السلطة الدينية الرسمية أمام مأزق اكتساح الإعلام الديني:
سنتناول في هذا المقال الفصلين الأول والثاني من هذا الكتاب، حيث خصص الباحث الفصل الأول للحديث عن دور الاعلام الديني في التحولات القيمية والدينية التي شهدها العالم العربي، متناولا سياق ظهور هذا الاعلام وقد عمل الباحث على الوقوف عند سياق بروز الإعلام الديني في المنطقة العربية والغربية ومتوقفا عند ما ميز التجربتين، فكيف برز الاعلام الديني في العالم الإسلامي والمنطقة العربية؟
سياق ظهور الإعلام الديني في المنطقة العربية
إذا كان الاعلام الديني في الغرب لم يظهر الا بعد أن نمت وتطورت في أحشاء المجتمع الغربي الظروف المناسبة لنشأته، فإن سياق نشأته في المنطقة العربية يتسم حسب الباحث بنوع من الضبابية والتنزيل المفاجئ الذي لم يلتزم بالمسارات التي يجب المرور منها لميلاد هذا النوع من الاعلام.
و يعود الإعلام الديني الى التدفق الهائل للقنوات و المواقع الالكترونية في العقدين الأخيرين، حيث برزت مجموعة من القنوات التلفزيونية المخصصة للبرامج الدينية أو ذات التوجه الديني على رأسها قناة إقرأ، المجد، الرسالة… و هو إعلام “يركز في برامجه ومنتوجه على البرامج الدينية، سواء كانت، عبارة عن دروس أو مواعظ أو فتاوى أو أناشيد وأغاني، أو حوارات أو نصائح أو نقل للطقوس الدينية، أو بث للقرآن الكريم، وبصفة عامة كل ما يتعلق بالمنظومة الدينية، سواء عند المسلمين السنة أو المسلمين الشيعية، وكذلك الأمر بالنسبة للتواجد الإعلامي المسيحي في المنطقة العربية الإسلامية”.
وقد ارتبط الاعلام الديني، خصوصا في مصر، بالرغبة في مواجهة حركات الإسلام السياسي وخلق تدين غير مسيس، فوجد مجموعة من الدعاة الجدد في القنوات التلفزية مجالا خصبا لتقديم تصورات حول الدين مخالفة لما درجت عليه حركات الإسلام السياسي. ما يعني أن العامل السياسي كان عاملا حاسما في نشأة هذه القنوات واستخدامها كوسائل للتأثير على المتلقي من خلال العزف على وتر حساس جدا في المجتمعات العربية هو وتر الدين.
وإلى جانب العامل السابق هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن السابق حيث كان لها تأثير واضح في ظهور الاعلام الديني تتمثل في هيمنة منطق السوق والتسليع، فمنطق الربح والاستثمار كان حاضرا بقوة في إخراج هذا المنتوج الإعلامي الديني إلى الوجود لاسيما وأن الدين يمارس تأثيرا على الأفراد شبيه بالسحر وقد تم استثماره بشكل كبير في الاعلام الديني لخدمة ايديولوجيات معينة.
ولكي تكون نظرة الباحث أكثر موضوعية فقد أشار الى أن ” بعض الباحثين الذين اهتموا بدراسة ظاهرة الإعلام الديني والتدين الجديد والدعاة الجدد، تحدثوا عن معطى موضوعي، مرتبط بالمرونة “العالية” التي تميز بها الخطاب الاسلامي الجديد، عندما حاول أن يتجاوز عجز حركات الإسلام السياسي، في التواصل مع شريحة هامة من المجتمع، وخصوصا الفئات المتعلمة والراقية.”
غير أن هذا لا يمنع من التنبيه الى خطورة هذه القنوات الفضائية، التي أصبحت متاحة للجميع، تنفلت من رقابة الدولة “فلا يمكن معرفة محتواها ولا مضمونها القيمي، وبالتالي عدم قدرة الدولة على التحكم في سوق إنتاج وإعادة إنتاج هذه القيم الدينية، مما سيؤثر في تشكيل تدين فرداني منفلت من كل المؤسسات التقليدية، وحتى من حركات الإسلام السياسي.”
و من تبعات ذلك تراجع دور المؤسسات الدينية التقليدية أو اندحارها أمام هذه السلطة الجديدة المتمثلة في الاعلام الديني، فلم تعد السلطة الدينية محتكرة من طرف المؤسسات الدينية الرسمية أو غير الرسمية بل برزت نخب جديدة و فاعلون دينيون جدد أثثوا المشهد الديني و ساهموا في تغيير تمثل الأفراد للدين و حتى في سلوكهم بشكل يمكن أن نتحدث معه عن بروز “سوق دينية” تتضمن خيارات واسعة تتوافق مع الطلب، و هذا ما نلاحظه من خلال بروز أشكال جديدة من الحجاب التي شهدها المجتمع المغربي حيث أصبح يخضع بدوره لمنطق الموضة، و ما توفره السوق من مشروبات دينية، و ظهور لباس البحر الديني الخاص بالمحجبات كل هذه الأمور و غيرها تدل على تمثل جديد للدين و للمرجعيات الدينية و على تعدد هذه المرجعيات.
ويمكن أن نستوعب هذا التغير بشكل جيد من خلال مفهوم للأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس، وهو مفهوم الترميق الذي ” يدل على الدمج الذي يقوم به المجتمع لمجموعة من الثقافات والقيم والرموز يتداخل فيها ما هو تقليدي بما هو حديث، ليعطي شيئا جديدا ذو معنى هذا ما حدث بالضبط في المجال الديني فأصبحنا أمام ممارسات وأشكال من التدين يصعب نمذجتها أو تصنيفها في إطار ديني معين.
بعد تسليط الضوء على السياق العربي لنشأة الاعلام الديني عرج صاحب الكتاب على الظروف السوسيو تاريخية المنتجة للإعلام الدين في الغرب، وهو ما سنتناوله في النقطة الموالية.
