Share
  • Link copied

الاستفادة من الرياضيات في تحليل السياسة بين نظريتي الفصل والوصل

اِعلم، أخي أختي، أنه ظهر من الأشخاص، من يستحضر مادة الرياضيات والفيزياء بنوع من الاستحقار، كلما أراد أحدهم الاستهزاء ببعض الآراء السياسية المدلى بها، بدعوى أنها تعبر عن بساطة التحليل وقصر الرؤية؛ غير أن الأصل مخالف لذاك، بل قد يكون كلا المعنيين بالأمر، المبدي للرأي والمستهزئ به، في كفة واحدة وهي الجهل بالرياضيات ومنطقها القوي؛ بل ما يزيد من غبائهم أنهم يدعون الإبداع والتطور زورا وبهتانا، ذلك أنهم جاهلون بالإنتاجات البحثية الحديثة، إلا ما كان من الفكر المعوج والذي تجاوزه الزمن، أو قل ما شاط من البذخ الحاصل عند الغرب بعدما شيئوا كل شيء بما في ذلك القيم؛ فضلا عن جهل بكثير من الأشياء المستوردة وعلاقتها بهذه الرياضيات والفيزياء التي يستهزؤون بهما.

ومن باب التذكير والتنبيه، فإن ما يخص فكرة علاقة الرياضيات بالسياسة والعلوم الاجتماعية بشكل عام، والتصور السائد بأن الرياضيات موضعها المختبرات العلمية ذات البعد النظري الصرف، وأن العلوم الاجتماعية، لاسيما السياسة منها، عصية على فهمها بواسطتها، وأن لكل مجال منهج ومنطق خاص، ولعل كل هذا راجع إلى كثير من الاعتبارات؛ نجد من ذلك من يصور علم الرياضيات علم يتعلق بكل ما هو تجريدي، أي الاختصاص بالجانب النظري الصرف، في المقابل أن السياسة، وما شابهها من المجالات، فيها من المتغيرات والاحتكاك بالواقع ما لا يمكن استيعابه من قبل الرياضيات، كما أن هناك من يعتبر أصحابها أكبر من أن يتسخوا بالسياسة التي لا تعترف بأي منطق سليم إلا المراوغات والمناورات، وأن الفشل سيكون من نصيب كل من حاول تنزيل قواعد الرياضيات على علم السياسة والواقع السياسي على حد سواء، وغيرها من الاعتبارات التي يصعب سردها بشكل دقيق في هذه المقالة؛ وهكذا يخلصون إلى ما نحن نعايشه نتيجة تصورات عن كلا العلمين والمجالين، بمعنى أن تغيير التصورات وإدراك حقيقة كل علم أو مجال يمكن أن يغير من النظرة إلى تلك العلاقة.

وفي نفس السياق، لابد من الإضافة أن تصحيح النظرة إلى العلوم الاجتماعية، أو ما يطلق عليه المواد الأدبية، أمرا ضروريا، كما هو الحال إلى ضرورة محاولة استيعاب فلسفة العلوم الحقة، أوما ينادى عليه المواد العلمية؛ ذلك أن هناك توجه يفضل المواد العلمية ويستحقر المواد الأدبية بداعي أن لا فائدة من مواد تركز على الوجدان والعواطف، فضلا أن البناء لا يمكن أن يكون إلا بعلوم تساعد على الابتكار والإبداع، وأما التوجه الآخر، فعلى النقيض تماما؛ إذ يعتبر أن المواد الأدبية هي الوسيلة التي بها يُفهم الإنسان وتبنى الحضارة، في حين أن أصحاب المواد العلمية حالهم أقرب إلى حال الآلات لتأثرهم بالحسابات والأرقام المضبوطة، لاسيما أصحاب الرياضيات الذين لا يتساهلون مع أدق الجزيئات وبشكل مبالغ فيه أكثر من اللازم، والحال أن الإنسان بحاجة إلى سعة وحرية في التصرف التي تناقض تعقيدات العلميين، وأن تكوينه مخالف لتكوين الآلات الخاضعة للحسابات الرياضية والفيزيائية الدقيقة.

