المدخل السليم لقراءة نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، الذي تم يوم الفاتح من نوفمبر الأخير، هو توكيد حالة من المرض المزمن الذي تعاني منه السلطة، أدخلها منذ مدة طويلة حالة احتضار، لا تلبث أن كشفت عنها المواعيد الانتخابية، ليس آخرها نتائج الفحص الأخير الكاشف عن رفض الشعب لمشروع الدستور، كما سبق له أن رفض الرئيس الحالي يوم 12/12/ 2019، الذي يعاني بدوره من مرض السلطة، قد يعيد دوامة وضع الرئيس المزاح بوتفليقة ونظامه غير الدستوري.
الظاهر دائما أن الدساتير في الجزائر توضع لأصحابها، وليس لإدارة الدولة ولتدبير شؤونها العامة، وهُمْ أيضا ضحاياها. والمستجد في الحالة الجزائرية أن مشروع الدستور الجديد، وَرَّط البلد كله في أزمة حقيقية، أفصحت عن صعوبة تسيير البلد بدساتير لا تحوز أي شرعية ولا تحظى بأي اعتبار شعبي ولا مؤسساتي، ناهيك من أنها وثائق لبناء وانهيار أنظمة سياسية قائمة على العصابة والشلة والدوائر الفاسدة.
والحقيقة، أن العناد الذي تصر عليه السلطة القائمة، هو من نوع العناد الذي يكشف عن مرض عضال تعاني منه على ما تفصح عنه الشهادات الطبية لكل رموز وأعمدة وأركان السلطة، عسكرية كانت أم مدنية. فقد قام الشعب بما يكفي من نضال سلمي ومسالم، بادل النظام لغة سياسية قل نظيرها في العالم، إلى حد أن السلطة آلت إلى أن تنتقم من نفسها، ودخلت حالة من الانتحار البطيء، الذي لا ينفع معه دواء، إلا استعادة الجزائر لاستقلالها وعافيتها من نظام يحتضر. فالشفاء والعافية بِيَدِ الشعب بعد العياء التام، الذي أنتاب السلطة ومفاصلها، بالمعنى الطبي قبل السياسي. المشاركة الزهيدة للشعب الجزائري في الاستفتاء على الدستور لنظام الحكم الجديد، عبّرت عن خيبة عارمة تبطل أصلا كل معاني الشرعية، سواء أكانت سياسية أم قانونية أو حتى أخلاقية. فطبيعة الاستفتاءات توضع من أجل أن تحوز المشاريع المقترحة قبول ورضا دائرة واسعة من الشعب، خلاف الانتخابات التنافسية بين الأحزاب، التي قد تقل فيها المشاركة بسبب عدم الاهتمام ببرامج الأحزاب والاعتراض عليها. فالاستفتاء على الوثيقة القانونية الأساسية، يفترض فيها القبول من دائرة واسعة من الشعب، الأمر الذي لم يحدث مع مشروع الدستور الأخير، الذي كان ينطوي في ثناياه وأحشائه على قَرْصَنة حقيقية جديرة بتنظيم العصابة، إذ نص على المصادقة على مشروع الدستور، بناء على أغلبية من شاركوا في الاستفتاء، حتى لو كانت ضئيلة لا تكاد تذكر على ما هي النتيجة التي تمخضت عنه: أقل من ربع السكان صوّتوا بالقبول مع التزوير، الإجراء القوي والملازم الضروري لانتخابات لحزب السلطة/ الإدارة.