الإعلام الديني في السياق الغربي
بخلاف السياق العربي، تميز السياق الغربي حسب الباحث” بنوع من التحول السلس من الواقعي إلى الافتراضي، لأن التجربة الغربية، هي التي أبدعت هذه التقنية وبالتالي فهي تشكل جزء من كينونتها الثقافية والمجتمعية” و من تم فبروز الاعلام الديني نبع عن حاجة أملتها الظروف و الشروط التي توفرت في المجتمع الغربي، فقد كان الغرب يوظفون الأفلام و التلفزيون و الموسيقى من أجل التبشير و من أجل إنتاج هويات دينية تتناسب مع الثقافة الشعبية و بالتالي كان بروز هذا الاعلام أمرا طبيعيا بالنظر إلى السياق الاجتماعي و التاريخي و الديني في المجتمعات الغربية. “فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الكثير من الكنائس في الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها في استغلال هذه الوسيلة، -ليس من أجل ترويج رسالتها فحسب-، بل من أجل حشد رعايا الكنسية أيضا. ومن ثم أصبح التبشير عبر التلفزيون، أي إذاعة عظات الكنسية ورجال الدين من خلال شبكات التلفزيون، عملا غاية في الأهمية، وكذلك عنصرا مهما في توصيل تعاليم المسيحية وممارستها”.
لقد حصل في الغرب وعي مبكر بأهمية وسائل الاعلام في تغيير المشهد الديني، وضرورة استغلال التكنولوجيا الحديثة للتواصل مع الناس في بيوتهم بشأن الدين الذي لم يعد موضوعا اخباريا بل موضوع فرجة واهتمام من طرف الجميع.
يتبين إذن أنه رغم اختلاف السياقات التي أفرزت الإعلام الديني في العالمين الغربي والإسلامي، فالنتيجة هي أنهما ما كان بوسعهما أن يظلا بمنأى عن هذا التحول الذي فرضته التكنولوجيا الحديثة، فأصبح تأثير الاعلام الديني أمرا واقعا سيعمل الباحث على الوقوف عنده من خلال الفصل الثاني الذي عنونه بالإعلام الديني وسوق الاستهلاك الرمزي متخذا القنوات الفضائية الدينية كنموذج.
وقدتركز اهتمام الباحث في الفصل الثاني على مسح عدد القنوات الفضائية وطبيعة ما تنتجه من خلال احصائيات يتم تحيينها في كل مرة، فقد انتقل عدد القنوات التلفزيونية المهتمة بالشأن الديني من 54 قناة الى 95 بين سنة 2010 إلى سنة 2015 “تعود النسبة الأكبر (86) للقطاع الخاص، بينما لا يملك القطاع العام سوى (9)” وذلك بحسب المعطيات التي أصدرتها الهيئات الإعلامية الرسمية.
ان هذه النسبة لا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام انها ذات دلالة، تمس في العمق الدين و التدين و بالخصوص المؤسسات الدينية التقليدية والرسمية منها، فهي تنبئ بأن الاعلام الديني الخاص قد سحب البساط من هذه المؤسسات ليصبح المتحكم الأول في بلورة و انتاج القيم الدينية بالشكل الذي يتناسب مع الإيديولوجيا الخاصة به، و هذا الأمر خطير جدا لأنه سيؤدي الى اختلاف و تعارض المرجعيات و الى خلق تصدع في الهوية الدينية للشباب أو يمكن الحديث عن أزمة هوية سيما و أن هذه القنوات ذات مرجعيات مختلفة فهناك قنوات شيعية”يتم إطلاقها من العراق، وايران ولبنان والكويت، نجد قناة “المنار”، و”أهل البيت”، و”الكوثر”، والأنوار”، وغيرها ، والتي يصل مجموعها إلى 15قناة. وبالإضافة الى المرجعية الشيعية نجد قنوات أخرى مسيحية “حيث توجد 8 قنوات مسيحية، تبث في الوطن العربي، وتستعمل لهجات محلية للتواصل مع المجتمعات العربية والمغرب واحد منها. ومن بين هذه القنوات، نجد قناة”سات7″ و”الحياة” و”تيلي لوميار” و”المحبة” و”الكرامة” و”الروح”… الى جانب القنوات الناطقة بالعربية ومن بينها: قناة “الرسالة” و “الناس” و “إقرأ” و “الفجر” و “العفاسي” و”المجد” ودليل”.
هذا الزخم من القنوات الفضائية الدينية يخلق سوقا دينية كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا ويعلن عن تراجع دور الدولة وخطابها الديني الرسمي أمام اكتساح هذه القنوات بشكل ينبئ بوجود أزمة حقيقية، فقد انفلتت الأمور من قبضتها ولم تعد قادرة على تطويق الخطاب الديني المروج في هذه القنوات والذي وجد حظوة عند الشباب وإقبالا كبيرين لأنه يستجيب لتطلعاتهم، وترجع هذه المقبولية الى مرونته وتعدد مرجعياته.
ما حكم الإعلام الديني في المجتمع العربي إذن يمكن تلخيصه في نظر الباحث في مسألتين:
- مبدأ الربح السهل والسريع وهذا ما يفسر تهافت الخواص على انشاء قنوات دينية.
- مواجهة الإسلام السياسي وإفشاله.
ولتقديم قراءة أكثر شمولية لهذه الظاهرة، لجأ الباحث الى دراسة مقارنة حيث عمل على مقارنة ترتيب القنوات الدينية مع بقية القنوات الأخرى، فالقنوات الرياضية في الصدارة ب 170 قناة، تليها قنوات الدراما ب 152، وفي المرتبة الثالثة، نجد القنوات المتخصصة في الغناء والموسيقى ب 123، وفي المرتبة الرابعة القنوات الدينية ب 95.
هذه المعطيات تكشف عن تدفق إعلامي في الحقل الديني بشكل لم نعهده من قبل. وسينتج عن هذا التدفق الإعلامي أشكالا جديدة من التدين عرفتها المجتمعات العربية “من قبيل حجاب الموضة وملابس البحر الإسلامية والمهرجانات الإسلامية والأغنية الإسلامية والأفلام الإسلامية وحتى مشروبات إسلامية…” هذه الممارسات يصعب تأطيرها ضمن مرجعية دينية بعينها.
يتبين من خلال ما أورده الباحث أن الاعلام الديني ساهم بشكل كبير في التحرر النسبي للخطاب الديني من خلال برامجه وطبيعة الخطاب السلس والمرن الذي يروجه والذي يعمل على استقطاب الشباب، ما جعل الفاعلين الدينين التقليديين في مأزق، فهم مدعوون الى التواجد بقوة حتى لا ينتهي زمنهم فبدأ التفكير في استعمال قنوات الاعلام الديني لأجل تكثيف الحضور الديني واستعادة التحكم في مجريات الأمور وهي دعاوي رسمية من قبل القائمين على الشأن الديني.