وبالرجوع إلى واقعنا المعيش، والتصورات التي أخذت على مختلف العلوم، ومنها الصحيح والسليم، ومنها ما ورثناه وجهلناه، صار من الطبيعي جدا، أن يتبادلا التياران الانتقادات بينهم ويسخر كل طرف من الآخر، بقصد وبدونه، حتى شهدنا هجرة جماعية للتلاميذ والطلاب إلى التخصصات العلمية، بل توجيها من قبل القائمين على تسيير قطاع التعليم، فضلا عن اهتمام الآباء والأمهات وإرغام الأبناء على اختيار الشعب العلمية دون غيرها، لاعتقاد جازم هو أفضليتها على غيرها، ما جعل في نظر الكثيرين أن اختيار المواد الأدبية لا يكون إلا من الكسالى الذين لم يضاهوا العلميين في ذكائهم، بل الإصرار على التوكيد بأن البناء الحضاري لن يكون إلا على أيدي العلميين وأما غيرهم فما لهم إلا التسليم والتبريك؛ لذلك لم نر التعاون بينهم بالشكل الذي ينبغي، لاسيما إن استحضرنا الواقع المعيش، والذي سيطر فيه الأدبيون على مراكز القرار، وإقرارهم بلسان حالهم أن العلميين ما خلقوا إلا ليكونوا بمثابة وسيلة لتحقيق أهداف معينة، وكأنهم يودون رد الصاع الصاعين لكل التحقير الذي لزمهم طوال مشوارهم الدراسي والمهني؛ ولعل كل واحد منا يستحضر قصة أو حدث يصلح للاستشهاد به على صدق هذا التنابز أو التحقير، أو ادعاء الأفضلية لتخصص على الآخر في عالم بني على تكامل التخصصات فيما بينها وليس الصراع.

ولهذا، من باب الإشارة فقط، لابد من القول أن التصور العام الذي طغى في عالمنا اليوم هو التصور المادي للحياة، والظن، بل الاعتقاد، أن الإبداع الذي يستحق الإشادة هو ما يتخذ شكلا ماديا، ونسيان لكل ما هو معنوي أو روحي، وذلك نتيجة الاعتقاد أن العلوم الحقة، لاسيما الرياضيات، ما هي إلا علوم تخدم كل ما هو مادي تجاهلا منهم لإحدى الآراء التي تؤكد على أن الرياضيات يمكن بواسطتها التعبير عن جميع المعادلات في هذه الحياة، كما قال أحد العلماء؛ أي أن كل التصرفات والأفعال يمكن صياغتها على شكل معادلات رياضية، ما يسمح لنا بادعاء أن لغة العلم هي الرياضيات، وليس كما يراد الترسيخ له بأن اللغة الإنجليزية هي لغة العلم؛ وهذا ليس دعوة إلى تجاهل أهمية اللغات، لأنها هي الوسيلة الفعالة للتواصل والتعارف على باقي الثقافات والإنتاجات العلمية وغيرها؛ وعليه، بما أن أغلب الأبحاث العلمية تصدر باللغة الإنجليزية يتوجب تعلمها حتى يتم مواكبة آخر التطورات.

وعلاقة بما سبق، فإن علاقة الرياضيات بالسياسة لا يختلف وضعها عن علاقة مجموعة من العلوم ببعضها، خاصة بعدما انفصلت عن الفلسفة كما نعلم جميعا؛ ولربما هذا الفصل أصبح من البديهيات عند الكثير، حتى أنه أصبح هدفا يراد تحقيقه على مختلف المستويات، ويمكن إدراج فصل الدين عن السياسة، وكذا الأخلاق، ضمنه ولو بدا في بداية الأمر غير مشابه له؛ وبخلاصة، فإنه جاز لنا القول أن الفصل بعدما كان أمرا عارضا في بعض الحالات، أصبح يمثل الفلسفة الجديدة للحياة، وأصبح المطلب فصل الكل عن الكل، بل واقع الحال يؤكد بالملموس السعي إلى تحقيق ما يمكن الاصطلاح عليه نظرية الفصل، ومحاربة كل ما من شأنه أن يحقق الوصل بين الأشياء، أو ما يمكن تسميته نظرية الوصل.

