Share
  • Link copied

التطبيع والصحراء

السياق العام:

رغم أن إعلان المملكة المغربية لقرار التطبيع مع إسرائيل أثار العديد من ردود الفعل بين مؤيد ومعارض ومتردد ومراقب بالنظر إلى حساسية القضية وترسخها في اللاشعور الجماعي للمغاربة، إلا أن هناك إجماع وطني على أن اعتراف أقوى دولة في العالم بمغربية الصحراء يعتبر اختراقا حاسما للدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس ومؤشر على قرب الطي النهائي لهذا الملف الذي عمَّر أكثر مما يجب.

ولعل الفصل، في هذا النوع من القضايا، بين المقاربة الموضوعية والتعاطي الذاتي يبقى مهمة شاقة على الباحث في بحر الاستراتيجية والأمن القومي والذي يبقى مطالباً بتجنب ردات الفعل الآنية وأحكام القيمة الفورية وأن يتعامل مع الظواهر بعيون تحليلية وتفكيكية باردة وإن لم تكن دائما في منأى عن الذاتية وعن قبضة العاطفة ويكبح محاولات الهروب إلى فضاءات الحرية الفكرية والتحليل الموضوعي.

إن حتمية الانتماء العربي والإسلامي وجدلية الارتباط بالقضية الفلسطينية تجعلنا نتحسر على الظروف التي دفعت مجموعة من الدول إلى التطبيع مع كيان استباح الأراضي العربية في كل من فلسطين وسوريا وقبل ذلك مصر، وهو الاحتلال الذي ترفضه القوانين السماوية وتستنكره المواثيق الوضعية وتشجبه الأعراف الأممية.

غير أن هذا الواقع لا يمنع من الاعتراف بأن المملكة المغربية ومعها باقي الدول العربية، كل حسب قدرته وقوته، قد ساهموا سياسيا وماليا ودبلوماسيا في الدفاع عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين وهو ما تؤكده عشرات الاجتماعات والقرارات التي صدرت عن جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما لا يمكن أن ينكره أو يزايد عليه أحد.

في هذا السياق، وأمام هذا الهاجس الوطني والمعطى الأخلاقي لابد من محاولة فهم سياقات الاتفاق المغربي-الإسرائيلي وإلى أي حد يمكن أن يشفع لنا التاريخ هذا الاتفاق الذي اعتبره البعض طعنا في ظهر “القضية” واعتبره البعض الآخر انسلاخا من الدين وخروجا عن الإسلام، فيما اعتبره البعض تدبير استراتيجي ذكي خاصة وأن هذا الاتفاق لا يتعارض مع المواقف المتجذرة والراسخة للمملكة المغربية اتجاه القضية الفلسطينية والمتمثلة في حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

في هذا السياق، يعتبر المغاربة قضية الصحراء قضية وطنية ترتقي في مدارج الارتباط إلى درجة القدسية وجعلوها جزءا لا يتجزأ من العقد الاجتماعي الذي يربطهم بولي أمرهم ممثلا في المؤسسة الملكية التي تسهر على ضمان استقلال ووحدة البلاد والدفاع عن حوزتها  بمقتضى الفصل 42 من الدستور المغربي، وهو ما يجعل من قضية الصحراء المغربية تسمو عن جميع القضايا بالنظر إلى أن الارتباط بها لا تمليه فقط العاطفة الدينية أو النزعة القومية بل لكونها جزء من تعاقد سياسي ينعكس على تماسك بنية الدولة بمكوناتها الكلاسيكية “الأرض، الشعب، الهيئة أو السلطة السياسية المنظمة”.

الأبعاد الاستراتيجية للقرار المغربي:

على المستوى الاستراتيجي، يبقى الحكم على القرار المغربي مرتبطا بمدى مساهمته في تحقيق الهدف السياسي الأسمى للدولة المغربية بما لا يتعارض مع التزاماتها اتجاه القضية الفلسطينية لنخلص إلى تحديد ما يصطلح عليه ب “معيار الإنجاز الاستراتيجي”. وهنا لابد من التذكير بأن القرار الاستراتيجي هو جزء من منظومة جد معقدة يمكن أن نلخصها في المستويات التالية:

  • مستوى الهدف السياسي الأسمى
  • مستوى الاستراتيجية الكبرى أو العظمى
  • مستوى الاستراتيجية
  • مستوى العمليات
  • مستوى التكتيك

على هذا المستوى من التحليل، يبقى الهدف السياسي الأسمى للدولة المغربية هو الطي النهائي لملف الصحراء وفق الرؤية المغربية بما يسمح بإنهاء 45 سنة من النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء. هذا الهدف السياسي يتطلب تحريك وتعبئة مختلف القطاعات الحكومية (الدبلوماسية، الدفاع، الإعلام، المجتمع المدني والسياسي…) بشكل ذكي قصد إحداث تراكم إيجابي يساهم في تحقيق الهدف السياسي الأسمى، وهو ما يدخل ضمن مستويات الاستراتيجية الكبرى بتعبير المنظر البريطاني بازل ليدل هارت.