إذا كان الإعلام الديني عمل على انحسار دور قنوات التنشئة الدينية التقليدية، وهيمن على الساحة الدينية في الحقبة المعنية بالدراسة من خلال قنوات البث التلفزي التي أصبحت تلعب دورا مهما في نقل المعلومة الدينية وانتاجها وإعادة انتاجها، فما هي القنوات المفضلة لدى الشباب باعتباره الفئة المعنية بالدراسة؟
القنوات المفضلة عند الشباب
بعد جرد وإحصاء القنوات التلفزية الدينية وقراءة نتائج هذا الاكتساح، انتقل الباحث الى تحديد القنوات الدينية المفضلة لدى الشباب من خلال دراسة ميدانية.
كقراءة للنتائج الواردة في المبيان يتبين أن “شباب المنطقة يفضل قناة” محمد السادس” المغربية، حيث استأثرت باهتمام الشباب، كقناة دينية مفضلة لديهم، إذ عبرت نسبة (19%) من الشباب المستجوب عن هذا الاعجاب.” وهي نتيجة تختلف عن الفرضية التي انطلق منها الباحث حيث وقع تحول في تعاطي جمهور الشباب، مع الوسائل الإعلامية. من الاهتمام بقنوات المسلسلات والأفلام والموسيقى الى الاهتمام بالقنوات الدينية.
“ونظرا للاختراق القوي الذي استطاعت أن تنجزه القنوات الفضائية المشرقية في المجتمع المغربي، فإن الفاعل الرسمي استشعر “خطورة” الأمر، خصوصا عندما بدأ يقدم الدين بأشكال متنوعة ومتعددة ومستحدثة، وبدأ الحديث عن ذوبان الخصوصية الدينية المغربية. لذلك سارع الفاعل الرسمي المخزني الديني، إلى إقامة إعلام ديني مغربي مسموع ومرئي”.
وفي هذا السياق سيتم انشاء قناة محمد السادس للقرآن الكريم وذلك سعيا الى الحفاظ على الهوية الدينية المغربية وتلبية حاجيات الشباب والمشاهدين ببث المعلومة الدينية والوعظ والإرشاد ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم انشاء موقع إلكتروني سنة 2005، من خلال التدشين الرسمي له من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. كل هذه الإجراءات تنم عن وعي الفاعل الرسمي بخطورة وتأثير المنتوج الديني المروج عبر الاعلام الديني الحاجة الى التحكم في هذا المنتوج عبر احداث قنوات تحت رقابة الدولة ومواقع الكترونية من أجل ترسيخ الإيديولوجيا الرسمية.
“وبجانب هذه النتيجة، تأتي قناة “الناس” في الإختيار الثاني، حيث احتلت نسبة (18%) من اهتمام الشباب، كإحدى القنوات الدينية المفضلة، ونعلم أن هذه القناة كانت تشكل، -ومجموعة من القنوات ذات الطابع السلفي، والتي تصدر من مصر-، إحدى القنوات المفضلة لدى شريحة هامة من المواطنين المغاربة، وخصوصا العنصر النسائي، بنسبة (22.6%) بحكم أنهن من يجلس أكثر في البيت. وأيضا لأنهن يملن إلى نوع من الخطاب يكون بسيطا ومقبولا وعمليا. “ما يعني أن متغيرة الجنس في هذا الباب دالة، فهل ينطبق نفس الأمر على متغيرة المستوى التعليمي؟
اعتمادا دائما على معطيات ميدانية توصل الباحث الى أن الفئات التي تفضل قناة محمد السادس للقرآن الكريم إما بدون مستوى تعليمي أو تعليم ابتدائي، بينما فئة التعليم الثانوي والعالي تفضل قناة “الناس”. هذه النتائج جعلت الباحث يفترض أنه كلما ازداد المستوى التعليمي إلا وقلت الثقة فيما هو رسمي، والعكس صحيح ما يعني أنه كلما ارتفع المستوى التعليمي كلما قلت الثقة في الخطاب الديني الرسمي ومن تم البحث عن بدائل للتزود بالمعلومة وبمتطلبات الفرد الدينية.
يتبين من خلال هذه المعطيات الامبيريقية التأثير الخطير الذي يمارسه الاعلام الديني والذي يمكن أن يخلق تصدعا في الهوية الدينية للشباب، كما أنه أفرز ممارسات وأشكال من التدين الفردي الذي سيكون موضوع الفصل الثالث من هذا الكتاب.
التدين الفردي: عنوان تحول الدين في المجتمعات العربية أم علمنة صامتة
عمد الباحث من خلال هذا الفصل إلى التوقف عند مخرجات القنوات الدينية والاعلام الديني بشكل عام والمتمثلة فيما أطلق عليه اسم الدعاة الجدد وظاهرة التدين الفردي. فما المقصود بالمفهومين؟ وهل التدين الفردي مؤشر على تحول المشهد الديني أم أنه يمثل توجه المجتمع نحو علمنة صامتة؟
أولى الباحث أهمية خاصة للتعريف بالمفهومين نظرا لجدتهما، ولنفس السبب لا يوجد اجماع حول تعريفهما، كما توقف عند السياق المتحكم في ولادتهما. وفي هذا السياق اعتبر الباحث أن “مفهوم الدعاة الجدد ليس حوله إجماع في الأوساط الأكاديمية، وإنما أطلقه بعض الباحثين الغربين المتتبعين لظاهرة التدين في العالم العربي، ويندرج في هذا الإطار كل من “جيل كيبل”، واوليفي راو”، وتلميذه “باتريك هاني”فقد اعتبر هؤلاء أن ظهور هذا الشكل من التدين مرتبط بفشل حركات الإسلام السياسي ومن تم فهم يتحدثون عن نهاية الحركة الإسلامية وعما بعد الإسلاموية.
يتبين اذن أن ” ظاهرة الدعاة الجدد، عنوان عن تحول التدين في المجتمعات العربية والإسلامية، من التدين الجماعي والمنتمي إلى مؤسسات دينية سواء تقليدية أو حديثة (حركات الإسلام السياسي)، إلى تدين فرداني منفلت من كل القيود.”
وللإحاطة بالموضوع من كل جوانبه والوقوف على مختلف تمظهراته، عمل الباحث على القيام بدراسة ميدانية حول الشخصيات الدعوية الأكثر تأثيرا في الشباب المغربي فتوصل الى كون “الفتيات أكثر ارتباطا بشخصية الداعية “عمرو خالد”، على خلاف الذكور الذين يميلون إلى تفضيل “محمد حسان ويليهما من حيث الترتيب الشيخ يوسف القرضاوي”. واعتبر الباحث أن هذه النتائج لم تكن مفاجئة، لاعتبارات متعددة أهمها أن الداعية “عمرو خالد” اشتهر بخاطبه الموجه لفئة الفتيات، بالإضافة الى تمتعه بجاذبية خاصة سواء من حيث طريقة اللباس، التي تختلف عما ألفناه في الدعاة، ولا من حيث مظهره الخلقي.
وارتباطا بما قيل سابقا فإن المكانة التي حظي بها عمرو خالد بين الفتيات والشباب عموما تعود إلى كونه يمزج في خطابه الديني بين الإسلام والحداثة، فخطابه الدعوي يتميز بالمرونة والتسامح والانفتاح لذلك كان أقرب الى الشباب، فهو لا يرى مانعا من العلاقات العاطفية بين الجنسين، ما لم تؤد إلى “انزلاقات”، وسبق له أن تحدث عن “الحب الالكتروني”.
ومن جهة أخرى كشفت نتائج الدراسة الميدانية تغلغل التيار السلفي في المجتمع العربي والاسلامي، من خلال القنوات الفضائية، وما يؤشر على ذلك هو تفضيل نسبة (30%) من الشباب ذوو تعليم عالي لشخصية الداعية محمد حسان المعروف بتشدده وبفتاواه المثيرة للجدل ومن بينها “أنه أفتى بعدم جواز سياقة النساء للسيارات، وقد اعتبر الباحث هذه الفتوى من أشد أنواع التضييق على المسلمين والمسلمات. ويمكن أن نقرأ هذا التحول من منظور الباحث على ضوء الهجوم العنيف الذي تعرض له “عمرو خالد”، من طرف التيار السلفي، حيث تم التشكيك في مصداقية حديثه في الدين، وعدم أهليته، ومواقفه اللينة من الاختلاط وإلى ما هناك من الحملات التي وجهت لهذا الداعية”.
من خلال هذه النتائج تساءل الباحث عن أهم الخلاصات التفسيرية التي يمكن التوصل إليها وعن تأثير الدعاة الجدد على ظاهرة التدين وتساءل أخيرا عن التحولات الجديدة التي يمكن أن نقرأها في هذا المشهد الديني.
يفسر الباحث بروز وهيمنة الدعاة الجدد بطبيعة الخطاب الدعوي المقدم من طرفهم والذي يتم المزج فيه بين قيم الإسلام وقيم الحداثة بالإضافة الى كونه يعتمد لغة بسيطة في متناول الجميع وقريبة من الشباب، كما أنهم ينهلون من مفاهيم التنمية البشرية أهمها الاعتماد على الذات مما جعل التوجه الديني الجديد يتجه نحو التركيز على الفرد بدل الجماعة الشيء الذي أفرز انفصاما واغترابا سيكولوجيا واجتماعيا ووجوديا في البنية الذهنية والدينية للشباب.
وقد أنهى الباحث هذا الفصل المهم جدا بتقديم تفسيرات لظاهرة الدعاة الجدد من طرف المفكرين، فمنهم من اعتبر أن الظاهرة مرتبطة بتشكل نظام عالمي جديد على الصعيد المحلي، ومنهم من اعتبر” على أن ثمة أزمة أخلاق، تمظهرت في احتياج روحي، كما يربط نفس الفرضية بوجود أزمة عميقة في المؤسسة الدينية الإسلامية” ما يعني أنهم ينطلقون من الفرضيات التالية: “أزمة الهوية، وأزمة المادية والاحتياجات الروحانية المرتبطة بهذه الأزمة، وثالثا هناك أزمة تعامل الحركة الإسلامية مع واقع المسلمين.”
وهناك من ذهب الى أبعد من ذلك، عندما اعتبر أن خطاب الدعاة الجدد يؤدي الى خلق تدين شكلاني وانتقائي ويستدلون على ذلك بعدم فعاليته وبتراكم الفساد في البلد.
وبغض النظر عن هذه التفسيرات التي يمكن أن تصيب أو تخطئ في فهمها للظاهرة، فان هذه الأخيرة تظل مؤشرا على “عسر التحولات التي يشهدها العالم العربي، في علاقته بالدين والفضاء العام”. كما تعبر عن تفاعل الدين والأفراد مع المستجدات في مجال التكنولوجيا.
جدل الفتوى الرسمية والفتوى الإلكترونية
إذا كانت الفصول السابقة تتناول تأثير الإعلام الديني على الممارسات الدينية وعلى أشكال التدين، فإن الفصول الأخيرة من هذا الكتاب، الفصلين الرابع والخامس، فيتناول من خلالهما الباحث موضوعا في غاية الأهمية وهو تأثير الأنترنيت أو ما يسمى بالميديا الحديثة على السلوك والقيم الدينية، وأستعير هنا الوصف الذي وظفه الباحث حيث اعتبر أن الفصل الرابع، يشكل رابطة العقد في الدراسة، نظرا لتركيزه الاهتمام، على مفهوم التدين بين الواقعي والافتراضي (عالم النت)، وما أحدثته من تحولات بل ثورات في المشهد الديني برمته. وقد انطلق الباحث من فرضية أساسية مضمونها أن “استعمالات الانترنيت تؤدي إلى تدهور وتشظي في القيم الدينية، بسبب غياب التأطير المباشر عن طريق المؤسسات الدينية”.
وقبل أن يختبر هذه الفرضية قام بالتأسيس النظري لعلاقة الدين بالأنترنيت من خلال استحضار قراءة مجموعة من السوسيولوجيين المهتمين بالموضوع، “فقد أكد براين تورنر” على الدور الكبير الذي يلعبه الأنترنيت في التثقيف والتوعية الدينيتين، وقد عمل على إزاحة الكثير من القيادات الدينية الكلاسيكية، وخلق بالتالي نماذج جديدة من النخب (الدعاة الجدد) الذين تم الحديث عنهم في الفصل السابق. أما “مانويل كاستيل” فقد اعتبر أن الثورة التكنولوجية والرقمية والرأسمالية خلقت نمطا جديدا من المجتمع يخترقه الافتراضي، لكن هذه الثقافة الافتراضية ترافقها ” تظاهرات قوية لهويات جماعية تأتي متحدية العولمة والمواطنية العالمية باسم الخصوصية الثقافية ومراقبة الأفراد لحياتهم وبيئتهم”
وقد تمظهر تأثير الأنترنيت على الديني من خلال ما يعرف بالكنيسة الإلكترونية “electronic church التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية فترة السبعينيات، “وقد استطاع المبشرون الإنجيليون التواصل مع الناس في بيوتهم عبر التلفزة وعبر الهاتف، وبناء خطاب مشترك تتأسس معالمه على اكتشاف عصمة الكتاب المقدس، وعلى ضرورة تحقيق التلاؤم بين الخيارات الدينية والخيارات السياسية.”
وفي المغرب تنبه المهتمين بالشأن الديني والمؤسسات الرسمية الى خطورة التأثير الذي يمارسه الأنترنيت على القيم الدينية، ومن تم فإن “وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية” أحمد التوفيق” أكد أن” شبكة الأنترنيت، وإن كانت مختلفة عن الجو الحميمي للتحدث أمام جماعة حاضرة داخل المسجد، فإن احتلال مواقع لائقة فيها باسم المؤسسة العلمية، من شأنه تصحيح المفاهيم.” وقد أردف أحمد التوفيق قائلا في سلسلة الدروس الحسنية:( …) أن الخطاب الديني عبر هذه الشبكة يهدف عامة إلى امتلاك عقول من يريدون التصرف بشكل كوني وإديولوجي، حتى في مباشرة أمور خصوصية تتطلب حلولا محلية عملية. فبينما يتلقف المؤمن في المسجد ما يخرج من صدر العالم الواعظ من القول المباشر ممزوجا بأنفاسه وحرقته على زرع أخلاق الشكر والتواضع والهداية، يجد المدمن على الوعظ الالكتروني نفسه في حالة تشبه اليتم، تقوي الشعور بالغبن والعزلة وتدفع إلى تضخيم الأنا وإلى الإعلاء المتطرف للذات”
و لكي يضمن الفاعل الديني الرسمي إمساكه بناصية الأمور في مجال الديني، و وعيا منه بخطورة التأثير الذي يمارسه الأنترنيت في انتاج و إعادة انتاج القيم الدينية، علما أن عدد مستعملي الأنترنيت في ازدياد ملحوظ و هذا ما تعبر عنه الاحصائيات الرسمية حيث ارتفع عدد مستعملي الشبكات الاجتماعية في سنة (2013) إلى خمسة ملايين مشترك، مما يعني أن هذه الشبكات تستقطب نسبة هامة من المجتمع المغربي، وبالنسبة للمواقع الدينية التي يلجها المغاربة، حسب موقع “أليكسا”، نجد في الترتيب(100)، موقع (طريق الإسلام)، و أمام هذه المعطيات الرقمية بادر الفاعل الديني الرسمي نحو اصلاح الحقل الديني بما يخدم مصلحة المؤسسات الدينية الرسمية و الفاعلين الدينيين التقليديين و ذلك من خلال استثمار هذه التقنيات الحديثة و من تم عدم ترك الفضاء مفتوحا على مصراعيه للدعاة الجدد.
و ما دمنا أمام دراسة سوسيولوجية، فإن النظري يتكامل مع الميداني للحصول على مقاربة سوسيولوجية أصيلة، لذلك توسل الباحث بنتائج الدراسة الميدانية المنجزة في هذا الإطار، حيث توصل “إلى أن الأنترنيت لا يشكل مصدرا رئيسيا للشباب لاستقاء المعرفة الدينية، فقد بلغت النسبة، كمصدر أول (5%)، بينما كمصدر ثان(10%)، وأن هذا المصدر يحضر عند الفئات التي تتمتع بتعليم عالي.
هذه النسب لا تعني أن الأنترنيت ليس وسيلة فعالة في نقل القيم والمعلومة الدينية، بل أن تدني هذه النسبة يعود الى المهارات التي يفترضها التعامل مع الأنترنيت، وضبط اللغات، خاصة وأن الذين يستعملونه كمصدر ثان للمعلومة هم من مستوى تعليمي عالي وهذا يؤكد ما قلناه سابقا. “ومن هنا يمكن القول إن الأنترنيت يظل حاضرا كوسيلة تقدم خدمات للشباب، خصوصا في ظل ضعف وتراجع نسب الثقة في المؤسسات الدينية الرسمية أو اللارسمية.” وبالإضافة الى كونه مصدرا من مصادر المعلومة الدينية، فهو يتيح للفرد حرية أكبر للتعامل مع المعلومات وفقا لقناعاته واحتياجاته.
وقد توصل الباحث إلى عدم صحة الفرضية التي انطلق منها حيث أن مجموعة من المعطيات تؤكد أن الأنترنيت لم يؤد إلى تغييب القيم الدينية كما كان متوقعا، بل إنه عمل على إحيائها وإعادة الروح لها من خلال عدة آليات: كالمدونات والشبكات الإجتماعية والمواقع الإلكترونية.” وعلى العموم يمكن القول بأن الدين حاضر بقوة في العالم الافتراضي، وهذا الحضور يجعلنا نتساءل حول علاقة الافتراضي بالواقعي فيما يتعلق بالقضايا الدينية؟
جدلية الواقعي والافتراضي
ان علاقة الواقعي بالافتراضي خلقت جدالا واسعا بين المهتمين بالأنترنيت وامتداداته، فهناك من اعتبر أن “إن استخدام توصيف الفضاء الطارئ في مقابل الفضاء الفعلي يعود لجملة من الأسباب نأخذ منها سياق المجتمع الشخصاني الإلكتروني وليس الواقعي، وارتباطاته بالدعاة الجدد. ففي هذا الفضاء تكثر مطالبات الدعاة للعامة بإحداث تغيير حقيقي في أنماط سلوكهم وتفكيرهم وتعاملاتهم، وكل ذلك في معزل عن البحث في التحولات الفعلية لبنية المجتمع التحتية.”
