شارك المقال
  • تم النسخ

الباحث طحطح يطرق مداخل جديدة للكتابة التاريخية من خلال منظور المشكال

“لماذا غفل المؤرخون والأنتربولوجيون والسوسيولوجيون ردحا طويلا من الزمن عن الكتابة والقول الأدبيين، خاصة الأشعار، أثناء دراستهم للظواهر الإنسانية والمجتمعية؟ بل قل، لماذا كل ذلك الإقصاء الذي وصل ـ في بعض الأحيان ـ إلى حدّ الاحتقار لنصوص تحتوي أحاسيس ومشاعر إنسانية ثرّة يستحيل العثور عليها في غيرها، وهي وحدها القادرة على إضاءة جوانب عميقة ومهمة من حياة الإنسان فردا وجماعة؟ ألا يجب إعطاء القيمة للأشياء التي تبدو في الظاهر هامشية، حيث التفاصيل الصغيرة جدا- والغائبة- دائما ما تكون هي الأهم”.

“لماذا طال زمن الاستهتار بالهامش والتفاصيل والمسكوت عنه؟ هل لأن الكتابة سيطر عليها، لقرون طويلة، العنصر الذكوري، الذي يهيمن على ذهنه كل ما هو عظيم وضخم، ولا يلتفت عادة للتفاصيل، التي لم تظهر في الكتابات بشكل بارز ـ كما أقدّر ـ إلا بعد أن أصبح لـ “الأنثى” صوتا في الوصف والتفسير على حدّ سواء”

   “ما الذي جعل غوستاف فلوبير، هذا الرومانسي الكبير، يكتب لصديقته “لويز كوليه” معبرا لها عن رغبته الجامحة في التأريخ لمزقة عشب؟ لا بدّ أن إحساسا قويا داهمه بقيمة الجزئي، والمهمش، والمنسي، والمسكوت عنه، فأراد رفع الصوت للتنبيه لأهمية ذلك الغائب الذي غالبا ما يكون سببا في رداءة التصوير وتهافت التحليل”.

لعلّ هذا البعد هو الذي جمع بين قضايا كتاب منظور المشكال وشكّل بؤرة اشتغاله وجوهر منظوره. ولكون التّيمات المشتغل عليها وبها تدخل في صميم كل المهتمين بالآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فإن الباحث خالد طحطح آثر تقديم أصوات متعددة تنسجم مع الفئة المستهدفة من كتابه، والتي تستوعب في الآن نفسه الباحثين المتخصصين والمتابعين العاديين الشغوفين بالتاريخ وقضاياه.

قبل عقود صدرت رواية رومانسية للأمريكية دانيال ستيل، وهي بعنوان المشكال، تتناول قصة ممثل أمريكي ساقته الأقدار خلال الحرب العالمية للاقتران بفتاة فرنسية أنجب منها ثلاث فتيات، غير أن نهاية الزوجين انتهت بشكل مأساوي، ووجدت الفتيات الثلاث أنفسهن وقد تفرق شملهن بين ثلاث عائلات، حيث تم تبنيهن في أماكن متفرقة، فاستأجر أحد أصدقاء والدهن محققا خاصا كلفه بمهمة جمع الفتيات الثلاث مجددا. كما وظفت الراوية الإنجليزية بينيولوبي لايفلي في قصتها مون تايجر الحائزة على جائزة مان بوكر سنة 1987 مفهوم المشكال للدلالة على اللاستقرار واللاثبات. حيث حاولت الرِّواية عرض الأحداث التاريخية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية متشابكة بشكل كلي مع أحداث البطلة وسيرتها الخاصة، من خلال توظيف تقنيات سردية متعددة، منها الانتقال السلس بين الماضي والحاضر. وهدفها من كل ذلك تِبيان عبثية الحرب وتسفيه رِوايات المنتصرين.

 المشكال هو أنبوبٌ خاص به مرايا وقُصاصات مُلوَّنة تُشكل نقوشا وزخارف مُختلفة تهتز كلما حرَّكها المرء، وعليه يقدم كتاب منظور المشكال للباحث الدكتور خالد طحطح بهذه الصيغة قراءات مختلفة وأصوات متعددة للتاريخ، فنقف على مداخل جديدة ورؤى مختلفة تعيد الاعتبار لنماذج من الكتابة التاريخية ولتعبيرات غير معهودة في البحث التاريخي.

تتقاطع القضايا التي طرحها كتاب منظور المشكال مع أفق بطلة رواية مون تايجر التي سعت جاهدة لتقديم الأصوات المُتعددة للتاريخ المركب، حيث عملت ما بوسعها لإسماع القارئ كل التعبيرات، وإظهار المسكوت عنه، مُعيدة بذلك الاعتبار للهامشي وللفرد، بَيْدَ أنها ظلت، في أحيان كثيرة، أسيرة للصُّورة النَّمطية التي رسمها الكولونياليون عن الشرق، والتي لم تستطع التَّخلص من ظلالها القاتمة. بينما تمكن الباحث خالد طحطح تكسير هذه الصورة من خلال تقديم حكايات وقراءات تظهر بشكل ملموس مساهمة كل الشعوب والعوالم في التاريخ، استنادا لمفهوم الشبكة العالمية التي تتعارض مع مفهوم المركزية الأوروبية.

   على خطى أنبوب المشكال الذي يمنحنا رؤى متعددة لا تتقيد مواضيع كتاب خالد طحطح بأي فترة زمنية، ولا بفصول رتيبة، ولا بتقسيمات معينة، ولا بسرد كرونولوجي سطحي. كما أنها لا تستهدف الباحث الأكاديمي بل القارئ العادي المولع بالتاريخ وحكاياته. غرض منظور المشكال الأساسي الانفتاح على شغف القُرَّاء المتنامي بحقل التاريخ، لأجل تلبية جزء من حاجياتهم، والاستجابة لأفق تطلعاتهم، ولأجل ذلك تم تكييف المواضيع في حُلّة غير معتادة، لأجل الخروج عن المألوف من خلال تناول مواضيع فريدة وطريفة منتظمة ضمن سياقات ورؤى.

     في منظور المشكال تتقاطع سير الحياة مع حكايات محلية وأخرى وطنية، دون أن يغيب سرد نماذج من تاريخ العالم. وحين يهتز المشكال يغيب التسلسل الزمني الخطي الرتيب، وتذوب الحواجز بين العصور والفترات، فتنتقل بسلاسة من العصر الحجري القديم إلى الحاضر والعكس، ففي هزة واحدة قد تجد نفسك في القرن التاسع عشر وقبلها كنت تغوص في عوالم موغلة في القدم.

لعبة المشكال لعبة مشوقة لتعدد المشارب التي انفتح عليها الباحث، حيث تحضر الانتربولوجيا والرواية والأدب وتخصصات أخرى متداخلة، وهو ما منح قيمة وأهمية لهذا العمل المتنوع والزاخر بأنماط من المداخل التي تعطي للقارئ  غير المتخصص باقة من المعلومات وتفتح شهيته لاستكمال القراءة دون ملل، وهو في حل من أمره، إذ يمكنه الانتقال بسلاسة بين المواضيع دون أن يكون سجينا للرتابة الأكاديمية التي تفرض ضرورة القراءة الأفقية.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي