أعلن دونالد ترامب، حين كان مرشحا للرئاسيات الأمريكية سنة 2016 أثناء حملته الانتخابية، أنه سيعيد النظر في مجمل المعاهدات والاتفاقات التي وقعها رؤساء أمريكيون سابقون، من أجل تجسيد شعاره الانتخابي “أمريكا أولا” على الأرض. فهل حقق ما وعد به؟ وإلى أين تتجه أمريكا في عهده وفي حال تجديد انتخابه لعهدة ثانية في نوفمبر القادم؟ وهل سيصبح شعار “أمريكا أولا” ومصالح “أمريكا القومية” هما المرجعان والمعياران الوحيدان في عقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية، والوسيلتان لتجنب غضب الرئيس ترامب في العالم؟
وكمثال على تطبيق وعوده المنذرة للعالم، كان ما يلي:
أولا، انسحابات 2017:
1 – طلب الرئيس ترامب بدء مفاوضات جديدة بشأن اتفاقية “نافتا” الموقعة سنة 1994 بين بلاده وكندا والمكسيك؛ بدعوى أن الاتفاقية أضرت ضررا كبيرا بالقطاع الصناعي الأمريكي؛ موضحا أنها أدت إلى نقص كبير في مناصب الشغل بأمريكا تُعد بالملايين، وخاصة في القطاع الصناعي، الذي رحل إلى المكسيك. وكان مضمون تهديد شريكيه، أثناء حملته الانتخابية، بأنه إذا لم يتم إعادة التفاوض حول اتفاقية “نافتا” مع ابتداء سنة 2017، فإن واشنطن ستنسحب منها.
2 – قرر الانسحاب من اتفاقية باريس حول المناخ الموقعة سنة 2015 من قبل 195 دولة، بدعوى تعارضها مع المصالح الاقتصادية لأمريكا، على أن يطبق الانسحاب في نوفمبر 2020. وفي السنة نفسها انسحبت الإدارة الأمريكية من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي، الموقعة من قبل 11 دولة وفي مقدمها أمريكا سنة 2015، دون إشراك الصين في تلك الاتفاقية. واقترح الرئيس ترامب كبديل للاتفاقية إبرام معاهدات ثنائية، لأن اتفاقية الشراكة، بالنسبة إليه لا تحمي الاقتصاد القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية.
3 – وانسحبت كذلك من “الميثاق العالمي للهجرة”، أو إعلان نيويورك للاجئين والمهاجرين؛ الهادف إلى تحسين إدارة وضعية اللاجئين في العالم. والميثاق يضم 193 دولة؛ وقد أقرته المنظمة الدولية بالإجماع سنة 2016. إلا أن أمريكا زمن ترامب اعتبرت أن هذا الميثاق “لا يتوافق مع السيادة الأمريكية”، هكذا.
ثانيا، انسحابات وتهديدات سنة 2018
1-انسحبت أمريكا من أهم منظمة ثقافية وعلمية عالمية، وهي اليونسكو، بتهمة تعارض قرارات اليونيسكو مع السياسة الخارجية الأمريكية، على إثر قبول عضوية دولة فلسطين الكاملة في المنظمة. وقد اعتبرت إدارة الرئيس ترامب أن قبول عضوية فلسطين في اليونسكو يعادي إسرائيل وسياسة أمريكا في الشرق الأوسط.
2-أعلن الرئيس ترامب انسحاب بلده من الاتفاق النووي، الموقع من قبل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا مع إيران. (5 + 1)، بدعوى خرق إيران لتعهداتها في الاتفاق، على الرغم من تأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية وباقي الدول الموقعة على الاتفاق أن إيران التزمت بكل ما نصت عليه الاتفاقية. ويُعتقد أن موقف الرئيس ترامب يستجيب لرغبة إسرائيل، ولبعض دول الخليج المعادية لإيران.
3- وإذا كانت علاقة أمريكا بإسرائيل بشأن إيران علاقة عضوية واستراتيجية، فإن العلاقة مع دول الخليج ليست أكثر من علاقة جلب مئات المليارات من الدولارات مقابل حماية أنظمتها في الحكم، وفقا لتصريحات الرئيس ترامب علنية مرارا وتكرارا.
3-أعلنت أمريكا في يونيو 2018 انسحابها من “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة، الواقع مقره في جنيف، الذي تأسس في 2006 أيام الرئيس بوش الابن، غير أن الإدارة الأمريكية لم تنضم إليه إلا في عهد الرئيس أوباما. ومهام المجلس تتمثل في دعم حقوق الإنسان وتعزيزها حول العالم. واعتبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن قرار واشنطن، بالانسحاب سيجعلها على هامش المبادرات الدولية المصيرية للدفاع عن حقوق الإنسان. ويبقى السبب الرئيس، في نظر كثير من الملاحظين، أن الانسحاب هو انتقاد المجلس باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين. وقد علل البيت الأبيض انسحاب أمريكا بــ”انحياز (المجلس) ضد إسرائيل”..
4-وبعد حوالي شهرين من انسحاب ترامب من مجلس حقوق الإنسان قرر ايقاف أي تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، البالغ آنذاك 368 مليون دولار، بدعوى سوء تسيير تلك الأموال. غير أن الكثير من الملاحظين رأوا أن القرار كان تمهيدا عمليا لتطبيق ما يسمى “صفقة القرن”. وقد تبين ذلك بوضوح لاحقا في 2019، حين طلب ترامب من الفلسطينيين قبول الصفقة مقابل ضمان مصالح معيشية لهم، شعارها 50 مليار دولار على مدى 5 سنوات.
5-هدد الرئيس ترامب، بانسحاب بلاده من اتفاق 1994 الذي على أساسه أُنشئت منظمة التجارة العالمية في أواخر 1995، وعلل تهديده بأن المنظمة تعامل بلاده معاملات. غير عادلة، إلى درجة أنه قال بشأنها المنظمة أسست “لإفادة الجميع فيما عدا نحن”، بل استعمل ضدها عبارة كان قد استعملها في وصف اتفاقية “نافتا”، وهي عبارة “أسوأ اتفاق”. والحديث يطول ولا ينتهي عن تهديدات الرئيس وانسحاباته وعقاباته.
6-ويمكن أن نستخلص مما تقدم أن الرئيس ترامب، والجهة التي جاءت به لقيادتها في 2016 تكون قد قررت أن تكون أمريكا هي العولمة والعولمة هي أمريكا، أحب من أحب وكره من كره. خاصة أن الرئيس ترامب يتباها بأنه زعيم التحدي والانتصار، وأن أمريكا هي القوة التي لا تقهر، ولا تُعَارض سياساتها وقراراتها، وإلاّ… وأن مصالح أمريكا وأمنها القومي، وفقا لتصوره والجهة التي يمثلها، ستكون هي من يرسم علاقة أمريكا بغيرها. ويبدو أن الرئيس ترامب يعدّ نفسه، من خلال قراراته الواجبة التنفيذ في العالم، أنه من الصنف الذي قال في شأنه الشاعر ابن هــانئ الأندلسي:
“ما
شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار”.
ومن “إنجازات” الرئيس ترامب مؤخرا (15 – 4 – 2020)، لتحقيق شعاره
“أمريكا أولا”، تعليق مساهمة بلاده المالية في ميزانية منظمة الصحة
العالمية، المقدرة بــ 300 مليون دولار سنويا، بدعوى أن تلك المنظمةانحازت إلى
الصين، بدل خدمة أكبر ممول لها. وقد حدث ذلك في عز جائحة كورونا! لكن، نعتقد بأن تعليق
المساهمة المالية يتماشى ومواقف ترامب من المنظمات والمعاهدات والاتفاقات الدولية،
التي يرى فيها أنها لا تلبي مطامحه غير القابلة للنقاش. وذلك منذ التحاقه البيت
الأبيض في 20 من يناير 2017.
وما المآل؟
مما لا شك فيه أن قناعة ترامب بأنه “الشخص المختار” من السماء، قبل اختياره من قِبَل ناخبيه، له هدف مركزي، هو استعادة عظمة أمريكا القومية النقية التي أهملها سابقوه، وتحقيق انتصاراتها على أعدائها وخصومها. ومن ثمة يجب على الجميع أن يعلن الولاء غير المشروط لقرارات إدارته. وقد يسعى، ومن معه، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، إلى أن يُجدد انتخابه في نوفمبر القادم لعهدة ثانية، فهو يرى أن استمراره في رئاسة أمريكا سيسمح له بتحقيق كل ما يسعى إليه شعاره “أمريكا أولا”. فهل سيرى العالم انبثاقا جديدا للأيديولوجية القومية؟ أو سيرى وجها آخر لعبارة “نهاية التاريخ”؟ أم أن جزء أكبر من الشعب الأمريكي سيكون له رأي آخر، فيتجاوب ويتفاعل مع حركة التاريخ وليس مع نهايته؟
*مفكر ودبلوماسي سابق مقيم في كندا
تعليقات الزوار ( 0 )