لقد اعتبرت الصحافة منذ ظهورها، كوسيلة اتصال جماهيري وإلى يومنا هذا، إشكالية ذات حضور دائم للسلطة السياسية. وبهذا فقد تعاملت هذه الأخيرة عبر دول العالم مع الصحافة بنوع من الحذر باعتبارها وسيلة إعلامية قادرة على دعم هذه السلطة أو على العكس المساهمة في انهيارها. فعلاقة الصحافة بالسلطة السياسية يمكن اعتبارها كنتيجة للحديث عن حرية الصحافة، حيث تعتبر هذه العلاقة في مختلف الأنظمة السياسية والإعلامية محددا رئيسيا من محددات حرية الصحافة، وبهذا كان من المهم جدا اعتبار هذه العلاقة في حاجة إلى مزيد من البحث.
إنالحديث عن أي علاقة بين الصحافة والديمقراطية، قد يطرح عدة تساؤلات، نظرا لعدم وضوح العلاقة بينهما. وهو ما ذهب إليه مجموعة من الباحثين من خلال القول أنه لا توجد أي نظرة علمية شاملة وحقيقية قد تربط علاقة الإعلام بالديمقراطية أو الانتقال الديمقراطي، أو إن كان من الضروري أن تسبق عملية تحرر وسائل الإعلام خطوات الانتقال أو العكس. فما هو دور حرية الرأي والتعبير في حركيات التحول الديمقراطي؟ هل ممارسة هذا الحق يؤدي إلى الانتقال الديمقراطي؟ ام أنه فقط يؤدي إلى استمرار النظام غير الديمقراطي؟ فللإجابة عن هذه التساؤلات يمكن تصنيف الدراسات المفسرة للعلاقة بين وسائل الإعلام والديمقراطية في ضوء ثلاث اتجاهات أساسية:
- الإتجاه الأول: هذا الإتجاه يعترف بالدور الفعال للإعلام في عملية الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، على أساس أن وسائل الإعلام هي أداة ضرورية في الإصلاح السياسي؛
- الإتجاه الثاني:فهذا الإتجاه يذهب للقول أنه لا توجد أية علاقة بين وسائل الإعلام وعملية الإصلاح السياسي، وبهذا يقلل من أهمية دور وسائل الإعلام في عملية الانتقال الديمقراطي؛
- الاتجاه الثالث: يذهب هذا الإتجاه إلى القول بوجود علاقة اعتدالية تعطي للإعلام أدوارا محددة في مرحلة الانتقال للديمقراطية؛
ورغم هذه التقسيمات حول العلاقة بين وسائل الإعلام والديمقراطية، إلا ان هناك فئة كبيرة من المفكرين من يعتبر أن حرية الرأي والتعبير بصفة عامة وحرية الإعلام بصفة خاصة، هي روح الديمقراطية باعتبارها ما يجول في خواطر الشعوب وما يفصح عنه. حيث إن الارتباط الوثيق بين حرية الإعلام والديمقراطية والانتقال الديمقراطي يجعل التعددية السياسية والفكرية مستحيلة من دون اطلاق حرية الرأي والتعبير التي قد تعتبر من مكونات النظام الديمقراطي. في المقابل لا تكون حرية الرأي والتعبير في الأنظمة الشمولية في حالة ملائمة لمناصرة الديمقراطية، إذ تبقى هذه الحرية تحت سيطرة القيود المفروضة من طرف الحكومة، وذلك من خلال قوانين الصحافة الصارمة وملكية الدولة لوسائل الإعلام أو من خلال العقوبات والتهديدات الاقتصادية.