ما يعني أن هناك تعارض بين الواقعي والافتراضي وعدم الأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي والثقافي والظرفية التاريخية من طرف الدعاة الجدد ما يخلق نوعا من الفوضى بحيث أن كل من له مجتمع الكتروني يجعله منبرا لإسداء النصيحة والدعوة الى التغيير دون أن يعرف كيف ستتم هذه العملية. ويمكن القول في كلمة واحدة أن العالم الافتراضي سيخلق هوية دينية جديدة بملامح مختلطة.
وقد استدل الباحث على ما قيل بدعوة الداعية عمرو خالد الشباب الى انشاء نوادي تحت اسم صناع الحياة “وتسعى هذه النوادي لتقديم نموذج “مثالي” للشخصية المسلمة التي تتسم بالإيجابية والحيوية والذكاء والنجاح في الحياة” وقد قوبلت باستجابة واسعة من طرف الشباب لكن الغريب في الأمر، هو أن هذه النوادي، ظهرت للوجود بدون أية خلفيات مسبقة، ولا حتى بدون ارتباط بأية رؤية تأطيرية للمجتمع. واختفت بنفس السرعة التي ظهرت بها والسبب يعود في نظر الباحث الى استجابة آلية وآنية غير مفكر فيها لإثارة افتراضية مما يؤكد دائما هذه الفجوة بين الواقعي والافتراضي والقطيعة بينهما.
يمكن أن نتبنى هنا تحليل اوليفيه روا لهذه العلاقة حيث اعتبر أن هناك خاصيتين أساسيتين تميزان فضاء الانترنيت النزعة الفردانية واتخاذ جماعة مفترضة كمرجعية، “الأنترنيت يقوي ويحث على هاتين النزعتين المتعلقتين بالتفرد وبتأسيس جماعة متخيلة، الدينية عن السياق الاجتماعي، الثقافي والتاريخي الملموس الذي كانت دائما تجسده “
ان الاستنجاد بفضاء الانترنيت من منظور اوليفيه روا يعبر عن الرغبة في اثبات الذات والعقيدة الإسلامية بشكل فرداني منفصل عن مرجعيات الجماعة ومن تم يتم فصل الدين عن المجتمع والثقافة، واللجوء الى اسلام أصولي منفصل عن بعده التاريخي والمجتمعي.
وأقرب مثال على ما الانسلاخ والاغتراب الذي تحدثه شبكة الأنترنيت هو المتحولون دينيا والذين يعتمدون بشكل أساسي على هذه الشبكة كمصدر للمعلومة والفتوى فيتم تمرير معارف دينية “غير منسجمة مع السياق الثقافي، ولا حتى السياق الذي تطبق فيه مبادئ الدين وأحكامه ومبادئه.” الشيء الذي يجعل هؤلاء لقمة سائغة في يد التنظيمات الإرهابية وعجين لين يشكلونه وفق تطلعاتهم وايديولوجيتهم.
وفي مقابل التصور الذي يفصل الواقعي عن الافتراضي نجد توجه آخر يعتبر أنه امتدادا له وان فضاء الأنترنيت هو مزيج بين الواقعي والافتراضي ويؤكد قدرة الحياة الواقعية للفاعلين على التأثير فيما يتم تداوله ونشره الكترونيا. “وهذا لا يجعل من مواقع الافتاء الالكتروني تحولا جذريا وبنيويا في السلطة الدينية، بل هو مجرد تكيف يصون حقيقة المؤسسة التشريعية والجمهور المسلم نفسه، فهو لا يزال مشدودا إلى بيئته الواقعية بأواصر متينة على الرغم من انخراطه في عالم افتراضي.”
وقد خلص الباحث وهذا هو الأهم الى تحديد الواقع الديني الجديد بثلاث خصائص أساسية نتجت عن علاقة الدين بالأنترنيت وتعامل المسلمين مع هذه الوسيلة:
الخاصية الأولى-فردنة التدين: وتعني هذه الخاصية عدم الاحتكام الى أي مرجعية دينية جماعية والانطلاق من الذات لإنتاج القيم الدينية، ونجد تمظهرات هذه النزعة” في مجموعة من السلوكات التي عاينها الباحث في منطقة البحث، فلباس الحجاب مثلا، لم يعد بالطريقة التي كانت تتم في السابق، أي من خلال عمليات الاستقطاب التي كانت تمارسها الحركات الدعوية، لكنه اليوم، يتم أخذ القرار، من خلال القناعات الشخصية أولا وأخيرا.”
الخاصية الثانية-خلق جماعات افتراضية: تعويض الجماعة الواقعية بجماعة افتراضية، تبشر بمجموعة من المواقف والرؤى والاتجاهات وتدعو الى سلوكيات معينة، “بدون أن تكون مسنودة بجهة معينة، أو بخلفية إيديولوجية ما، بل إنها تعبر عن تماه في خلق فضاءات جد متحررة من كل القيود كيفما كانت”.
الخاصية الثالثة قدرة التنظيمات الإرهابية (القاعدة سابقا، وداعش حاليا)، على الاختراق الكبير للأنترنيت العميق وهي الأخطر في اعتقاد الباحث، وتتمثل في قدرة هذه التنظيمات على استمالة جمهور كبير من الشباب على وجه الخصوص ونشر خطابها حول الجهاد من استعمال شبكة الأنترنيت.
الفصل الخامس والأخير
إن اختراق الأنترنيت للديني أدى الى إحداث تحولات عميقة في الممارسات الدينية وأدى الى ظهور ما يسمى بالفتوى الالكترونية التي هيمنت على الساحة وأدت الى تراجع الفتوى الفقهية الرسمية. ومادامت الدراسة التي قدمها الباحث تنحو نحو الشمولية فقد توقف عند مسألة الفتوى الإلكترونية وعلاقتها الوطيدة بالإعلام الديني. ولا يجب الاعتقاد بأن الفتوى محصورة في الجهاز الرسمي للدولة فان الواقع يثبت أنها “شكلت على مدار التجارب التاريخية للمسلمين، مجالا لتداخل بل وتنازع الرسمي مع الفردي، المؤسسة مع العالم.
