قرأت في هذه الأسابيع الماضية كتابين من أفضل ما كتب في فلسفة السياسة والإجتماع: (طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد – للكواكبي) و(مقالة العبودية الطوعية – لايتيان دو لا بويسييه الفرنسي).
أبدأ بأفكار كتاب الكواكبي وفي المرة القادمة إذا سنحت لي الفرصة أعرض فيها أفكار مقالة لابويسييه.
الكواكبي من المفكرين القلائل في التراث العربي الإسلامي الذين عالجوا معضلة الاستبداد معالجة قانونية.
قسم الكتاب إلى تسعة فصول رئيسية (حسب النسخة المتوفرة لدي)، يبحث فيها الكاتب العلاقة بين الاستبداد وشتى مجالات الحياة فيخلص إلى ثلاث نقاط رئيسية في اجتثاث عروق الاستبداد:
- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.
- الإستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدرج.
- يجب قبل مقاومة الإستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الإستبداد.
من خلال قراءتي للكتاب يتضح أن الكواكبي سبق زمانه في وضع هذه القواعد لتغيير الإستبداد مثل مسلمات الهندسة الأقليدية، صالحة لكل زمان ومكان – على حد تعبير الكاتب خالص جلبي-. فكل شعب وكل أمة تريد التخلص من مرض الطغيان، لابد من أن تتبع هذه الوصفة في العلاج، لأن النفس عندما تكون متطبعة على العبودية لا ينفع معها الحلول الترقيعية.
يرى الكواكبي أن التغيير السياسي لا يتم بتغيير الحاكم بالحاكم الآخر، والسبب هو أن مستبدا جديدا سوف يحل محل المستبد القديم ما لم تتغير عقلية المجتمع ونبذه للإستبداد جملة وتفصيلا. ولنا أسوة في النبي محمد (ص) عندما رفض الملك الذي عرضته عليه قريش ثمنا للتخلي عن دعوته. رفض النبي (ص) العرض لأنه كان يعلم علم اليقين أن تغيير ما بالنفوس هو الطريق السليم لخلق مجتمع راشد واعي بحريته وكرامته، لا مكان للإستبداد والطغيان فيه.
مقاومة الإستبداد يتم بتغيرالإنسان عبرنشر الوعي والمعرفة ليعي أن الإستكبار والإستضعاف ليسا طبيعيين. ومن يقرأ القرآن قراءة سننية – قانونية يجد أن مرض الإستكبار والإستضعاف عالجه معالجة سيكولوجية
“إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار” (س. البقرة).
الظلم نوعان: ظلم يوقعه شخص بآخر، وظلم يوقعه الإنسان بنفسه. وهذه الإزدواجية في إحداث الظلم هو لب المشكلة التي تعالجها الآية.
وفي آية أخرى من سورة سبأ يعرض علينا مشهدا كاملا لهؤلاء الظالمين بصنفيهما:”ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين”
إن هاتين الآياتين والآيات الأخرى المشابهة في القرآن تكشف عن نفسية كلا الطرفين: مستكبرين ومستضعفين. فالمستضعف عندما يغفل ويضعف يكون قد هيأ المناخ للمستكبر ليتجبر ويطغى، وكلما ضعف المستضعف زاد تجبر المستكبر، أو كما يقول المفكر خالص جلبي في كتابه (في النقد الذاتي):”أي مثل كفتي الميزان إذا ثقل أحد الطرفين بوزر الاستضعاف ارتفع الطرف الثاني بشكل آلي إلى موقف الاستكبار”.
فالطغيان نتيجة لحالة مرضية تصيب المجتمع فتتحول شريحة من شرائحة إلى عبيد مستضعفين وشريحة أخرى إلى مستكبرين متجبرين يقولون: نحن ربكم الأعلى، عليكم بالطاعة والخدمة، لا نريد منكم نقدا ولا عصيانا… فيسقط المجتمع بأسره في مطبة النسيان لكرامته وحريته.
يقول لابويسييه في كتابه: مقالة العبودية الطوعية: “إنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب (الناس) متى تم خضوعه يسقط فجأة في هاوية عميقة من النسيان لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ. لا مناص من التسليم بأن سلطان الفطرة (الطبيعة) يقل عن سلطان العادة عملياً، لنقل إذن إن ما درج عليه الإنسان وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي”.
يقول الكاتب جودت سعيد معقبا على هذا النص للابويسييه: “وإذا كان الكاتب – من خلال هذه العبارات – يندهش ويعقد الاندهاش لسانه في بيان خضوع الناس للوهم والمهانة، فإن الاندهاش يعقد لساننا من إجماع الناس الخرافي للتسليم بحق الظالم والمفسد في أن لا يخضع للقانون والمحاسب”.
