Share
  • Link copied

الإيروس الحضاري

ليس غريبا أن يكِون السرد صورة نفسية للمؤلف، وليس غريبا أيضا أن تعود اللغة إلى تركيب الدلالة المرتبطة بالنسق والغاية في الآن نفسه. فالمنطق الإكلينيكي للغة يربط بين الجواني والبراني، وبين الفكر والإحساس، وبين الشعور واللاشعور. عوالم الأدب تنفلت من عقال الذات لتأخذ طريقها نحو الصورة الداخلية للمؤلف، بما هو الفاعل الأساسي في العملية الإبداعية. حري بهذا كله أن نستطلع الدواخل، التي هي عبارة عن دفقات شعورية أكثر تحررا من ذي قبل، فالكشف عن النسق الداخلي، الذي ينتظم عنده الإبداع، يجعلنا على تواصل دائم ومستمر بالنص واكتشاف لذته.

ودون هذه الانعطافة القوية في مسار الأدب، في منتصف القرن الماضي، حيث بزغت، وسيغموند فرويد، أحجار بارقة اللمعان في الأفق، بما أغنى الأدب بسلسلة من التحليلات الكاشفة عن الجوهر الغامض، وعن اللب المبهم خلف الحجب الكثيفة، وأحد أهم الأسرار في حياة البشرية. نستطيع من خلال هذا كله، أن نكشف عن عصابية المؤلف انطلاقا من لغته المنفلتة من بين أنامله، السيالة كالماء النمير. علاوة على ذلك، يصبح الإبداع، حسب فرويد، خريطة أحلام انطلاقا من مؤلفه الشهير «النظرية العامة للأمراض العصابية» الذي ترجمه جورج طرابيشي.

إن هذه المحاضرات التي ألقيت على الطلبة في العشرية الأولى من القرن العشرين، وفي أعتى الجامعات الأوروبية والأمريكية، كانت تضع المبدع في قلب العاصفة، من زاوية ترجمة الإحساس والدفقة الشعورية في العملية الإبداعية. فالعلاقة التي كانت تربط عواصم أوروبا الاستعمارية؛ لندن وباريس وروما مع مستعمراتها في الشرق والغرب العربي، كانت مبنية على أساس من الاستغلال وبسط النفود والهيمنة الاقتصادية المطلقة والتبعية الثقافية إلى حد الإذلال الأيديولوجي. من هذه الزاوية الدقيقة جدا كان استلهام النظرة الفرويدية، نسبة إلى سيغموند فرويد، إلى الآخر مبني على الذكورة المطلقة، وما يعتمل فيها من الإيروس الشبقي.
فأبطال هذه الروايات، كلّها، يكونون توَّاقين إلى العلم والمعرفة، لذا تكون باريس أو لندن، باعتبارهما عاصمتي الفن والأدب، قبلة هذا الفاعل في السرد والحكي، فضلا عن تمثله ـ أي البطل ـ لأخلاق ذات حمولة فكرية وأيديولوجية مغايرة، بل متناقضة أحيانا. فالآخر الأوروبي غالبا ما تكون أنثى ذات حسن وجمال، تقتسم والبطل السمتَ نفسَه، ألا وهو البحث عن تكوين الذات معرفيا وثقافيا. هذه العلاقة التي تأخذ أبعادا تفوق ما هو جنسي، ينظر إليها المحللون النفسانيون على أنها علاقة إيروسية حضارية. تهدف إلى الانتقام من الآخر الأوروبي، حيث إنه السبب الرئيس في تخلف الذات وقهرها وتهميشها وعيشها خارج الحضارة والتاريخ.

فلا يمكن أن نفهم أتباع سيغموند فرويد، وأتباع المفكر الفرنسي جورح بتاي، إلا من زاوية أنهم ينظرون إلى الإيروس في الأدب، على أنه مشدود إلى حبل آلهة الحب والرغبة في الميثولوجية الإغريقية، فلا تستقيم هذه العلاقة إلا من خلال ربط جسور الحب، والتعرف على بنيات الآخر؛ لبسط اليد على نقط ضعفه، وبالتالي التحكم في مصيره.

