سننطلق في هذا المقال من حيث انتهينا في مقالنا السابق حول ذات الموضوع، الذي كنا قد عبرنا فيه عن هلعنا مما قد يؤول إليه حال الأستاذ، بل وممّا قد يترتَّب عن هذه الحال من سخط اجتماعي، لن يزيد الوضع إلا سوءًا. وأيضا عن عدم جدوى المقاربة القمعيَّة كحل لكونها لاتزيد المشكل إلا تعميقا؛ لأن حل المشكلة في نظرنا رهين بردّ الاعتبار للأستاذ ومكانته داخل المجتمع، وذلك عبر تأمين مساراته السوسيومهنيَّة، وتعديل التمثّلات الاجتماعيَّة السائدة حوله، وهذا أمر لن يتأتَّى إلا بفعل إرادة سياسيَّة جادَّة في إحداث تغييرات عميقة في الواقع. وذلك لأهمية هذا الانتهاء في التأسيس لبدء جديد، يمكّن من تحليل سيرورة التعليم وصيرورة مشكلته.
يعد قطاع التعليم من بين القطاعات التي يجب أن تخضع للإصلاح، نظرا لمركزيته في تحديث المجتمع وتطويره وتنميته، لكن أن يصبح قدره الإصلاح فهذا ما لا ينبغي أن يكون تماما؛ لأنه أمر لا يقبل إلا أن نفسره داخل مقولة الإصلاح كغاية لا كوسيلة .
إن النظر إلى الإصلاح كغاية يفرغه من كل غاية إلا من غاية التكرار، وهو ما يلحظه كل متصفح لسيرورة التعليم ببلادنا؛ حيث يجدها سيرورة لتأبيد تاريخية الإصلاح داخله، وهو ما يجعل مشكلته الأولى صيرورة نحو الأزمة.
لقد كانت المشكلة الأولى في التعليم وإلى وقت ليس بالبعيد مشكلة جودة، غير أن تدخل الإصلاح جعلها تنتقل إلى مشكلة أعمق ومن ثمة إلى أزمة وبطريقة سريعة كادت أن توازي سرعة الإصلاحات التي توالت على التعليم بالمغرب؛ حيث إن إصلاح مشكلة الجودة وفق منطق تأبيد تاريخية الإصلاح عمل على جعل المشكلة المدرسية تنفتح على محيطها بدل أن تنفتح المدرسة على محيطها باعتبارها قاطرة للتنمية، لأننا لم نعد مع هذا المنطق أمام خلل فقط على مستوى التحصيل وما يواكبه ويوازيه من عمليات بيداغوجية وديداكتيكية.. بل أصبحنا أمام مشكلة تتسع وتتحور يوما بعد يوم، إذ انتقلنا من مشكل تربوي مرتبط بالعملية التعليمية التعلمية إلى مشكل اجتماعي مرتبط بالمسارات السوسيومهنية لفئة تعتبر الحجر الأساس في إصلاح مشكلة الجودة، الذي تترجمه بشكل واضح اختيارات التوظيف الجديدة التي شرعت فيها السلطات المختصة في هذا المجال، التي لم تكرس حسب دراسة سوسيولوجية قام بها الباحث سعد الدين إكمان سوى الهشاشة واللايقين فيما يخص مسارهم المهني، سواء على مستوى الاعتراف أو الأمان، وهو ما سيدفع بهم للخروج إلى الشارع من أجل المطالبة بتأمين وضعيتهم السوسيومهنية عن طريق الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية وبالتالي تعميق المشكلة بإضافة هدر الزمن المدرسي للمتعلمين إلى ماكانت تعانيه المدرسة من مشاكلَ في التحصيل…
إن هذا المسلسل الإصلاحي لم يتوقف عند هذا الحد، بل أعاد الكرة مرة أخرى في محاولة منه لإصلاح المشكلتين هاته المرة، أو بالأحرى، وهو الأصح، في محاولة منه لإنتاج أزمة من خلال تعميق المشكلتين السابقتين، وذلك بإخراج نظام أساسي عمل -تقريبا- على شل المدرسة العمومية بشكل مطلق، لكونه لم يراع مرة أخرى أهم حلقة يعول عليها في النهوض بالمدرسة المغربية وتطويرها، وهو الأمر الذي لم ينتج عنه أي أثر إيجابي، اللهم تكريس اللايقين في صفوف فئة المرسمين حسب التجزيء الذي كرسه منطق تأبيد الإصلاح في قطاع حيوي؛ قطاع التعليم .
