Share
  • Link copied

الإنسان بين الانقياد والعصيان

قرأت هذا الصباح سورة العاديات فأخذت أتأمل أياتها ، فكشف الله لي  عجائبها واسرارها ، وقد كنت  فيما مضى أقرأها ، فلا أفهم  معناها وما سر علاقة الخيل التي تجري بالانسان ، وكنت محجوبا  عن الرؤية ، وقلبي مغلقا بسبب التيهان في بحر الدنيا ،ولم يكن يظهر لي وجه المناسبة بين الانسان والخيل .

وكان يتسرب الي الشك في  ماهية وجه الاعجاز ، في هذه السورة وكنت أقرأها بغباء  وأمر عليها مرور الكرام ،

 و كنت فيما مضى قد استمعت لترجمة بالدارجة لهذه السورة كان قام بها المتنصر المغربي الأخ رشيد ،  فأثارت في ترجمته شكوكا،  وحيرة في نفسي ولم أستطيع الرد  ، لكني كنت اعطل عقلي وألجأ الى الاستسلام والإيمان .

لكنني هذا الصباح قرأت هذه  السورة بقلب منفتح وبصيرة وروح شفافة ، فاكتشفت عجبا ، وقد  عرضت ما توصلت اليه على زوجتي   فابدت اندهاشا وإعجابا.

الله سبحانه وتعالى يتحدث عن العاديات ضبحا وهي الخيل  التي تعدو  عدوا قويا ، فيصدر  عنها ضبح وهو الحمحمة، وهي صوت الانفاس التي تخرج من صدرها عند شدة إسراعها ،وينتج عن هذا العدو ان الموريات وهي حوافر  الخيل  ، التي تنقدح منها شرارات،  النار عندما تطأ أقدامها الأحجار، 

ويحدث كل ذلك عندما تكون الغارة على الأعداء صباحا ، فيتناثر  النقع  وهو  الغبار ،  عندما تتوسط هذه الخيل جموع الاعداء ولا تتراجع ولا تخاف ، طائعة منقادة لصاحبها  ومالكها وهو الفارس الذي  يركبها ويمتطيها.

ثم ينتقل الله سبحانه وتعالى للحديث عن الانسان الكنود المنوع غير المعترف ، الجحود لنعم الله ، والذي أخرجه من العدم إلى الوجود ، ومن الإماتة  الأولى الى  الحياة ، بعد أن لم يكن شيئا  وكرمه وخلقه وسواه رجلا ، ومن نطفة مهينة ،  أخرجه من بين الصلب والترائب ، و من ظلمة بطن امه الى نور  الدنيا وبهرجتها ، ثم جعله طفلا  صغيرا ضعيفا بلا حول ولا قوة محتاج الى الغذاء من ثدي امه  الذي بث فيها حليبا لينا ا أبيض  صافيا  يضع الله بعد ذلك الحنان في قلب امه و العطف في قلب  ابيه ، ويبث الله في قلبيهما  فطرة حب الأبناء والتضحية من اجلهم  بالغالي والنفيس .والجهد والشقاء.

ثم يكبر هذا الانسان وينسى ضعفه وعدمه ، ويصبح قويا فتأخذه العزة بالنفس ويعجب بجماله ومعرفته  وذاته  وعلمه،  فيعتقد نفسه إلآها  ، ويتخذ إلهه هواه ، فيقع في حبائل الشيطان ويمشي  فوق الأرض مختالا،  فخورا مرحا ، فيعيث في الأرض فسادا وظلما ، ولذلك يقسم الله، في سورة أخرى   قائلا كلا إن الإنسان ليطغى  ، أن رآه  استغنى ، عن الضعف والاحتياج  وأخذ يشعر بالقوة والطغيان .

لكن الذي يثور في ذهن أي قارئ مؤمن او متشكك ، ما هو وجه المقارنة بين الخيل التي تجري  وجحود الانسان  ؟!!

 لماذا تحدث الله عن هذين الموضوعين المختلفين ؟!!!

 والذي يبدو لأول وهلة انه لا توجد أية علاقة او مناسبة بين الموضوعين  ، ويبدو لاول مرة ،  لأصحاب العقول المحجوبة عن الحق العقول  الظاهرية المادية  ، أن الأمر عبثي ، وان الكلام ليس معجزا او  إلآهيا  ، وإنما هو كلام بشري متناقض ومهلهل ومفكك .