لكن عند النظر وتعميقه في حال العلوم والأبحاث الحديثة يجعلنا نقتنع باعوجاج الفلسفة الجديدة للحياة القائمة على نظرية الفصل وليس الوصل؛ وذلك بعدما عاينا مجموعة من الأبحاث العلمية والنظريات الحديثة قد بدأت تنحو إلى التعاون أو الوصل بين مختلف العلوم، وليس العكس؛ ولهذا قد يستغرب البعض توظيف الرياضيات في إنتاج نظريات في العلوم الاجتماعية، لاسيما في ما له علاقة بالسياسة والتدبير؛ بل قد يتساءل المرء عما يمكن أن تقدمه الرياضيات في تحليل وإيجاد الحلول للإشكالات الاجتماعية والسياسية بالأخص، لما تعرفه من تعقيدات لا حصر لها، في حين أن الرياضيات دقيقة بما يجعلها قادرة على معالجة ما هو ظاهر وواضح؛ ولكن باستحضار المقولة السابقة عن قدرة الرياضيات تجرنا إلى القول أن العيب ليس في قواعدها، بل طريقة فهمها واستيعابها، فكم من شيء نعاديه لأننا نجهله كما يقال.

كما يقال بالمثال يتضح المقال، فإن تصرف الدولة بشكل عام وكل ما يحمله من تعقيدات يكاد وصفه بأصعب مما يمكن تخيله، فكيف باستيعابه على الشكل السليم؛ وأما تصرف الدولة الموجه للخارج، أي السياسة الخارجية وكل ما يرتبط بها، فيعتبر من القضايا المتشابكة لما تحمله من تناقضات وإشكاليات، ذلك أن ارتباطات الدولة بالمجتمع الدولي وانخراطها في السياسة الدولية في غاية التعقيد؛ ولعل نظرة خاطفة إلى مستجدات الساحة الدولية وما تعرفها من اضطرابات في القارات الخمس، لاسيما في الشرق الأوسط، تجعل المرء محتار في كيفية التعامل معها وما التحليل الممكن تقديمه لتصرفات الدول تجاه كل ذلك؛ إلا أن البحث في أحدث النظريات خلال الألفية الثالثة، يخبرنا بوجود نظرية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية ذات الطابع الرياضي، ودارسها يتفاجأ بالمبيانات الكثيرة والمعادلات الرياضية والتي تعبر عن تصرف الدولة بصيغ رياضية، بل تم التعبير عن كل الافتراضات والاستنتاجات بهذه الصيغ؛ حيث حاولت النظرية مقاربة مختلف العناوين كالصراع والإنفاق العسكري والتحالفات وغيرها من العناوين ذات الصلة بالعلاقات الدولية بالصيغ الرياضية؛ ولأن المقام لا يسمح للتفصيل أكثر، نتمنى أن نوفق في قادم الأيام في تفصيل ذلك.

وفي الختام، نقول: إن ما تعرضت له العلوم، والحياة بشكل عام، من التأثر بنظرية الفصل، جعل الكثير من الباحثين، فضلا عن غيرهم، يعتقدون بأفضلية علم على الآخر، والانتصار لتخصص دون غيره، متناسين أن الحياة قائمة على الوصل بين الأشياء وليس الفصل، ونقصد هنا بالشيء كل ما هو معنوي أو مادي، حتى صار الاهتمام من المرء لا يقع إلا في توجه وحيد لا ثاني له، معتقدا أن كل مجال يتوقف فهمه على التخصص المعني به بعيدا عن التخصصات الأخرى، لاسيما إن تعلق الأمر بالجمع بين ما هو من العلوم الحقة والعلوم الاجتماعية كما هو حال السياسة والرياضيات.

ولعل المتأمل في واقع الحال، لا يحتاج لكثير من النظر حتى يثبت له ما يمكن أن يحدثه التعاون بين العلوم والتخصصات؛ ذلك أن ثورة الذكاء الاصطناعي الآتية لنا من الدول المتقدمة تكنلوجيا لا تدع مجالا للشك أن نظرية الوصل أقوم من الفصل بين الأشياء بمختلف معانيها؛ بل إن دعوى إمكانية التعبير عن كل التصرفات بمعادلات رياضية هو ادعاء قوي وسليم، وأن منطق الرياضيات يتسع لأكثر من ذلك؛ وخير شاهد عليه هو هذا الذكاء الاصطناعي الذي لا يقوم إلا بالرياضيات، فضلا عن مثال النظرية التي أشرنا إليها والمتعلقة بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية؛ بل حتى ادعاء أن لغة العلم هي الرياضيات هو ادعاء سليم.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

حسن المرباطي

Share
  • Link copied
المقال التالي