وبالرجوع للإعلام العربي يمكن أن نطرح تساؤلا: هل توجد سياسات إعلامية تساهم من خلالها حرية الإعلام في الديمقراطية أو العكس؟ للإجابة عن هذا التساؤل، ومن خلال دراسة مجموعة من البحوث التي درست الإعلام العربي، يمكن القول أنه عند تناول سياسات الإعلام في الوطن العربي ينبغي الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود سياسة إعلامية نمطية، حيث أن النظام الإعلامي لأي بلد عربي يتوافق مع نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقيمه الثقافية، وإن كانت تجمع بينها سمات عامة مشتركة، إلا أن الأهداف والوظائف والسياسات الإعلامية تختلف من قطر لآخر، تبعا لدرجة تطور كل قطر على حدة وتبعا لفلسفته السياسية. ولكن هذا لا يمنعنا من القول أن الحكومات العربية خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، أي ما بعد استكمال الدول العربية لاستقلالها وإلى غاية حدوث تطورات على مستوى النظام الدولي في العقود الأخيرة من نفس القرن، حيث تأثرت جل الأنظمة السياسية بهذه التطورات، إذ ان هذه الحكومات العربية كانت تفرض بشكل كبير سيطرتها على وسائل الإعلام، خاصة على الصحافة، حيث استطاعت هذه الحكومات من تسخير الصحافة لدعم نفوذها السياسي والتأثير في القرارات التي يمكن أن تخدم سياستها، وبهذا يمكن القول أن العلاقة التي تربط بين الإعلام والسياسة سواء على المستوى الدولي عامة، او على مستوى المنطقة العربية، هي علاقة تأثير وتأثر، حيث لا يمكن تصور أنظمة سياسية بدون وسائل إعلام تربط بينها وبين مكونات المجتمع.
إن الإعلام العربي، رغم التقدم الهائل الذي عرفه العالم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين من عولمة وثورة الاتصالات، بالإضافة لرياح الديمقراطية التي عصفت الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية وامريكا اللاتينية وافريقيا منذ نهاية الثمانينيات، إلا أن العالم العربي ظل مستعصيا عن الدمقرطة. إذا استثنينا بعض البلدان العربية التي عرفت تحولا ديمقراطيا شملت جميع الميادين كالمغرب وتونس… والتي تبنت صيغ مختلفة من التعددية الحزبية وتوسيع هوامش الحريات الصحفية. فالإعلام العربي ظل مستعصيا عن أي تحول ديمقراطي رغم الضغوط المزدوجة من الداخل والخارج والمطالبة بإنهاء احتكار الدولة لوسائل الإعلام وإطلاق الحريات الإعلامية، سواء من المبادرات التي أطلقتها مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، أو المبادرات الدولية أو أيضا المبادرات شبه الرسمية التي انبثقت عن عدد من المؤتمرات التي نظمت تحت رعاية بعض الحكومات العربية.
إن التشريعات العربية في المجال الإعلامي خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وإن كانت هذه التشريعات كثيرا ما تتضمن عبارات تختلف دلالاتها من قطر عربي لآخر، إلا أن الإشكال يكمن في عدم الالتزام في أحوال كثيرة بهذه التشريعات، كما تتضمن بنودا مبهمة تقبل تفسيرات عدة أو في أحسن الأحوال تتناقض مع بعضها البعض، مما يعثر عملية تفسيرها. ما ينبغي معه توحيد الرؤى في السياسة الإعلامية العربية، ورفع كل لبس قد يؤثر في الفهم الحقيقي للمفاهيم التي تتضمنها التشريعات العربية.
إن الوضع السياسي والاجتماعي بالمنطقة العربية عرف تغيرا مهما بعد رياح الربيع العربي حيث تأثرت على إثره جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية، من ضمنها حرية الإعلام إذ عرفت هذه الأخيرة تغيرا في آلياته وظهور أنماط جديدة من الصحافة الالكترونية والصحافة الاجتماعية، كل ذلك يستدعي من المنطقة العربية تعزيز حرية الإعلام وذلك من خلال:
- إنهاء القيود الهائلة على حرية الرأي والتعبير ووضع حد نهائي للعقوبات السالبة للحرية في جرائم الصحافة والنشر؛
- إعادة النظر في مختلف القيود التشريعية؛
- تعزيز حق الإعلاميين بالحماية النقابية؛
- تبني برامج تقوي قيم الإعلام الحر المتشبع بقيم الديمقراطية؛
إن المواطن العربي يظل متعطشا لإعلام حر ولمشاركة في المضامين الإعلامية، خصوصا مع تطور الأنماط الجديدة من الصحافة وحرية الإعلام. ومن أجل ذلك، يبقى من الضروري وضع سياسات عمومية ترسم الحدود الموضوعية من أجل ممارسة إعلام حر تحترم فيه أخلاقيات المهنة.
باحث في القانون العام
تعليقات الزوار ( 0 )