ويمكن القول بأن التعامل الحكيم للملك محمد السادس جعل المغرب ينجح في تحقيق الهدف السياسي الأسمى دونما إخلال أو تنازل عن القضية الفلسطينية والتي تبقى قضية محورية في العلاقات العربية الإسرائيلية ومفتاح السلام في الشرق الأوسط على اعتبار أن المغرب ربط اتفاق التطبيع بضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وفق مخرجات قرارات جامعة الدول العربية وعلى رأسها دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية وهي المواقف التي يتشبث بها المغرب كمقدمة لأية تسوية نهائية للقضية الفلسطينية.

حصان طروادة لخدمة مشاريع التمكين السياسي

تاريخيا ظلت القضية الفلسطينية بالنسبة للإخوان المسلمين مجرد ورقة للحشد الشعبي والتأطير الجماهيري دونما محاولات جادة للتحرك على الأرض ورفع الظلم والبؤس والحرمان عن أهلنا فيفلسطين. وهنا نسجل أن التركيز على فلسطين والقدس يتزامن دائما مع استحقاق انتخابي أو استفتاء رئاسي، وذلك قصد استغلال المشترك العقدي لما يخدم الطرح الذي هو بالأساس سياسي محض.

إن قراءة متأنية في تاريخ الإخوان “المسلمين” تقطع بأن هذا التنظيم الباطني استغل القضية الفلسطينية لأهداف الانتشار الشعبي والحشد الجماهيري، ولم تكن يوما ما على أجندته “الجهادية” ولا على رأس أولويات التنظيم. وهنا لابأس من الاستئناس بشهادة الإخواني حسن عبد المجيد قاتل رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي باشا والذي صرح في محاضر القضية بالقول: “بدأت مشكلة فلسطين تأخذ دورا جديا، واعتقدت كما اعتقد جميع أفراد النظام الخاص أن وقت الجهاد الذي من أجله نعد وندرب قد جاء، وإننا سنرسل جميعا إلى فلسطين للقتال هناك، وكانت القيادة تبلغنا أن الوقت سيأتي قريبا للجهاد، وأن الغرض من إعداد الفرق هو أن تجاهد في فلسطين بعد تدريب أفرادها على استعمال السلاح…ولما شعرت القيادة بشدة الضغط عليها، قالت لنا: إن الجهاد ليس مقصورا على فلسطين، وإن الصهيونيين ليسوا فقط في فلسطين، وإنما هم موجودون أيضا داخل البلاد المصرية، وإن على النظام الخاص أن يوجه إليهم نشاطه وجهاده”.

إن الثابت عند من خبِر شؤون التنظيم الإخواني، أن من أُرسلوا إلى فلسطين سنة 1948 كانوا من الإخوان المتحمسين الذين لم يسبق لهم أن تدربوا لا في الجوالة ولا في التنظيم الخاص، حيث تكلفت الحكومة المصرية بتدريبهم، ولا علاقة لهم بالجناح العسكري الذي أسسه حسن البنا، والذي أبقى عليهم للعمل الداخلي ضد خصومه السياسيين وضد السراي.