من جملة القراءات التي يمكن أن نَفْهَم بها نتائج الاستفتاء على دستور النظام القائم، أن الخطاب السياسي الرسمي يتعارض تماما مع ما يطمح إليه الشعب، وأن وجهته تختلف، في المطلق، مع ما تصر عليه سلطة مُقْعَدة، تنتظر الموت الأخير. ومن ثم فإن وثيقة الدستور وضعت بلغة غير مفهومة وغير معقولة، ولا تنطوي على أي شرعية بقدر ما أن السلطة ذاتها تحوّلت إلى جهاز قاتل لا يرحم، يفتك بصاحبه ويدمره شر تدمير، لعلّ المشهد المروع ما نشهده اليوم في الجزائر، حيث رئيس سابق يحتضر، ورئيس قائم آيل إلى الاحتضار بدوره. الثابت في الحالة الجزائرية، أن الدساتير على كثرتها واختلافاتها، أنها توضع أصلا لأشخاص، وليس لمؤسسة اعتبارية، تَجْتَرح الكوارث وتُدَشّن عهودا غير معهودة من الفساد والدمار «القانوني» للمال العام. تلك هي خاصية الوثيقة الأساسية في الجزائر، ولعلّ استشراء الفساد وطغيانه، هو الذي عجّل بضرب السلطة ذاتها قبل أن تمارس الحكم في ظل هذا الدستور الجديد/ القديم. فالعادة، أننا دائما ننتظر المدلهمات والكوارث التي ترتبها الدساتير، وهذه المرّة لم يطل الانتظار، بل تمت الهزة العنيفة قبل توقيع الرئيس عليه. الدستور في صياغته الأخيرة، هو حصيلة لدائرة ضيقة من خبراء سماسرة في قانون الاحتيال والسطو على إرادة الشعب وتحريف وجهته. فما يعرف عن رئيس لجنة إعداد وصياغة الدستور، التي رفضها الشعب يوم الفاتح من نوفمبر الأخير، هو أيضا صانع الدستور المؤسس لسلطة عصابة بوتفليقة، وأخطبوطها الفاسد في الدولة والمجتمع على السواء. فيما مواد الدستور ذاتها انطوت على ركام من الاقتراحات المتنافرة والمتناقضة والمتعارضة، لا تنتظم تحت أي نظرية للدولة، كما تدرس في العلوم القانونية والسياسية، ولا كما خبرناها لدى الأمم والدول القائمة اليوم في هذا العالم المذهل في طريقة التسيير والتدبير.
إن نتيجة التصويت الزهيدة التي حظي بها الدستور الأخير، تحيله إلى وثيقة تحكمها اعتبارات سياسية لا قانونية، لا يمكن اعتبارها إطلاقا أرضية لمؤسسات دولة، ومن ثم تبقى عرضة للانتهاكات والاختراقات، على ما بدأنا نلحظ في كيفية التعامل مع لحظة ما بعد الرئيس الحالي، وترتيب الوضع بعيدا عن بنود الدستور ومفرداته، على النمط نفسه والطريقة نفسها التي أدار بها قائد أركان الجيش السابق لحظة ما بعد الرئيس بوتفليقة، وتلك هي الجزائر الجديدة القديمة، أي حديث جديد عن نظام قديم. إن الموت الصعب لنظام حكم عسكري في الجزائر، أن المادة الحيوية التي يعيش بها هي الشعب، كركن ركين في مؤسسة الدولة، ومن هنا عناده في عدم مغادرة السلطة وتركها للشعب، على ما تصنع كل الأمم والدول والمجتمعات في عالمنا المعاصر، فالسلطة المريضة لحد الاحتضار تغتصب المادة الحيوية للشعب، مثل إنجازه العظيم للحراك، الذي سارع النظام إلى احتكاره في ما أطلق عليه «الحراك المبارك» وقد تبناه زورا ونفاقا وظلما أيضا، لأنه يتناقض تماما مع منطق السلطة القائمة ومراميها الفاسدة\، لكن اعتبارات السياسة وقوتها «الدستورية» هي التي سمحت بعملية قرصنة ومصادرة الحراك عنوة من الشعب وإدغامه في صلب السلطة القائمة، كجهاز لتجريف مقومات الدولة والمجتمع في ما هو قائم وتراث ومستقبل. فالنظام، على ما نلحظ ونرى، نبات طفيلي يتسلق شجرة غير جديرة به، يتغذى ويقتات منها بلا حياء ولا خجل.
عندما يؤول الدستور إلى وثيقة سياسية لنظام عصابة وليس لدولة مؤسسات، يفتح باب النهب والاغتصاب والاختراق على مصراعيه، للنيل من رموز وتراث ومقومات الجزائر والجزائريين، على ما عاينا وعانينا من استغلال فاحش وصادم لمقدسات الدين والتاريخ، بلغت أخيرا إلى هتك وتبديد أعظم إنجاز ديني: مسجد الجزائر، وأكبر إنجاز تاريخي : ثورة أول نوفمبر. والمشهد ذاته يعيدنا إلى سنوات الجمر التي عاشتها الجزائر في سياق الحرب الأهلية، عمد فيها النظام، في ذلك الوقت، إلى تدشين مسجد الأمير عبد القادر، لعلّه يخفف من جرم السلطة في حق الشعب. والمسلسل قائم يكرر نفسه، ونظام يعيد تأهيل نفسه، وشعب يريد أن يخرج من أسره.
تعليقات الزوار ( 0 )