لا تجد بعض القنوات التلفزيونية في الوطن العربي سوى قصص الغرابة والسخرية، التي ترجع إلى انتشار الجهل، وقلة الوعي، وسيادة الفكر الخرافي، وضآلة هامش حرية الرأي والتعبير (وانعدامه أحيانا) فضلا عن شحّ مقومات الكرامة.
ومن ثم، لوحظ أن تلفزيونات عربية وأجنبية منشغلة هذه الأيام بحكاية البرلمانية الجزائرية نعيمة صالحي (رئيسة حزب «العدل والبيان») التي تثير الجدل باستمرار من خلال تصريحاتها الغريبة.
تلفزيون «الآن» و»بي بي سي/عربي» التقطا آخر ما تفوهت به، صوتا وصورة عن طريق الإنترنت، وصنعا منه مادة سائغة للمشاهدين.
لقد قالت المسكينة إنها تعرضت للسحر في مؤامرة للقضاء عليها من أناس مقربين منها في الحزب، وزعمت أن المادة السحرية وُضعتْ في فم كلب، وحين يموت الكلب ستموت البرلمانية!
هذا الكلام قوبل بالسخرية بدل التعاطف، وانتشرت صور إبطال الجن والسحر والتعاويذ.
وكتب من تهكم عليها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، إن «السحر» الحقيقي هو ما جعلها تصل إلى مقعد البرلمان، وتتقاضى راتبا محترما. وتمنّى صاحب التعليق أن يحصل على مثل هذا السحر.
آخرون هنّأوها على ذكائها، قائلين إنها تمارس السحر السياسي، وهناك من قال إن بعض الساسة يبحثون عن أي شيء خرافي مشجبا ليعلقوا عليه فشلهم، معتقدين أن الشعب غبي.
وكان من المفروض في تلك البرلمانية أن تشارك في صياغة القوانين وتتنافس في الحياة السياسية لحكم البلاد، عوض شغل الناس بحديثها عن تعرّضها للسحر والشعوذة من لدن منافسين.
السماء تمطر ذهبا في المغرب!
نترك الجزائر ومعادلة الساحر والمسحور في الحياة السياسية، لنحط الرحال في المغرب وبالضبط في منطقة الرشيدية (جنوب شرق البلاد) ومن هناك تنقل لنا قناة «بي بي سي عربي» عبر برنامجها «ترندينغ» مشهد تزاحم مواطنين على مساحات شاسعة من الأرض، بحثا عن شظايا نيزك سقط من الفضاء.
لقد آمنوا بأن السماء يمكن أن تمطر ذهبًا وفضة، وتحوّلهم بين عشية وضحاها إلى أثرياء. ولذلك، أخذ كل شخص هناك يبحث عن شظية ما ليبيعها بثمن باهظ، بينما ركز أشخاص آخرون على القيمة العلمية لتلك الأحجار الفضائية، مشيرين إلى أنها ذات دور مهم في معرفة الحياة خارج الأرض، وأنها ستمكّن من معرفة مدى وجود حياة طبيعية في الفضاء.
المفارقة أن ثروات البرّ والبحر توجد بين أيدي فئة «محظوظة» ومن والاها من «الخُدّام». أما السواد الأعظم من الشعب، فما عليه سوى أن يحلم برغد العيش الآتي من الفضاء على شكل نيازك، أو ليُقامر بحثا عنه، من خلال ركوب قوارب الموت! لا يعبأ المقامر بالمصير المؤلم لمن سبقه إلى المغامرة، وإنما يبحث عن بصيص أمل مهتديا بنماذج الذين أفلحوا في الوصول إلى «الفردوس الأوروبي»؛ كما حصل منذ أيام، حيث وصل مهاجرون سريون إلى إسبانيا انطلاقا من الريف. لم تمنعهم من ذلك أمواج البحر الخطيرة، ولا جائحة «كورونا» أو المصير المجهول الذي ينتظرهم لدى الإسبان!
بركات الشيخ عطية!
