عرف العالم في العقود الأخيرة تطورا مهما في وسائل الإعلام، وتحولها من الوسيلة الورقية إلى الانترنت، ما نتج عنه الصحافة الالكترونية بمرونتها وتنوعها وسهولة وصول القارئ إليها، لكونها تتميز بالفورية والتفاعلية. وبهذا يمكن اعتبار الصحافة الالكترونية تطورا طبيعيا للصحافة التقليدية، ما جعل هذه الصحافة تفرض نفسها في الساحة الإعلامية وتأخذ الصدارة من الصحف الورقية، إضافة إلى ما تقدمه التكنولوجية الرقمية للاتصالات التي تجيز نشر كميات هائلة من المواد كما تسمح بحفظها وبنسخها.
ووسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها أحد المنابر الأساسية لممارسة حرية الرأي والتعبير، أصبحت تشكل جزءا من الإعلام الرقمي أو الالكتروني، والتي ساهم الانتشار الواسع لتكنولوجيا المعلومات والاتصال وظهور الجيل الجديد من الانترنت، في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا تقوم هذه الأخيرة كجزء من الإعلام الجديد على المشاركة في محتوياتها من طرف المستخدمين من خلال الإضافات والردود التي تساهم في زيادة محتواها، كما تتيح الرد والتعليق وتقييم المحتويات عن طريق تبادل المعلومات وإبداء الرأي.
وشبكات التواصل الاجتماعي، كجزء من إعلام الكتروني، وفق أحد الباحثين في المجال الإعلامي، يستحضر في دراسة هذا المجال ثلاث معطيات أساسية. حيث يرى في المعطى الأول أنه يمكن القول بأن العالم أصبح منذ ثمانينيات القرن الماضي، إزاء ثورة تكنولوجية عميقة طالت كل جوانب الاقتصاد والمجتمع والثقافة، تجلت أكثر في قطاعات الإعلام والمعلومات والاتصال. ومعطى ثان يعتبر الثورة الرقمية، قد أسهمت في انبعاث طرق جديدة لتداول المعلومة إياها، تتجاوز شكلا ومضمونا الطرق التقليدية التي كانت تتيحها وسائل الإعلام قبل الثورة الرقمية. أما مضمون المعطى الثالث فهو ما بات يعرف منذ فترة بالإعلام الجديد، ساهم إلى جانب بروز فرع في الإعلام إحدى خواصه التفاعلية والآنية وتقاسم المعلومة على نطاق واسع، ساهم في ظهور اشكال جديدة في التنظيم، لم تعد ترتكز على مفهوم البنية، بقدر ما باتت ترتكز على مفهوم البيئة. وقد ذهب الباحث إلى اعتبار هذه المعطيات الثلاثة، إنما للتأكيد أن الثورة الرقمية أفرزت أشكالا جديدة في التعبير استطاعت بطرق غير معهودة فيما سبق بالوصول لجماهير متنوعة وبمواصفات عدة.
إن شبكات التواصل الاجتماعي اصبحت ظاهرة سوسيولوجية بامتياز، استقطبت من خلال انتاج المادة الخبرية أعضاء كثر. وهي بذلك تعتبر حسب العديد من المهتمين بصحافة المواطن، وهي تشكل بذلك سلطة خامسة، نظرا لتأثيرها المتعاظم خاصة في الشؤون السياسية، لكونها تتيح ليس فقط للصحفيين فرصة النشر، بل تتيح أيضا للأفراد والمواطنين العاديين، بمن فيهم هؤلاء الذين يمثلون الفئة المهمشة امكانية التعبير بحرية عن انشغالاتهم، وايصال آراءهم إلى الغير. وبهذا أمكنت وسائل التواصل الاجتماعي أو صحافة المواطن الأصوات المهمشة من التعبير عن نفسها وعن احتياجاتها بشكل مسموع لدى الأوساط السياسية، سواء بانتقادها أو بمساندتها. وهي بهذا الشكل لعبت دورا مهما وبرزت بوضوح مع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي خلال الثورات العربية مطلع سنة 2011، حيث عرفت صحافة المواطن حركة دؤوبة في الوطن العربي، نظرا لما عرفته هذه الأخيرة من اختناق إعلامي وثقافي وسياسي، وحاول من خلالها المواطن العربي التعبير بحرية عن وضعه وآراءه.
إن المغرب وإن شكل استثناء من حيث نتائج الربيع العربي، إلا أنه بدوره عرف تطورا في مجال الصحافة الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، التي أثرت في تطور الحركات الاحتجاجية وظهرت حينئذ خاصة حركة 20 فبراير. فهذه الحركة وإن استطاعت ملء أركان المجال العام، إلا انه كان تمة رابطا مهما بينها وبين وسائط التواصل الاجتماعي في كل أحداث الحراك منذ البداية، حيث أسهمت في الترتيب للحراك الواسع الذي عرفه الشارع المغربي.