إن منطق العلم يرفض بل ويرمي بالغباء كل من يقوم بنفس التجربة ووفق نفس الشروط وينتظر الحصول على نتائج مختلفة، لذلك فقمة الغباء أن نقوم بتأبيد تاريخية الإصلاح داخل قطاع التعليم، وننتظر حلا للأزمة، لأن حلها يقتضي الدخول في تجربة جديدة منفتحة على جميع المتدخلين وفق منطق التشاركية المواطِنة حتى نتمكن من إنتاج نموذجٍ إصلاحي، يحمل -في جوهره- غاية تنمية وتطوير المدرسة العمومية وفق ما يتناسب وخصوصيات هذا المجتمع، لأن الإصلاح لا يمكنه أن يكون هادفا إلا إذا انطلق من صميم وعمق من نستهدف به؛ أي: إن حل أزمة التعليم التي أصبحنا نعيشها اليوم، لن يتأتى لنا بترهيب وتخويف وإقصاء أهم حلقة داخله بإصدار التنبيهات والتوقيفات وما شابه ذلك، بل إن الأمر يقتضي من الجميع أن يضعوا رهانا وغاية لهذا الإصلاح حتى لا يبقى مفرغا وأجوفا من ماهيته وجوهره الذي يكمن في إحداث التطور و التقدم لا التأبيد، بدءًا من مؤسسة الأسرة التي ينبغي لها أن تسائل نفسها عن علاقتها بما وقع وما يقع من مشكلات وأزمات في قطاع التربية والتعليم، حتى لا تسند كل مهامها الطبيعية في هذا الباب للمدرسة وتبقى دون مهمة، لأن التعلم والتحصيل لا يحدث فقط بالذهاب إلى المدرسة والإياب منها، ثم مرورا بالحكومة التي أصبحت مطالبة بتوفير كل السياقات والشروط التي تضمن جودة التربية والتعليم وتجعل من المدرسة -فعلا – قاطرة للتنمية على مستوى الواقع، لا على مستوى الخطاب والتنظير فقط، وأخيرا مرورا بكل المتدخلين والفاعلين في القطاع من أجل تعبئة كل مواردهم وإمكاناتهم من أجل وضعها في خدمة القضية بشكل مواطن ومسؤول.
يقال بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن تحديد المسؤوليات للتاريخ -أيضا-، يقتضي الرجوع إلى التفاصيل، لذلك فلا عيب في العودة والكشف عن الشيطان مادام أن الأمر يقتضي تحديد المسؤوليات للتاريخ .
إن الرجوع إلى بداية الأزمة التي انطلقت -تقريبا- فور صدور مسودة نظام أساسي جديد خاص بموظفي وزارة التربية الوطنية من أجل تشريحها قراءة ونقدا، وإلى الكيفية -أيضا- التي تفاعل بها كل الأطراف، يجعلنا نفهم دواليب هاته الأزمة والطريقة التي تسير بها من خلال الوقوف على تفاصيلها التي تتجلى من جهة في الغموض الذي يلف عملية الإصلاح و يعتري غايته، ومن جهة أخرى في تلك التفاعلات، وتفاعلات التفاعلات التي لا تضع في الحسبان التوجهات والاختيارات التنموية الكبرى.وبالتالي الانتهاء إلى الخلاصة التالية التي تفيد بضرورة تحمل كل طرف مسؤوليته حتى نستطيع أن نوظف الإصلاح كوسيلة داخل التعليم لا كغاية.
*باحث في قضايا الهشاشة والسياسات الاجتماعية
تعليقات الزوار ( 0 )