في شهر رمضان الكريم حيث تُنادى الأرواح إلى السمو وتتهذب النفوس بمعاني الزهد والتقشف نجد مشهدا سورياليا يعكس تناقضا عميقا في بنية القيم المجتمعية، موائد مترفة تتراكم عليها أصناف الطعام بألوانها وأشكالها تتجاوز حدود الحاجة إلى حد الإغراق؛ بينما ينام الملايين في أصقاع الأرض جياعا ما يُفترض أن يكون طقسا روحيا يتحول إلى استعراض اجتماعي وما يُعد عبادة يتحول إلى عادة في مفارقة تُثير تساؤلات فلسفية عن جوهر الاستهلاك ومكانته في حياتنا
هنا لا يكون الاستهلاك مجرد فعل لإشباع حاجة بيولوجية، بل يتحول إلى رمز دلالي يُعبر عن التمايز الطبقي والتفوق الاجتماعي، كأن المائدة ليست لإطعام الأبدان بل لإطعام الأنا المتضخمة حيث تُقاس قيمة الإنسان بقدر ما يكدس من سلع وبكمية ما يهدر من موارد، في هذا السياق يُصبح الإسراف بيانا صامتا للهيمنة، والموائد الفاخرة مسرحا لاستعراض المكانة حتى تُنقل بقاياها في صمت إلى مكبات النفايات.
إن هذا المشهد يستدعي مفهوم الاستهلاك التفاخري الذي تحدث عنه “ثورستين فيبلن” حيث لم يعد الامتلاك غاية في حد ذاته، بل وسيلة للتباهي بالطعام على المائدة، ليس فقط لتغذية الجسد بل لتغذية صورة الذات أمام الآخر في عالم أصبح فيه التمايز الاجتماعي متشابكا مع أنماط الاستهلاك تتحول الولائم إلى رموز طبقية تُقرأ مثل نصوص اجتماعية ويصبح الإسراف لغة صامتة تُعلن التفوق
ولكن كيف تحوّل رمضان من موسم للزهد إلى موسم للإسراف؟ كيف أصبح الصوم مقدمة للإغراق في الملذات بدلا من التحرر منها؟ لعل الجواب يكمن في اختلال البنية القيمية حيث لم يعد التقشف فضيلة بل عجزا ولم يعد التوسط حكمة بل نقصانا في مجتمعات مهووسة بالمظاهر يتلاشى الجوهر ويُستبدل التواضع بمظاهر الثراء حتى يُقاس الإنسان بما يُلقيه في القمامة أكثر مما يُبقيه في حاجته
إن الأزمة هنا ليست أزمة موارد بل أزمة وعي، الإسراف في رمضان هو صورة مصغرة لمشكلة أعمق، مشكلة ترتبط برؤية الإنسان لنفسه وللآخر فحين يصبح الامتلاك هوية ويغدو الاستهلاك وسيلة لإثبات الذات يتحول البذخ إلى عنف رمزي تمارسه الطبقات المترفة دون حاجة إلى كلمات
فهل نحتاج إلى مزيد من الطعام أم إلى مزيد من الوعي؟ هل نحتاج إلى امتلاء الموائد أم إلى امتلاء القلوب؟ بمعنى الزهد في زمن تحول فيه الصيام إلى استراحة للإسراف قد يكون السؤال الأهم كيف نعيد لرمضان معناه وللزهد قيمته وللإنسان جوهره!
باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )