لاشك أن معرفة القواعد الدستورية المنظمة للسلطات العامة فى الدولة واختصاصاتها وعلاقاتها فيما بينها، تبقى في كثير من الدول العربية إن لم نقل فى جلها “نخوبية”، حيث تنحصر هذه المعرفة القانونية فى فئات محددة من المجتمع، بينما الأغلبية داخل المجتمعات العربية قد تسمع بمصطلح “الدستور” ولكن تبقى التفاصيل غائبة عنها أو يستعصي عليها فهمها وهو ما يمكن إطلاق اصطلاح “الأمية الدستورية” على هذا الوضع الشاذ، فما هي أسباب هذه “الأمية” وماهى تداعياتها وماهى السبل الكفيلة بمحو هذه الأمية الدستورية داخل هاته المجتمعات ؟
سلوك السلطات الحاكمة والأمية الدستورية:
المطلع على الدساتير العربية من المتخصصين فى العلوم السياسية سيجد أنه أمام دساتير عصرية تكاد تكون نسخ شبه مكررة لدساتير دول ديمقراطية من خلال النص على جل القواعد والمبادئ التى تحتويها دساتير تلك الدول وذلك كان نتاجا لعمليات الاقتباس، التى قامت بها هذه الدول من جل الدساتير الديموقراطية وليس فى ذلك عيب، ولكن يكمن العيب فى غياب أو تغييب مفهوم ومضمون الدستور فى جل الدول العربية بالنسبة للقاعدة الجماهرية ولهيئة الناخبين الذين يدعون مرارا للتصويت أو للاستفتاء وفقا لنصوص الدستور، الذي لايفقهون عنه شيئا ولا يخرج للعلن إلا فس مواسم الاستفتاءات التى تخدم دائما السلطة أو النخبة الحاكمة، فعلى سبيل المثال يدعى الشعب للاستفتاء من أجل تعديل نص يمنع رئيس الدولة أن يترشح لأكثر من ولايتين رئاسيتين ويمنحه الاستفتاء فرصة ولاية أخرى، وعندها يخرج الدستور وينفض عنه “الغبار” وتبدأ الآلة الإعلامية فى شحذ الهمم ومطالبة الشعب الواعي أن يقول فقط نعم في مثل هذه الاستفتاءات الدستورية وذلك من أجل ” الوطن”و …الخ.
هذا المشهد تكرر فى الكثير من الدول العربية الجمهورية وأوردت هذا المثال لتوضيح نقطة هامة وهي أن هذا العقل الجماعي لم يفهم من الدستور سوى قول “نعم” فقط ، وإذا ما جادلته حول ماوراء كلمة “نعم” ستجد أن معرفته تكاد تكون صفرية حول هذا الدستور الذي خرج وأعطى صوته من أجل تعديله، وهنا تكمن الإشكالية الجوهرية فى جل الدول العربية، حيث إن الدساتير لا يتم الحديث عنها إلا في مواسم معينة ويتم تغييبها طوال الوقت، ولا يتم الإشارة إلى الدستور سواء فى الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أو فى العلاقات التي تربط السلطات ببعضها البعض والتي وضع لها الدستور نظاما حتى لا تتغول سلطة على باقي السلطات وخاصة السلطة التنفيذية “الحكومة” بالتالي يظل هذا المواطن يعاني من “أمية دستورية”، تجعله جاهلا لحقوقه المصونة بهذا الدستور الذي لا يعلم منه سوى قول “نعم” عندما يستدعى لمواسم الاستفتاءات “الرئاسية”، وبعدها يعود الدستور “لثباته العميق” وتتجمد نصوصه ولا تذكر ‘لا فى وقت الحاجة.
هذا التجاهل للوثيقة الدستورية ولأسمى نص قانوني في الدولة جعل من الأمية الدستورية تضرب بأطنابها وأصبحت واضحة عندما ترى “المواطنين” يطالبون ويرفعون طلباتهم إلى السلطات أو “الرئيس” من أجل القيام بعمل معين كفله الدستور كحق لهم وليس كمنحة من أي أحد في الدولة، ومع استمرار مثل هذه السلوكيات أصبحت “الأمية الدستورية” متجذرة في عموم فئات الشعوب العربية وبالتالي في ظل هكذا واقع يجهل فيه المواطن أبسط حقوقه الدستورية التى يمكن أن يدافع عنها ويصل من أجل تحقيقها إلى رفع الدعاوي القانونية أمام المحاكم المختصة، أو لنقل كأضعف الإيمان مناقشتها عبر الإعلام الحر وفضح كل من يتغول أو لا يلتزم بهذا العقد الاجتماعي الذي لايمكن مخالفته أو عدم تطبيقه من أي سلطة فى الدولة . بالتالي يمكن التقرير على أن السبب الرئيس فى تفشي هذه الأمية الدستورية هى السلطات الحاكمة التي لا تعطي مكانة سامقة لهذه الوثيقة وقد تعمل بما يخالف نصوصها وقد تعطل أو تجمد بعض نصوصها وهو الأمر الذي جعل من أسمى قانون فى الدولة وثيقة ” موسمية” ينفخ فيها “الروح” فى أوقات بعينها وبعدها تدخل الى ” أدراج” النسيان .
