لتراجع الأهمية السياسية والمجتمعية للأحزاب والتيارات الإسلاموية، وهو تراجع مشهود على امتداد بلاد العرب من شمال إفريقيا إلى وادي النيل والمشرق، العديد من الأسباب التي تتجاوز قمع وتعقب بعض الحكومات وترتبط بهوية الفاعلين داخل تلك الأحزاب والتيارات وسمات أفكارهم وأفعالهم.
فخلال العقود الماضية، تنامت سيطرة التنظيميين والمحرضين وشيوخ الفتاوى وهمش ممارسو العمل العام (الخيري والتطوعي). تنامت سيطرة التنظيميين (الحرس الحديدي) الذين أبصروا الخرائط المجتمعية وتفاعلات السياسة في سياق مواجهات وصراعات مستمرة مع الحكومات وفي ظل شكوك قوية ومتبادلة بين أحزابهم وتياراتهم وبين القوى الوطنية الأخرى، علمانية (ليبرالية ويسارية) وقومية. يعتقد التنظيميون أنهم دوما على حق ويوظفون المرجعية الدينية لدعم الادعاء بكونهم أصحاب الحقيقة الكاملة ويخفقون كثيرا في إدراك الخطوط الفاصلة بين مصالح الإسلام السياسي وبين المصالح الوطنية.
هؤلاء يرون في ممارسي العمل العام والسياسي من خارج دوائرهم إما «سائرين في الركب» يستعان بهم إن لم يعارضوا أحزابهم وتياراتهم أو «عناصر مارقة» تستحق الهجوم والتهميش والتشويه إن هم طالبوا بالفصل بين الدين والسياسة أو تنادوا إلى التأسيس للدولة المدنية (وهي في هويتها ومضمونها مضاد الدولة الدينية والدولة العسكرية). سيطر التنظيميون على مفاصل صناعة القرار داخل الساحة الإسلاموية ودفعوا بأحزابهم وتياراتهم في الجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق، وعلى الرغم من التباين الشديد في ظروف هذه البلدان قبل وبعد 2011، إلى مواجهات مستمرة مع القوى المجتمعية والسياسية الأخرى.
خلال العقود الماضية أيضا، تعالت أصوات المحرضين الذين يدافعون بعنف لفظي بالغ عن اختيارات وقرارات الإسلامويين ويصنعون لهم صورة مثالية ومتجردة هي للخيال أقرب وفي إطار توظيف ممنهج للمرجعية الدينية. المحرضون بين الإسلامويين لا يقفون في عديد الأحيان عند حدود أخلاقية لدى الاختلاف السياسي، بل يرون في تشويه العلمانيين والتعريض بهم مكونا جوهريا لدورهم. أزمة هؤلاء هي أن تفاعلات الحياة السياسية، بما في ذلك الصراعات داخل الأحزاب والتيارات الإسلاموية عقب انتفاضات 2011 الديمقراطية، أظهرت للرأي العام الصورة الحقيقية بكل ما تحمله أحيانا من انتهازية وتحايل وتوظيف غير شريف للمرجعية الدينية وهزال فاضح للرؤى المجتمعية وقصور بين في تصورات السياسات العامة التي يروج لها الإسلامويون. تعالت كذلك أصوات شيوخ الفتاوى، وبعضهم غير منضوي تنظيميا داخل الأحزاب أو التيارات الإسلاموية وإن حسب عليهم بالمعنى الواسع. تسبب شيوخ الفتاوى في فوضى إطلاق اتهامات التكفير باتجاه بعض ممارسي العمل العام والسياسي من العلمانيين وفي نشر مقولات الكراهية لمواطنات ومواطني البلدان العربية المنتمين إن لديانات أخرى (كما في مصر) أو لمذاهب أخرى (كما في سوريا ولبنان والعراق).
بجانب التداعيات الخطيرة لأدوار التنظيميين والمحرضين وشيوخ الفتاوى، ثمة إشكاليات كبرى أخرى تعاني منها الأحزاب والتيارات الإسلاموية. تتمثل الإشكالية الأولى في حقيقة أن أغلبية تلك الأحزاب والجماعات لم تؤسس لا كهيئات أهلية تعمل لصالح المجتمع في مجالات بعينها ولا كأحزاب سياسية فقط هدفها الوحيد المنافسة في الانتخابات والوصول للحكم. بل أسست، وفقا لصياغات الإيديولوجيات الإسلاموية من بدايات القرن العشرين وإلى يومنا هذا، بادعاء الرغبة في إحداث تغيير شامل في المجتمع والسياسة ونظر أعضائها دوما لها باعتبارها تقدم بديلا عقائديا للدولة الوطنية القائمة وللمجتمع بكياناته المختلفة. بعض الإسلامويين لم يقف عند حدود العمل السلمي لتغيير الدولة والمجتمع، بل وظف في مراحل محددة العنف. جوهر الإشكالية الأولى هذه هو الطرح الشمولي للإسلامويين الذي يدفع أحزابهم وتياراتهم من جهة إلى التدخل في كل مناحي حياتنا والخلط بينها، بين الدعوي والتربوي كما بين الخيري والتنموي والسياسي. ومن جهة أخرى، يرتب ذات الطرح الشمولي نزوعا للاستعلاء على الشركاء في المجتمع وقناعة دائمة بكون الإسلامويين دوما على حق (ولنا في أقوال وممارسات حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان وقيادات جماعة الإخوان المسلمين المصرية في المنفى العديد من الأدلة الدامغة على النهج الاستعلائي).
أما الإشكالية الثانية، فتتمثل في غياب الفصل بين العمل السياسي وبين العمل الدعوي والمجتمعي بصورة عامة وترتبط لذلك بغياب التخصص عن ممارسي السياسة من داخل الساحة الإسلاموية. يجيد الإسلامويون، حين تسمح لهم الحكومات بذلك أو تنفذهم إليها تحولات المجتمع والسياسة، المنافسة في الانتخابات والحشد المنظم لها. أما العمل السياسي داخل المؤسسات المنتخبة إن في السلطة التشريعية أو التنفيذية، وخاصة عندما يكون من مواقع الأكثرية البرلمانية كما في تونس أو من موقع رأس السلطة التنفيذية كما في المغرب، فيستدعي قدرات خاصة يأتي بها المتخصص في التشريع والقانون والتعليم والاقتصاد والعمل التنفيذي والإدارة المحلية والسياسة الخارجية. ومثل هذه القدرات تطورها وتجتذبها عادة الأحزاب وتدفع بأصحابها لواجهة العمل العام والسياسي. ولا شك أن بعض هذه الكفاءات والقدرات متوفر داخل الأحزاب والتيارات الإسلاموية، إلا أن تركيبتهم العقائدية وتداخلات السياسي والدعوي كثيرا ما تهمش هؤلاء وتعطي مساحات الحركة والنفوذ الحقيقية إما للتنظيميين أو للمحرضين الذين يعوضون هزال رؤاهم وقصور ممارساتهم بالاستعلاء وادعاء احتكار الحقيقة المطلقة.
تعليقات الزوار ( 0 )