على المستوى الوطني، ومن خلال متابعة دقيقة للتعبيرات السلوكية والسياسية لتيار الإسلام السياسي في المغرب، نقطع بأن قضية الصحراء المغربية لم تكن يوما على رأس اهتمامات إخوان المغرب وهو ما جسدته العديد من المواقف كان آخرها خروج أحد قيادات التنظيم على إحدى القنوات الممولة من إيران للحديث عن التطبيع وهو السلوك الذي اجتمعت فيه، في اعتقادنا، جميع الأركان المادية لجريمة الخيانة العظمى (العنصر المادي، العنصر المعنوي والعنصر القانوني) على اعتبار أن المغرب قطع علاقات الدبلوماسية مع إيران بعدما ثبت تورطها في تسليح وتدريب ميليشيات البوليساريو الإرهابية وهو ما شكل تهديدا جديا للأمن القومي المغربي. كما أن تصريح ذات القيادي الإخواني حمل في طياته الترويج لوجود موقف حزبي وشعبي معارض للقرار السيادي الذي اتخذه المغرب وهو ما تنفيه الوقائع على الأرض من خلال إجماع الشعب المغربي والتنظيمات الحزبية والإعلام الوطني العام والخاص على قيمة هذه اللحظة التاريخية وأهمية الاتفاق الذي سيساهم في تأكيد مغربية الصحراء دونما مس بجوهر القضية الفلسطينية والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وهو ما أكده رئيس السلطة الفلسطينية الذي بارك الاتفاق المغربي الإسرائيلي واعتبره خطوة في الاتجاه الصحيح لإيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية. وهنا لا نجد وصفا لبكائيات بعض العناصر الإخوانية إلا ما جاء في المثل الشعبي المغربي “مالين دار صبروا والعزايا كفروا”.

ومن باب “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” نُسائل قيادات نفس التنظيم عن سكوتهم المشبوه عن الإعلام التركي الرسمي عندما قام باستقبال الانفصالية أميناتو حيدر وخصص لها برنامجا كاملا على قناة TRT ولم يقفوا عند هذا الحد بل أطلقوا عليها لقب “غاندي الصحراء الغربية”، حيث صمت القوم صمت القبور ولم نسمع لهم ركزا اللهم انتفاضتهم تحت قبة البرلمان وفوقها للدفاع عن اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا والتي ساهمت في إغلاق عشرات الآلاف من المحلات وشردت مئات الآلاف من العاملين البسطاء في المجال التجاري.

نفس صمت القبور سجلناه لدى قيادات هذا التنظيم وكوادره بعد سلسلة الهجمات التي قادها بعض صحفيو إحدى القنوات العربية المشهورة والذين قالوا في المغرب ما لم يقله مالك في الخمر حيث تعتبر الدولة الحاضنة لهذه القناة من أهم الداعمين للأطروحة الإخوانية، دون إغفال موقف من يطلق على نفسه “المجلس العالمي لعلماء المسلمين” والذي يرأسه ابن التنظيم أحمد الريسوني والذي هاجم الاتفاق المغربي الإسرائيلي ووصفه بأشنع النعوت دون أن يرف جفن عضو واحد من أعضاء التنظيم الإخواني في المغرب.

إن الاطلاع على الأدبيات الإخوانية تقطع بأن الولاء للوطن لم يكن يوما ما من صميم المعتقدات الإخوانية اللهم من باب التنسيق مع التيارات الوطنية كمرحلة أولى للمرور إلى المشروع الشمولي وادعاء إعادة إحياء الخلافة الإسلامية وفق النموذج الكونفدرالي كما نظر لذلك عبدالرزاق السنهوري باشا واعتمده بعد ذلك مجلس شورى التنظيم الدولي للإخوان في اجتماعات ميونيخ بألمانيا سنة 1992. ويظل الوطن بالنسبة للتنظيمات الإخوانية مجرد حفنة من تراب عفن كما عبر عن ذلك رمز التنظيم الإخواني سيد قطب والذي قام أحد القياديين في التنظيم الإخواني (م، ه) في المغرب بتخصيص حلقات لشرح تفسيره للقرآن الكريم “في ظلال القرآن” وهو نفس المؤلَّف الذي وصفه شيخ الطريقة الإخوانية يوسف القرضاوي بأنه “يرشح” بالتكفير. 

إجمالا يمكن القول بأن الحكمة الملكية تعاملت بواقعية وبدهاء استراتيجيين جعل المغرب ينجح في إطلاق رصاصة الرحمة على الأطروحة الانفصالية وخلق إجماع دولي حول أحقية المغرب القانونية والتاريخية على صحرائه، في حين كشفت لنا الأحداث الأخيرة بأن تيار الإسلام السياسي في المغرب له أجندة تتجاوز مجرد أجندة حزب سياسي عادي ليتماهى فكرا وروحا مع إيديولوجيا عابرة للقارات ترى بأن التمكين السياسي القُطري ما هو إلا مرحلة لإخضاع العالم لمركزية حكم المرشد أو ما يُطلق عليه في الأدبيات الإخوانية ب “أستاذية العالم”.

   *متخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية

Share
  • Link copied
المقال التالي