لكن مع بروز الاعلام الديني وتراجع دور الفاعل الرسمي في التوجيه والارشاد الديني، غدا من اللازم الوقوف على ما تستبطنه هذه العلاقة من أبعاد ودلالا ت مرتبطة بالصراع القوي بين الفاعل الديني الرسمي وبين ما يمكن أن نصطلح عليه اسم المفتون الجدد على غرار الدعاة الجدد. وهذا الصراع يطرح أسئلة حول من يملك شرعية الإفتاء الديني ومن تم يعتبر وصيا على الدين. مما جعل الفتوى مجالا للتوتر والصراع الأيديولوجي والسياسي والديني بين من يملك السلطة المادية أو الرمزية و” بين التوجهات الدينية والسياسية والفقهية التي كانت تعيش في حالة صراع” ونتيجة هذا الصراع هو الفوضى والحرب الفقهية والعقدية التي عرفها “سوق الفتوى” وقد استعمل الباحث هذا التوصيف لأن الأمر فعلا يتعلق بتسليع الديني، حيث أصبح بإمكاننا الحديث عن سوق للمنتوجات الدينية بما في ذلك الفتوى. لعل آخرها ما وقع فيما سمي “بالربيع العربي”، عندما تم اللجوء للمفتين –خصوصا الرسميين-إلى تحريم الخروج على الحاكم أو تحريم القيام بتظاهرات سلمية بعد صلاة الجمعة أو من خلال تحريم خروج المرأة في التظاهرات السلمية بجانب الرجال، مما اعتبر “فتنة” وفسادا كبيرا” كلها أمثلة توضح الفوضى التي عرفها سوق الفتوى والصراع القوي الذي يعتمل بداخلها.
هذا وتحتل الفتوى مكانة مهمة في الحياة الدينية للمجتمعات المسلمة، فلا أحد منا يجهل أهمية الفتوى الدينية والقداسة التي تحظى بها فكما قال الباحث (اسويلمي) فإن ” الفتوى منتوج فوق بشري يجري مجرى البداهة ويتم تقبله بنوع من القداسة”. وما يعزز ذلك حسب الباحث هو الاقبال الكبير لغالبية المسلمين على الفتوى حتى في القضايا التي تحتاج الى استشارة الطبيب أو المعالج النفسي أو الأخصائي الاجتماعي. “ففي بعض الحالات التي يبرز تعارض بين المعتقد الديني والممارسة الطقوسية، وبين رأي الطب في موضوع ما، فإن المستفتي، يفضل جواب المفتي على رأي الطبيب أو غيره من المختصين”. وقد استعان الباحث بمثال دارج وهو أنه في حالة وجود مرض يمنع من الصيام، فإن الفرد يلجأ الى طلب الفتوى الدينية بدل استشارة الطبيب، علما أن القول الفصل في هذه الحالة يرجع للطب لكن المفارقة أن المستفتي يلتزم بالفتوى الدينية حتى وان أدت به الى الهلاك.
وتكمن خطورة الفتوى في نظر الباحث في كونها من الممكن أن تخلق تصدعا في الهوية الدينية والثقافية للمسلمين، “خصوصا مسلمي المهجر الذين يتلقون تلك الفتاوى بهالة من القداسة والتبجيل، وما يستتبع ذلك من سلوكات ومواقف واتجاهات تفصل ما هو ثقافي عما هو ديني، وتؤشر على مسلك جديد في الممارسة الدينية، دونما إعمال لأي نقد أو تشكيك أو حتى تأويل مطابق للسياق الذي يعيشه هذا المسلم المهاجر”.
مما يخلق تدينا مشوها ويؤدي في بعض الأحيان الى التطرف الديني “وقد لا نأتي بجديد، إذا ما تحدثنا عن فتاوى الجهاد التي بدأت تستقطب الآلاف بل عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يلتجؤون إلى بؤر التوتر في العالم الاسلامي، أو من خلال العمليات الارهابية التي يقومون بها في بلاد المهجر.”
هذا ما جعل الباحث يتبنى التحليل الذي قدمه السوسيولوجي اوليفيه روا الذي قال ” بأننا نعيش في زمن أصبح الدين فيه بدون ثقافة ويعني ذلك أننا نعيش في نوع من العلمنة الصامتة التي تفعل فعلها في التأثير في إسلام السوق، حيث لا تعني العلمنة تهميش الدين كما هو سائد في الحس المشترك، ولكن عبر إزالة الحمولة الثقافية من الدين، وجعل منتجات هذا الاخير مستقلة بل محايدة وبدون هوية ” وهذا ما خلقته السوق الدينية المحدثة بواسطة الاعلام الديني والفتاوى الالكترونية.
ونتيجة لما تقدم سجل الباحث نشأة رد فعل مؤسساتي تمخض عن أجهزة الدولة أو ما سماه “بالمخزن الديني” من أجل تطويق الوضع والتحكم في زمام الأمور وذلك بتأسيس مؤسسات رسمية تهتم بمسألة الإفتاء، تجنبا “للفوضى” الناجمة عن انتشار الفتوى كالنار في الهشيم، بفعل الغزو الالكتروني والتقني، في ربوع العالم الإسلامي.
ففي المغرب مثلا تم العمل على تنظيم الفتوى كإجراء جوهري في مجال إصلاح الحقل الديني وقد تبلور ذلك بشكل جلي في إنشاء “هيئة علمية مكلفة بالإفتاء” تابعة للمجلس العلمي الأعلى. تتمثل مهمتها الأساسية في: “إصدار الفتاوى الرامية إلى تحديد حكم الشريعة الإسلامية في القضايا ذات الصبغة العامة.”
غير أن هذه الإجراءات لا يمكن في نظر الباحث أن تحد من تدفق الإفتاء الفردي والشخصي لأن الأمر يتعلق بتدفق للتقنية بشكل أصبح معه العالم قرية صغيرة على جميع المستويات بما فيها المستولى الديني. ما جعل المفتون الجدد يتملكون زمام الأمور ويكسبون ثقة جمهور ديني واسع “لاستعمالهم لمفاهيم جديدة في الفتوى والافتاء تمكنهم من استمالة جمهورهم وخاصة الشباب. فقد لجأ هؤلاء الفاعلون الجدد على الأنترنيت الى استعمال خطاب يبدو في ظاهره أنه جديد ويعتمد مفاهيم جديدة كمفهوم “الارشاد” الذي عوض مفهوم الفتوى، ومفهوم المعاملات المالية البديلة الذي عوض مفهوم الربا، ومفهوم الزواج الذي أصبح يستعمل بدل النكاح، ومفهوم العلاج النفسي مكان السكينة، وغيرها من المفاهيم التي تجد جذورها في الحقل الثقافي المعاصر والمتداولة في وسائل الإعلام والانترنيت.