لكنني اكتشفت بحمد الله  وجه الاعجاز العظيم ،

إن الله يريد أن يقول لنا في لغة إشارية رمزية تتغلب على العبارة ،

 انظر يا  أيها الإنسان  الى هذه الخيل التي تنقاد  وتجري مطيعة لصاحبها الذي اطعمها  ورباها  حتى تعلو انفاسها في صدرها ومع ذلك تقتحم ساحة الوغى والمعارك رغم مخاطر السيوف  والحراب مطيعة مستسلمة منقادة  ،

وانت يا  الإنسان تكفر بربك وتجحد  نعمته ،

إذن لقد كشف السر  ، ورفع الحجاب والغطاء ، ووجه المناسبة بين المقارنة بين الخيل والإنسان  ، بين انقياد واستسلام وطاعة الخيل  وبين عصيان وجحود. الانسان .

إنه الإعجاز  القرآني البلاغي البياني الرباني الذي يتجاوز  المعنى الظاهري  فيسري كلامه  المعجز  في الكون والكائنات ،  فتنكشف أسراره للعقول دون انقطاع ما استمر الزمان في الدوران والمكان في الوجود .

ويختم الله هذه المقارنة بين الطاعة والعصيان والانقياد والجحود .

أن الله شهيد على هذا الكنود ولذلك يتوعده   بالوعيد والتهديد ،

قائلا له ،يا أيها الإنسان المنكر  الكافر إنك تحب الخير ، والمال وتتورط في حب الشهوات من النساء والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة ، وتغفل عن الحقائق الساطعة وتغشاك الغفلة ، وتمتلكك الأشياء.

يا ايها المغتر  بنفسه ، ستموت مهما طالت صحتك وقوتك وستعود محمولا على آلة حدباء مهما طالت سلامتك  وستعود إلى ظلمة القبور كما كنت في ظلمة الارحام ، 

أتحسب انك ستنتهي الى الأبد وتصير ترابا كلا ،  يقول الله تبارك وتعالى:(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ , قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:79-80] صدق الله العظيم

كلا إن من أحياك  أول مرة  حين لم تكن شيئا مذكورا ، ومن نطفة اخرجك رجلا  هو قادر  على ان يحييك في  أي شكل من الاشكال  ويبعثك  فسبحان من يحيي العظام وهي رميم ،

 قال تعالى :(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)صدق الله العظيم .

وبعد بعثك ايها المغرور  المنكر  للآيات الباهرات، الدالة على وجود الله ، أيها الظالم لنفسه ، ستكتشف الحقيقة متأخرا، فليس بعد الموت رجوع قال تعالى :{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }   [المؤمنون 99 – 100] صدق اللهةالعظيم،

فعندما تتوقف الأنفاس و ينتهي الأجل و يحين موعد الانتقال الى العالم الآخر ، سيتمنى كل مفرط لو رجع و عاد  ليعمل صالحا ، و لكن هيهات هيهات , لقد ضرب البرزخ  بينه وبين الدنيا الفانية ، وتحولت الدار و تغيرت الأحوال حيث لا آمال و لا أعمال و إنما هو حساب و جزاء.

عندئذ   يحصل الله ما في الصدور ويظهر  ما كان مستترا  وما كان كامنا ، في القلوب من كمائن الخير والشر ،فيصير يوم القيامة والحشر العظيم مكشوفا  للعالمين يوم العرض العظيم.

ويختم الله  هذه السور ة  الرائعة في بلاغتها ومجازها. الباهرة في معانيها   يومئذ  الله  خبير بأعمالهم الظاهرة والباطنة الخفية والجلية ومجازيهم عليها فينال المؤمنون الصالحون الاخيار. ، الجزاء الأوفى  جنة  الفردوس والمأوى وينال الظالمون الفاسدون المنكرون الأشرار ،   الجحيم  والعذاب الأقسى.

وما يستحقونه من عقاب أبدي  خالد.

 والله وحده يعلم نوع العذاب وشكله وهو بالتاكيد يفوق اي  تصور دنيوي يمكن ان ينشأ في الأذهان ، لأن هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

،فاعتبروا يا أولي الألباب ، قبل أن تنعدم الإرادات ، ويساق المجرمون الى جهنم زمرا.

Share
  • Link copied
المقال التالي