Share
  • Link copied

الإنسان بين الألم  والمثالية

في خضم التطورات المتلاحقة التي تفرضها علينا معطيات التطور والحداثة المستمرين، وفي  ظرفية زمانية ومكانية تخلق فينا شعور الدهشة كل برحة قصيرة، يعيش الإنسان ضمن اتجاهات ومسارب “مضغوطة” مع تعدد واختلاف أنماطها. فالمهم ليس الكيف، وإنما الكم للوصول لمثالية ترضي الإنسان عن ذاته!

فالمجتمعات اليوم تعيش سباق متسارع الخطى نحو تحقيق الإنجازات المذهلة، والبقاء خارج صندوق التقليد والعادة، لإيجاد ما هو غير معتاد، والسماح لإلحاحية الإبداع بالانطلاق والفوران، تحقيقاً ملموساً للاختلاف المحمود.

وفي ذات السياق، فإن الإنسان يستمر في مشوار “تحقيق ذاته” والتصالح معها، لحين أن يصطدم بتحديات الحياة وصعوباتها، ليقف الأمر على مستوى تحليله وتقبله وفلسفته الذاتية للموقف، فإما يتجاوز وإما ينهزم. فعلى سبيل المثال نجد أن أشخاصاً انتهت صلاحية بريقهم مع مرورهم بتجربة الفقد، وأناساً آخرون لمعوا من قلب الألم، واستطاعوا بث تجربة معرفية وأخلاقية وتنموية نوعية. وربما يعود ذلك للفلسفة الخاصة بكل منا، والتي ربطها العلماء ومفكرو علم الاجتماع الإنساني بحزمة من العوامل مثل التنشئة المبكرة، والنضوج العقلي، والقوة البيولوجية، أو الإعداد السيكولوجي، وغيرها.

وفي إمعان الظروف المذكورة، نجد أنها تتباين، ولكنها تلتقي جميعها عند معنى فلسفي واحد هو الألم، وفي صراع الإنسان وليس سباقه مع الزمن، يصدف أن يخير محتاراً بين الألم، أو استمرار نضاله الإنساني الذي يربت على شعوره الداخلي الذي يلح في طلبه لكل ما هو مثالي. وهنا نتسائل، هل الألم ضروري الحدوث في حياة الإنسان “المسكين” بسيط القدرة ومحدود القوة؟

وحتى نكون أكثر منطقية فيما نقوله فلابد من تتبع ما يمكن أن يحصده الإنسان من موسم التعب والألم،  فشعور الإنسان بالتعب، هو أولاً إنذار وتنبيه ليستطيع الإنسان ترتيب أوراقه للمرحلة اللاحقة، وهذا لا يتوقف على التنبيه العصبي الذي ينذر بوقوع أمراض أو مخاطر، بل هو “جرس” عام يسمع صوته القاصي والداني في تتبع مجريات الأيام. وأما فيما يتعلق بمدى ذلك الألم، وقدرة الإنسان على تحمله، فإن الوصول لتفعيل خواص التجربة المؤلمة للإنسان لا بد أن تعطى بمستوى غير اعتيادي، أي تتجاوز قدرته الاستيعابية التي يظن أنها مكتملة، وهذا لا يكون دون أن تخرج زمام التجربة المؤلمة خارج إرادتنا، وغير تابعة لتحكمنا وسيطرتنا، وإلا استهان الانسان بهذه التجربة وقرر إلغائها قبل حدوثها، وهذه النقطة بحد ذاتها تجعل الخلاص من أصناف وألوان الألم انتصاراً، فهو لم يحدث بسهولة، ولم يكن بيدنا دفعه بكل يسر.

يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِقِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”[1] وبالتالي فإن وجود الألم في الحياة الدنيا لا يتنافى وقدرة الخالق ورحمته وسعة علمه سبحانه.  و”الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة”[2].

هل ننتصر للألم؟

وإن هذا كله يسوقنا بطواعية ودودة للتحديق في الحكمة البالغة لله سبحانه وتعالى في الكون، بشتى تفاصيله وتعرجاته، فكيف سيكون وجود هذا الكون بلا شر؟  وإن هذا لا يعني تأييد الشر، أو الفرح بوجوده، أو تشجيع الإقبال عليه، بل هو تحليل نقدي بسيط للدعوة الجادة لإعادة وزن الأمور بعقولنا قبل عيوننا، والنجاح الحقيقي في إيجاد معنى لوجودنا ولحياتنا ولما نقوم به من أفعال مهما كان حجمها في أعيننا، فالتأزمات المجتمعية، والأزمات النفسية المستعصية بدأت من هناك، حيث فقد الإحساس بمعنى الحياة، من فقدان الشغف، وانعدام الهدف والغاية، ولذا نجد معظم إن لم يكن كل الأطباء والاستشاريين النفسيين يستهلون أسئلتهم التكتيكية لمراجعيهم ب: “ماذا تفعل بحياتك؟”، و “ما هي أهدافك وطموحاتك؟”.


[1]  القرآن الكريم، سورة هود، 118,119.

[2] محمد الطاهر ابن عاشور،  التحرير والتنوير، 178/12.

Share
  • Link copied
المقال التالي