هذا الواقع سيجعل من السلطات تعمل بدون رادع قانوني يحسابها على دستورية أو عدم دستورية هذه التصرفات بالرغم من وجود المحاكم الدستورية التي تختص بالنظر فى مثل هذه القضايا ، إلا أن الوصول لهذه المحاكم لا يتم إلا نادرا، وذلك بسب أن معظم هذه النظم السياسية نظما “مغلقة”!!!!
واقع مثل هذا خلق هذه الحالة من اللا مبالاة بخصوص الدستور ومايحتويه ما دام أن السلطات التي تحكم بموجبه قلما تأتي بذكره علنا وهو الأمر الذي أدى مع مرور الوقت إلى بروز هذه الأمية الدستورية بشكل واضح فى جل الدول العربية وعندما تجتمع الأمية الأبجدية التى تعرف نسبا عالية فى هذه الدول مع الأمية الدستورية يصبح التساؤل عن إمكانية التحول الديموقراطي فيها مجرد ترف فكرى !!!!
تداعيات الأمية الدستورية وسبل حلها
لاشك أن عدم معرفة عموم الشعب بمحتوى الدستور ” الأمية ” والايمان بإن هذه الوثيقة هى الضامن الاساسي لكل الحقوق والمبادئ التى وردت فى صلبها ، سواء كانت حقوقا فردية أوجماعية ، سياسية أم إقتصادية ، سيخلق حالة من العزوف عن المشاركة السياسية فى الشأن العام والذي يكفله الدستور ذاته ، وايضا سيجعل من هذه الحقوق الدستورية فى ذهن العامة مجرد “هبات” “ومنح” تتكرم بها السلطات العامة فى الدولة” لمواطنيها” وليست حقوقا ضمنتها هذه الوثيقة للجميع و بمساواة تامة ، وبالتالى سيكون عدم الاكتراث بالشأن العام وغض الطرف عن ممارسات السلطة الحاكمة هو السمة البارزة فى ظل هكذا نظم سياسية ، وهو الأمر الذى أفضي الى نتائج تكاد تكون متطابقة فى معظم الدول العربية وبخاصة ذات النظام الجمهورى حيث انتهكت هذه الوثيقة لسنوات طويلة من أجل ضمان إستمرارية حاكم واحد فى سدة الحكم ، بل عمدت بعض هذه النظم الى تهيئة الأجواء السياسية لتوريث الحكم لأبناء هؤلاء الرؤساء كما حدث فى مصر ،اليمن ،ليبيا ، العراق سابقا ولعل سوريا هى الحالة الواضحة لهذا ” العبث الدستوري” حيث تم تعديل فقرة فى الدستور ” بالاجماع ” تخفض من سن المترشح لمنصب الرئيس ليفسح المجال لأبن الرئيس الراحل حافظ الاسد ليتولى السلطة وهو الأمر الذي تم فى ثواني معدودة ، ومايزال الى الوقت الراهن فى سدة الحكم رغم الخراب والدمار الذى جعل من سوريا أثرا بعد عين !!!