إن مختلق الإصلاحات التي عرفها المغرب على إثر الربيع العربي سواء على المستوى السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي، حيث كانت لوسائط التواصل الاجتماعي والصحافة الالكترونية نصيب من هذه الاصلاحات. إذ عمل المشرع المغربي على إدخال اصلاحات دستورية وقانونية في المجال الإعلامي من أجل ضبط حرية الرأي والتعبير بما يتماشى مع روح العصر وبما يتوافق مع التزامات المغرب الدولية، خاصة في مجال ممارسته الاتفاقية.
فعلى المستوى الدستوري، فمن ضمن المستجدات التي عرفها الدستور الجديد لعام 2011، على مستوى حرية التعبير، تنصيصه في التصدير، أولا على “حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء”. وثانيا “جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة، وهويتها الراسخة، تسمو، فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة”. وبالتالي فالمغرب مطالب بحماية حرية التعبير كجزء من منظومة حقوق الإنسان والإسهام في تطويره، وعدم الإجهاز على هذا الحق. كما أن المغرب في إطار ممارسته الاتفاقية قد صادق على مجموعة من المواثيق الدولية التي تدعو إلى احترام حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام والحق في المعلومة، من ضمنها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكد على أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”. وهو ما أكدته أيضا المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص: “لكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دون اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها… يجوز اخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: 1- لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم؛ 2- لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”. كما أضافت المادة 20 من نفس العهد شرطين، يتعلق الأول بالحظر بالقانون أي دعاية للحرب، في حين يتعلق الثاني بالحظر بالقانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.
ودائما في إطار النص الدستوري، فقد نص الفصل 25 منه على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، مضيفا أن حرية الإبداع والنشر والعرض مضمونة. وهو ما يؤكده الفصل 28 في فقرته الثانية للجميع الحق في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة. وهنا يجب أن يحترم القانون ما جاء في المواثيق الدولية، التي صادق عليها المغرب كما سبق وأن أشرنا.
أما من الناحية القانونية، فقد عرف المغرب تطورا مهما فيما يخص ظهير 1958 المتعلق بالحريات العامة ومن ضمنها حرية الصحافة. هذا الظهير الذي عرف مدا وجزرا في مدى ليبراليته. حيث عرف عدة تراجعات منذ تعديل 1959. إلا أن المشرع ما بعد الربيع العربي، حاول إعادة لقانون الصحافة ليبراليته بعد التراجعات التي عرفته، حيث أصدر القانون المتعلق بالصحافة والنشر رقم 88.13، وذلك بعد نقاشات مستفيضة بين مختلف المتدخلين بهذا المجال. ومن أبرز ما أضافه هذا القانون، والذي لم تعرفه القوانين السابقة هو إدخال باب متعلق بخدمات الصحافة الالكترونية وذلك لعلم المشرع لما أصبحت تلعبه مختلف الوسائط الالكترونية، حيث أكد المشرع من خلال المادة 33 أن حرية خدمات الصحافة الالكترونية مكفولة ومضمونة، مع احترام طبعا حدود هذه الحرية الواردة في هذا القانون.
إن مشروع القانون رقم 22.00 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة الذي ظهر مؤخرا، وبالضبط في زمن الجائحة كورونا، أثار نقاشا قانونيا وسياسيا سواء من طرف المختصين أو من طرف رواد شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك قد يعود لسببين، أولا، للظرفية الزمنية التي ظهرت فيه والذي يشكل لحظة إجماع وطني لمحارب الوباء. وثانيا نظرا لبعض مقتضياته التي قد تضر بليبرالية حرية التعبير وبقانون الصحافة وكذا المس والتضييق على الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور لكافة الشعب المغربي.
إن قرار الحكومة تأجيل النقاش في هذا المشروع، ينبغي أن يلازمه ضرورة إعادة النظر في مقتضياته التي قد تنسف بحرية الرأي التي طالما ناضلت من أجله أجيالا منذ حصول المغرب على استقلاله، والتي لا يمكن التراجع عنها لأي سبب. ناهيك أنه من الضروري أن تدخل الحكومة في نقاش موسع تشارك فيه الجهات والمؤسسات المعنية دستوريا وقانونيا كالبرلمان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الوطني للصحافة باعتبارها الجهات المخولة لها التشريع أو مناقشة الأمور ذات الصلة بحقوق الإنسان دون إغفال هيئات المجتمع المدني والفاعلين في المجال الصحفي.
طالب باحث بسلك الدكتوراه قانون عام.
تعليقات الزوار ( 0 )