إن أشد الظلم وأقبحه هو الظلم الذي يلحقه الإنسان بنفسه لأنه هو السبب الذي يهيأ المستنقع الآسن لبعوض الإستبداد ليفرخ ويتكاثر. والإستبداد لا يمكن أن نغيره تغييرا جذريا إلا بنشر المعرفة وتوعية الشعب بأضراره الأخلاقية والإجتماعية”.
الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدرج” هو البند الثاني الذي وضعه الكاتب في تغيير الاستبداد. يجب أن يتم التغيير بالسلم والتدرج كما قام به الأنبياء في تغيير مجتمعاتهم “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
لا فائدة البتة من الانقلابات العسكرية والسياسية العنفية. يجب أن نعي أشد الوعي أن مثل هذه الانقلابات لا تحل مشكلة الاستبداد بل تزيده تعقيدا على تعقيد. فالكواكبي رحمه الله كان مقتنعا بشر الانقلابات العنفية فوضع هذا القانون: الطغيان لا يقاوم بالعنف لأن العنف يولد العنف، هي حلقة شيطانية لن تنتهي إن لن نضع لها حدا بالتغيير السلمي المعرفي التوعوي مهما كلفنا من تضحيات ووقت.
بل حتى ولو وصلت الأحزاب السياسية إلى سدة الحكم عن طريق صنادق الاقتراع لن تستطيع أن تغير شيئا من الوضع السائد. والثورات الأخيرة في العالم العربي تؤيد هذا الكلام. بعد انتفاضات ما يسمى بالربيع العربي أتيحت الفرصة لبعض فصائل الإسلاميين ليصلوا إلى سدة الحكم عبر صنادق الإقتراع، وماذا كانت النتيجة؟ لم يهب الشعب للدفاع عن الديمقراطية والوقوف في وجه الإنقلابيين!
الديمقراطية لها أصولها وقواعدها النفسية والأخلاقية يجب أن يربى عليها الشعب أو أغلبيته -بتعبيرالكواكبي- عبر نشر المعرفة لتتمكن من نفسه ويعدها من الثوابت لا يتنازل عنها مهما تعرض للضغط والتنكيل والإغراءات وشراء الهم!.
وهذه العملية هي مكلفة طبعا، تحتاج إلى الصبر والنفس الطويل وفهم سنن الله في الأنفس والمجتمع لجعلها قيد تصرفنا وخدمتنا في مواجهة الإستبداد مواجهة سلمية قانونية لا فوضى فيها ولا تهور ولا حلول ترقيعية كالانتخابات الحرة عبر صنادق الاقتراع.
“يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد” هو البند الثالث في مشروع تغييرالإستبداد للكواكبي.
كان الكواكبي يدرك منذ أكثر من 100 سنة بوعي تاريخي أنه يجب قبل تغيير الاستبداد إيجاد البديل، فيقول: “معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا، بل لابد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل، أو لرأي الأكثرية التي هي فوق ثلاثة أرباع عددا أو قوة بأس، وإلا فلا يتم الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعا يكون الإقدام ناقصا نوعا، وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم فهؤلاء ينضمون إلى المستبد فتكون فتنة شعواء، وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط تكون حينئذ الغلبة في جانب المستبد مطلقا”.
المقصود من كلام الكواكبي هو: ما لم يكن البديل جاهزا فلا معنى للتبديل، فننتقل من الطغيان إلى الفوضى كما يحدث حاليا في كثير من بلدان الشرق الأوسط. التخلص من الاستبداد هو نصف المشكلة ونصفها الآخر هو البديل وهو الأصعب. ولذلك عندما ينتج الفراغ عن رحيل المستبد ولم يهيأ ما يملأ به هذا الفراغ يأتي مستبد آخر ليملأه.
ويبدو أن النخبة المثقفة في العالم العربي لم تنتبه إلى هذه القوانين للكواكبي في تغيير الاستبداد والعمل على بلورتها وتبليغها إلى الناس كما حصل في الغرب مع أفكار “مقالة العبودية الطوعية للابويسييه” التي تولت كوكبة من المفكرين والفلاسفة دراستها ونشرها وجعل أفكارها ميثاقا بين الدولة والأمة حتى صار الغربي إذا أخذ على يد ظالمه ومستبديه فلا يفلته حتى يشلها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها –بتعبير الكاتب -.
تعليقات الزوار ( 0 )