مرخصا لها؟
قد لا تهمنا هذه التساؤلات، لأن الفعل النضالي في سياق الاحتقان والضغط الاجتماعيين قد يفرض أجندته ولا يتأطر بالقانون على مستوى الممارسة الميدانية، وهذا ما أسماه المناضل النقابي الدكتور محمد الشركي بـ(فَبْرَرَة النضال)، لكن الفعل النضالي لا ينزاح عن القانون ولا ينفصل عنه في الممارسات ذات الصبغة القانونية المحضة، وهنا نطرح نازلة التنسيقية التي نود الإشارة إليها.
تضمنت خاتمة بيان المجلس الوطني المشار إليه أعلاه العبارة الآتية: “يؤكد [المجلس الوطني] احتفاظ تنسيقيتنا بكافة الحقوق في اللجوء إلى جميع الأشكال النضالية، بما في ذلك المتابعة القضائية حتى تحقيق مطالبنا العادلة والمشروعة”.
فما المقصود بالمتابعة القضائية؟
هل متابعة الوزارة الوصية على القطاع؟
وما هو محتوى المتابعة؟
هل سترفع التنسيقية قضيةً حول النظام الأساسي؟ على أي أساس؟
هل على أساس أن الوزارة تجاوزت صلاحياتها المخولة قانونا؟ بمعنى أن الوزارة أصدرت هذا النظام وليس لها الحق في ذلك، هذا احتمال غير وارد.
هل على أساس أن النظام الأساسي تضمن موادا مخالفة لقانون أعلى منه ستلجأ التنسيقية إلى إسقاطه قضائيا؟ هذا احتمال غير وارد أيضا.
فما موضوع المتابعة القضائية إذن؟
إذا تجاوزنا موضوع المتابعة، سنرجع القهقرى إلى جانب آخر قبلها، وهو الجانب الشكلي، إذ قبل أن نتساءل عن الجهة التي ستُواجَه قضائيا وموضوع المتابعة، يجب أن نعيد تساؤلاتنا السابقة حول الجهة التي سترفع الدعوى، لأن التنسيقية؛ إن كانت غير مصرح بها وغير مرخص لها؛ لا يحق لها أن تمثل أعضاءها أمام الجهات الرسمية.
وإذا كانت الوزارة لا تستقبل التنسيقيات ولا تتفاوض معها في الملفات الخاصة رغم “تمثيليتها” لموظفيها، فإنه من باب أولى ألا تتعامل معها المحاكم وألا تعترف بها، فكيف ستلج إلى المحاكم لرفع هذه الدعوى؟
وفي ختام هذه المقاربة، أسجل نقطة في غاية الأهمية، وهي أن التنسيقيات وأعضاءها يشبعون النقابات سبّاً وإقذاعا، والنقابات تقدم لهم خدمات لا يتفطنون لها، وبيان ذلك من خلال الآتي:
لنفرض أن تلميذا أو أكثر تعرضوا لأذى جراء هذه الإضرابات المتتالية (سرقة ــ اغتصاب ــ قتل …)، فإنه يحق للطرف المتضرر متابعة المتغيب عن العمل بناء على التقصير، وهنا سيلجأ المتغيب إلى الدفاع عن نفسه بكونه كان مضربا وليس متغيبا، في هذه الحالة، قد يُستدرَج إلى سؤال آخر، وهو خاص بالجهة الداعية إلى الإضراب، فيشهر بيان التنسيقية، فهل سيجدي شيئا؟
إذا كانت التنسيقية معترفا بها، فيكون المضرب غير مقصر لأنه في وضعية معترف بها دستوريا، لكن التنسيقية إن كانت غير مرخص لها؛ وهذا هو الواقع حسب علمي؛ فإن بيانها شبه الريح، ولا يُلتفت إليه، ولا يُعترف به، ولا يحمي المضرب عن العمل.
في هذا السياق، وأمام الزخم النضالي للتنسيقيات، تخاف النقابات من هروب القواعد والمنتسبين، فتلجأ إلى الإعلان عن إضرابات متماهية مع إضرابات التنسيقيات دون تنسيق مسبق، وهي وإن كانت تصدرها خدمة لمصالحها الذاتية، لكنها تقدم خدمة للمضربين الذين يشبعونها سبا، إذ بإمكانهم؛ إن وقعت واقعة كما ذكرتُ أعلاه؛ أن يشهروا بيان النقابة وأن يخفوا بيان التنسيقية، لأن النقابة جهة مسؤولة وهيأة معترف بها ومرخص لها، ويكون بيانها حصنا للمضرب يتدرع به أثناء المساءلة، لأنه جمع بين أمرين: ممارسة حق دستوري، والاستجابة لقرار جهة معترف بها.
أليس إعلان النقابات للإضراب في تماهي مع إضرابات التنسيقيات يعد خدمة للمضربين؟
المقاربة الأخلاقية
منذ بداية النضال التصعيدي، انخرط ثلة من الأساتذة للهَبَّة النضالية في المدرسة العمومية، لكنَّ عملَ بعضهم لم يتأثر في المدارس الخصوصية المتعاقد معها، وهذه الازدواجية سائغة قانونا، إذ عقدُ الشغل الذي يربط بين الأستاذ والمدرسة الخصوصية منفصل عن العقد المؤطر للعمل في القطاع العام.
هذا الانفصال وإن كان مقبولا من الناحية القانونية، إلا أنه غير مستساغ أخلاقيا بالنظر إلى المآلات، إذ أن تلميذ التعليم الخصوصي يتلقى حصة كاملة، بخلاف تلميذ المدرسة العمومية الذي يتقى حصة خديجةً بفعل المسيرة النضالية للأساتذة، هنا اجتهد بيان التنسيقية وارتقى أخلاقيا، ودعا الفئات العاملة بالثانوي التأهيلي إلى “خوض إضراب حضوري بالمؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية”، وهذه منقبة تُحسَب لهذا الزخم النضالي، خصوصا أنها؛ إن طبقت؛ ستسهم في تحقيق حد أدنى من المساواة بين تلاميذ القطاعين العام والخاص. لكن البيان أصابه نوع من الغموض في نقط أخرى نوردها هنا:
الأولى: دعا البيان إلى الإضراب الجزئي المتمثل في التوقف عن العمل [ساعتان في الفترة الصباحية، وساعتان في الفترة المسائية] في ثلاثة أيام بحر هذا الأسبوع،
الثانية: دعا البيان أيضا إلى تعليق إجراء فروض المراقبة المستمرة.
لكنه لم يبين مجال أجرأة هذين المطلبين، فهل الدعوة إلى تعليق الفروض والإضراب الجزئي تخص القطاعين العام والخاص؟ أم أنها موجَّهة إلى مساحة الاشتغال في العمومي وحده؟
وإذا كان هذان المطلبان يعمان القطاعين معا، فهل سيلتزم بهما المعنيون بالأمر؟ أم سيلجأون إلى تنسيقيات أخرى لم تجبر منتسبيها على الممارسة النضالية في المجال الخصوصي؟
تعليقات الزوار ( 0 )