فمن بين أهم الروايات العربية المؤسسة لهذه الشبقية الحضارية، نجد رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للسوداني الطيب صالح، والروائي اللبناني سهيل إدريس في روايته المائزة «الحي اللاتيني» أسوة بالمسرحي توفيق الحكيم في روايته الذائعة الصيت «عصفور من الشرق» وحتى لا ننسى المغربي المؤرخ والأديب عبد الله العروي في روايته «اليتيم» التي أطبقت شهرتها كل الآفاق. يقول عبد الله إبراهيم، «الشخصية الرئيسية في هذه الأعمال الإبداعية هي على الدوام رجل إلا في استثناءات قليلة جدا، ويعود ذلك إلى أن الرجل الشرقي، هو المعني بشكل مباشر بمسألة الصراع الحضاري، لأن ثأره يتم وفق طقس جنسي».

ومن أجل كل ذلك، يكون إثبات الذات، عبر هذه العلاقة الحميمية، التي نادرا ما يتعفف عنها بطل الرواية، حافزا قويا؛ لأن في متخيله ـ أي البطل ـ أن الآخر الغربي مهما كان عتوه العلمي والحضاري، فإنه يعيش في شرنقة أنثوية بحاجة إلى الرجل؛ ليكتمل صرح الشخصية المشوهة، التي جاءت نتيجة نهب ثروات أمم الشرق والغرب. فاللغة الإكلينيكية تعود لتفسر ما جُمّل في أغلب هذه الروايات، التي تجسد الصراع الحضاري بين الغرب المتفوق والشرق الممزق. يقول الطيب صالح: «تخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا، في هذه اللحظة، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال.. وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة، وهي إلى جانبي، أندلس خصب، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم…». إن الربط الذي كان يسعى إليه أمين حسن وإيزابيلا سيمور هو ربط تاريخي بامتياز، جاء نتيجة فتح العرب للأندلس، لتشهد اقتحام الإسلام لهذه الربوع من أراضي الإفرنجة. وقد تمت استعارة هذا الفتح بفتح آخر أكثر أهمية هي تلك العلاقة، التي ربطها حسن مع سيمور، وهما في غرفة النوم يتبادلان الحب. وبالموازاة تكون اللغة شبقية ـ إيروتيكية تتصيد معجمها وتستقيه من حمى علاقة حميمية أسرت أبطالها.

من خلال ذلك، رحل عبد الله العروي إلى التاريخ، وهو مؤرخ، بهدف بناء تلك العلاقة التي تربط إدريس بمارية الفتاة الأوروبية ذات الخصلات الحريرية، يقول العروي: «إلى أين؟ خيل إليّ أن السؤال فاجأ مارية. التفتت إليّ وحدقت في وجهي، وهي تبتسم. كانت على وجهها علامات الرضى والاطمئنان والثقة في النفس. دون أن تجيب نزعت القبعة، فانسدل شعرها خصلات حريرية…». فالتركيز على تصيد المفردات عند العروي، يوحي بالإثارة الجنسية، وبالتالي فهي رغبة جامحة تكتسح سرير الجسد، وغالبا ما ينزع أبطالها نحو الربط التاريخي لهذه العلاقة، التي يتم نسجها طرفان غير متكافئين، لا حضاريا ولا ثقافيا.

وإزاء ذلك، يكون أبطال هذه الروايات قد حققوا، في نظرهم، نصرا غير معلن، بل انتقاما حضاريا لخدش الصورة، التي صنعها الإعلام الغربي للفاتح الغازي، حاملا معه مفاتيح الحضارة والتقدم. ونحن في خضم هذا البحر المتلاطمة أمواجه؛ من تداخل بين شرق العالم وشماله وغربه وجنوبه، بفعل الصحوة البيوإلكترونية حيث أصبح العالم في راحة يد طفل صغير، هل الآخر لا يتم اقتحامه إلا عبر ما هو شبقي إيروتيكي؟ أم ثمة وسائلُ أخرى أكثر نجاعة بفعل هذا التطور، الذي شهدته الإنسانية عبر تاريخها الطويل.

Share
  • Link copied
المقال التالي