هذا العبث بالوثيقة الدستورية لايمكن تصوره فى البلدان الغربية التي اقتبست منها معظم الدول العربية دساتيرها الآنية وذلك راجع بالأساس إلى أن المواطنين فى هذه الدول يعلمون جيدا حقوقهم الدستورية وما لايجوز القيام به من طرف السلطات الحاكمة وفقا لهذا القانون الأسمي فى الدولة ومن ثم فإن السلطة الحاكمة في هذه الدول تعلم بأن رقابة الأفراد وليس رقابة السلطات العامة كالمحاكم الدستورية هى السيف المسلط على رقابها ، وهو مايجعلها تتوائم مع الوثيقة الدستورية ولا تتجرأ على انتهاكها أو الخروج عليها، وهذا الأمر أضحى ثقافة سياسية تتناقلها الأجيال فى هذه الدول سواء عبر وسائط التعليم أو عبر دور الأحزاب السياسية التى تكون دائما يقظة عند أي محاولة لانتهاك الوثيقة الدستورية وهو ماخلق فى الأخير هذه الثقافة الدستورية ،التي تعتبر حسب وجهة نظرى الأرضية الصلبة التى من خلالها يتم القضاء على “الأمية الدستورية” داخل المجتمع وبالتالي تساهم في انطلاق طاقات هذا المجتمع الذي منه تخرج النخب السياسية التى تدير هذه الدول.
وإذا أرادت الدول العربية انتقالا ديموقراطيا حقيقيا فلابد من بسط ونشر هذه الثقافة الدستورية داخل مجتمعاتها وتكون البداية ” بمحو” هذه الأمية الدستورية، من أجل خلق مجتمع معافى يعلم حقوقه التي كفلها له هذا الدستور وواجباته التى فرضها وشكل السلطات العامة في الدولة واختصاصات هذه السلطات والعلاقات البينية بينها والنصوص التى يجوز أو لايجوز تعديلها والاجراءات الواجب توافرها فى أي تعديل دستوري …إلخ ، وهنا يقع على عاتق السلطات العامة واجب فسح المجال لتدريس دستور الدولة فى المراحل التعليمية المختلفة ويكون ذلك عبر “جرعات” تعليمية تراعي سن المتلقى لهذه المعلومات ، كما أن من واجب الأحزاب السياسية فى الدولة ” تأطير” منسوبيها والشعب عموما وأن لا يكون دورها محصورا فى أوقات المواسم الانتخابية لحصد الأصوات فقط لأن هذا السلوك ” الشاذ” عمق من هذه الأمية الدستورية فى هذه المجتمعات وهو الأمر الذي يجب الانتباه له من طرف هذه الأحزاب حتى لا تستمر هذه الأمية إلى ما لانهاية، فالحديث عن انتقال ديموقراطي لن يتم فى دول لايعرف مواطنها ماهية الدستور ، وماهية حقوقه ، وحدود السلطات العامة.
كذلك فى تصورى يلقى على عاتق منظمات المجتمع المدني دور هام لمحو هذه الأمية الدستورية من خلال عقد الورش الثقافية التي تلقى الضوء على هذا الموضوع وتفرد له حيزا هاما فى برامجها بشكل دائم.
كما يقع على عاتق الإعلام أو وسائل الاتصال الجماهيري بصورة عامة سواء ” المقروءة ، المسموعة، المرئية ،ووسائل التواصل الاجتماعي” دورا لا يقل أهمية عن ماسبق ذكره حيث يمكنها وبشكل مستمر نفض الغبار عن الوثيقة الدستورية التى همشت بشكل واضح فأفرزت هذا الواقع الذي لايخدم عملية التحول الديموقراطي فى هذه الدول ففاقد الشي لايعطيه!!!!!
لم تعد الأمية بمعناها الاصطلاحي الذي يفيد عدم إجادة القراءة والكتابة وقفا للعديد من المجتمعات العربية فقط، بل أضيفت له الأمية الدستورية التي قد لاتكون لها علاقة مباشرة بمفهوم الأمية التقليدي “عدم إجادة القراءة والكتابة” فقد تجد أن هنالك قاعدة عريضة حظيت بتعليم جيد ولكنها مازالت “أمية” من الناحية “الدستورية “، وهو الأمر الذي يعمق من إشكالية التحول الديموقراطي الحقيقي فى هذه المجتمعات وبالتالى سيظل الحديث عن التحولات الديموقراطية مجرد تنظير سياسي فى ظل تفشي الأمية التقليدية والامية الدستورية .
- باحث فى العلوم الدستورية والسياسية – الولايات المتحدة الامريكية – كاليفورنيا
سلمت أناملك دكتور عوض، وأسأل الله أن يرينا تلك الأيام التي تمحى فيها أمية شعوبنا وتتحرّرُ بعقولها لتحرر أبدانها.
كارثة أن يصبح الحق هبة تعطاها.
احسنت يا دكتور فكلنا اميين ولا نسمع بالدستور الا عند الإعلان لتمديد ولاية الزعيم حتى يعطي وجوده شرعية صورية وللأسف هذا هو الواقع في كثير من دول العالم