ولننتقل إلى أرض الكنانة، حيث يدور الجدل بشأن داعية شهير انقلب على نفسه وعلى تصريحاته التلفزيونية في مئة وثمانين درجة، خوفا من الفرعون الجديد ومن زبانيته. إنه الشيخ مبروك عطية (نفعنا الله ببركاته وشطحاته) الذي كان يعلّق على القضية الرائجة حاليا حول هدم منازل المصريين المخالفة للقانون أثناء استضافته في أحد برامج «أم بي سي ـ مصر» حيث بدا معترضا على إخراج الناس من بيوتهم، وقال مستدلا بإحدى الآيات القرآنية إن الاعتداء على المسجد الحرام أهون عند الله من إخراج الناس من بيوتهم. قبل ان يتراجع عن تصريحاته، ويلقي باللائمة على المغرضين والكائدين ومن والاهم من «الإخوان المسلمين» الذين أوّلوا كلامه وحمّلوه ما لا يحتمل. في حين أن مَن قام بالحملة ضده بسبب تلك التصريحات هم «بلطجية السيسي» في الإعلام.
وطفق عطية المسكين يتنقل بين الفضائيات والإذاعات والمواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي، مفسرا القرآن الكريم بطريقته الخاصة، ومترجيا الناس أن يفهموا المقصود من كلامه، ومقسما بأغلظ الأيمان أنه لا يعترض على هدم مباني «الغلابة» ومؤكدا مبايعته للزعيم الكبير عبد الفتاح السيسي، الذي جعل أمّة مصر العظيمة ترفل في النعيم.
معتز عطية ينطبق عليه المثل العربي «كاد المريب يقول خذوني» كما يحلو للمغاربة أن يقولوا في مثل هذه الحالات: «الشيخ اللي نتسناو بركتو.. دخل الجامع ببلغتو» (الشيخ الذي ننتظر بركته، دخل إلى المسجد بنعله».
تلفزيون «بي بي سي عربي» روى قصة مبروك عطية وما خلفته من ردود وتعليقات، أما قناة «الشرق» فقذفته بوابل من عبارات الهجاء، على لسان الإعلامي معتز مطر، الذي دعاه إلى الاستفادة من دروس التاريخ، وأعطاه مثالا بالعالم والفقيه والقاضي العز بن عبد السلام، الذي لم يتردد في المجاهرة بانتقاد الحاكم الظالم الصالح إسماعيل (من ملوك الدولة الأيوبية).
واستنتج معتز أن التاريخ يسجل المواقف المشرفة للعلماء الأجلاء، ولكنه لا يرحم الخونة والمنبطحين ممّن يكتمون قولة الحق في وجه الظلم والطغيان!
تناقضات «الحكومة العثمانية»!
ولنصل الآن إلى الحكومة «العثمانية» ليس نسبة إلى العثمانيين، ولكن إشارة إلى رئيسها سعد الدين العثماني، والتي حار المغاربة ـ هذه الأيام ـ في تحولاتها وتقلباتها عبر مختلف القرارات والتصريحات، إلى درجة أن حال هذه الحكومة تصلح للدراسة والتحليل ليس من طرف خبراء القانون وعلماء الاجتماع والسياسة، وإنما من طرف الأطباء النفسانيين، ورئيس الحكومة عينه واحد منهم.
الظاهر أن «الحكومة العثمانية» تعاني من «الشيزوفرانيا» وسبب ذلك جائحة «كورونا» وتشابكاتها المحلية والدولية، السياسية والطبية، الأمنية والاقتصادية. لقد جعلتها الجائحة تتحدث بألف لسان، وتسقط في قرارات مرجلة، وتقول الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، حيث يمحو النهار كلام الليل.
تحدثت عن تشجيع السياحة الداخلية، وأظهرت عبر قنواتها التلفزيونية استعداد الفنادق لاستقبال زبائنها المحليين، ثم وضعت شروطا تعجيزية لسفر المواطنين رفقة عائلاتهم!
قررت الإذن للمغاربة بذبح أضاحي العيد (دعمًا لملاكي الأغنام) ثم منعتهم من السفر لزيارة أهاليهم!
خيّرت آباء وأولياء التلاميذ بين التعليم الحضوري والدراسة عن بعد، وبعد ذلك أرجأت انطلاقة الموسم الدراسي في بعض المدارس، وفرضت الدراسة عن بعد في مدارس أخرى!
فتحت أجواء الطيران في وجه السياح والمستثمرين الأجانب، لكنها أغلقت مدنا كبرى كالدار البيضاء!
حثت على التباعد الجسدي، لكنها كدست مخالفي الإجراءات الاحترازية داخل سيارات الشرطة وفي المراكز الأمنية!
وقبل ذلك، أكدت أن الكمامات لا دور لها في الوقاية من الفيروس، ثم فرضت غرامات على من لا يضعها على وجهه!
وهلم جرا.
تعليقات الزوار ( 0 )