غير أن المتأمل سيكتشف أن الفتوى الالكترونية لم تقطع بشكل نهائي وجذري مع التراث الديني القديم، بل عملت على تجديد صياغته وتقديمه في صورة معاصر كي يتمثلها ويتلقاها المسلم اليوم بدون أي تحفظ أو اعتراض.
على سبيل الختم
نخلص من خلال هذه القراءة الخطية للكتاب أن الرؤية التي تحكمت في الباحث هي رؤية سوسيولوجية مركبة تنطلق من النظر الى الظاهرة الدينية كظاهرة مركبة تتداخل في تشكيلها مجموعة من الأبعاد و المظاهر، الشيء الذي جعل الباحث يقدم نظرة شمولية عن موضوع الدراسة مبتدئا ببسط السياق النظري و السوسيو تاريخي الذي أسس لظهور الإعلام الديني و متوقفا عند أهم التحولات التي شهدها المشهد الديني في المجتمعات العربية و المتمثلة أساسا في نزع القداسة عن المؤسسة الدينية الرسمية، قبول المقولات النسبية ، فردنة الدين بالإضافة الى النزعة الاستهلاكية في الدين أو تسليع الديني.
وبعد ذلك توقف الباحث عند أهم مخرجات التدفق الإعلامي والافتراضي التي تمظهرت أساسا في ظاهرة التدين الفردي والدعاة الجدد، والفتوى الالكترونية وما تثيره من إشكالات وتنازعات مرتبطة بالصراع بين المؤسساتي الرسمي وبين الشخصي الفردي. منبها الى خطورة تبعات الاعلام الديني والأنترنيت على حد سواء على الهوية الدينية للشباب. وقد كان الباحث على وعي تام عندما تحدث عن منزلقات التقنية ومطباتها بأن الأمر لا يتعلق بمشكل في التقنية في حد ذاتها بل بطريقة استعمالها من طرف الانسان وبالتالي فهو لا ينتصر لحتمية تكنولوجية بل يحمل الفرد كامل مسؤوليته في تعامله مع التقنية.
و لكي نكون موضوعيين في تعاملنا مع الظاهرة، فلا يمكن انكار أهمية الاعلام الديني و الأنترنيت في التثقيف و في نشر المعلومة الدينية، غير أن تسليع الديني يقتضي منا الحذر و الكثير من الحذر في التعامل مع هذه التكنولوجيات الحديثة، كما يفترض الأمر زرع حس نقدي لدى الشباب و أن لا يكونوا مجرد مستقبلين سلبيين لما يقدم في هذه الفضاءات الافتراضية بل فاعلين ولا يمكن أن يتحقق هذا الأمر دون التربية على استعمال الميديا الاجتماعية، وتعرف التربية على وسائل الإعلام أو الميديا بالقدرة على ولوج وسائل الإعلام وفهمها وتقييم مضمونها ومظاهرها بحس نقدي.( Marie Daniel Bougaire, L’autonomisation des jeunes Burkinabé face à internet, Education aux medias à l’heure des réseaux, 2015( ما يعني أنها تربية تستهدف ترشيد عملية التعامل مع الميديا بكل أشكالها سواء التقليدية أو الحديثة وخصوصا الميديا الاجتماعية الرقمية لأن جيل التكنولوجيا الرقمية يخصص وقتا كبيرا وطاقة لوسائل الإعلام الحديثة وبشكل خاص لشبكات التواصل الاجتماعي باعتماد وسائل ودعامات متنوعة للتواصل.
أختم هذه السلسلة من المقالات، بالقول بأن كتاب السوسيولوجي رشيد جرموني يعتبر بحق مرجعا على درجة كبيرة من الأهمية في سوسيولوجيا الدين والتحولات الدينية، فهو مدخل أساسي لفهم التحولات التي عرفتها الخريطة الدينية، في المجتمعات العربية والمجتمع المغربي على وجه الخصوص. وما يضفي على الدراسة طابع الفرادة والتميز هو طبيعة المقاربة التي اعتمدها الباحث والتي زاوج فيها بين التأسيس النظري لمحاور الدراسة والمقاربة الميدانية الامبريقية التي تقربنا من الظاهرة بشكل إجرائي. ما طبع الكتاب بخاصية إبستيمولوجية مطلوبة وهي التناول الشمولي للظاهرة والأخذ بعين الاعتبار خصوصيتها المتمثلة أساسا في التركيب والتغير المستمر، مما فرض على الباحث تحيين بعض المعطيات الإحصائية وادماجها في تحليل الظاهرة المدروسة. إن هذه الدراسة تعكس الحرقة التي نلمسها لدى الباحث في تناوله لكل المواضيع التي درسها وهي حرقة السوسيولوجي الذي يرى في الظواهر ما لا يراه الانسان العادي، ومن هنا تنبيهه غير ما مرة الى خطورة الاعلام الديني والأنترنيت واعيا بنسبية النتائج التي توصل إليها ومعترفا بمحدوديتها وهنا نلمس تواضع الباحث الذي جعل من المقولة السقراطية: “كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا” عنونا لكل أعماله سواء في مجال سوسيولوجيا التربية أو الدين.
*باحثة في سوسيولوجيا الأديان
الهوامش:
[1][1] ايميل دوركايم، الاشكال الأولية للحياة الدينية: المنظومة الطوطمية في أستراليا، ترجمة رندة بعث، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الطبعة الأولى يوليو 2019، ص 29
[1] غاستون باشلار، تكون الفكر العلمي، فران، 1980، ص 14
[1][1] رشيد جرموني، الدين والاعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2019، ص11
[1] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص11
[1] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص 18
[1] رشيد جرموني، مرجع مذكور ص21
[1] رشيد جرموني، مرجع مذكور ص24
[1] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص33
[1]رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص35 [1] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص36
تعليقات الزوار ( 0 )