Share
  • Link copied

الأكاديمي التجاني بولعوالي يدعو المؤسسات المكلفة بالشأن الديني إلى ضرورة تجديد وظيفة الإِمام في السّياق الأوروبي

تعززت المكتبة العربية والإسلامية بكتاب جديد في حقل الدراسات الفكرية والأكاديمية للإسلام في أوروبا والغرب، وهو من تأليف الباحث والمفكر المغربي المقيم في بلجيكا الدكتور التجاني بولعوالي، ويحمل عنوان: “وظيفةُ الإِمام في السّياق الأورُوبي وضرُورة التّجدِيد، الحالة البلجيكية أنموذجا”. وقد صدر هذا الكتاب عن دار النشر بيت الحكمة في تطوان بالمغرب بتعاون مع مركز اجتهاد للدراسات والتكوين في بلجيكا ضمن سلسلة “دراسات الإسلام في الغرب”، وذلك أثناء العام الجاري (2023). 

ويعتقد الباحث بولعوالي أن وجود الإسلام والمسلمين في بلجيكا وألمانيا يختلف عنه في دول أوروبية أخرى سبق لها أن احتلّت بلدا عربيا أو إسلاميا معينا مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا، والتي شهدت وجودًا مبكرًا للإسلام والمسلمين على أراضيها تزامن تاريخيا مع فترة الاستعمار التقليدي. إن بلجيكا لم يسبق لها أن أحتلت أي بلد عربي أو إسلامي، وهذا يعني أن اتصالها بالمسلمين وتعرفها إلى الإسلام لم يتم عبر القناة الاستعمارية. إن وجود الإسلام في بلجيكا يعود بالفعل إلى مستهل ستينات القرن الماضي، عندما استقدمت وغيرها من الدول الأوروبية، وقد خرجت منهكة من الحربين العالميتين الأولى والثانية، أولا اليد العاملة من أوروبا الوسطى والجنوبية (إسبانيا، إيطاليا، اليونان)، ولاحقا من تركيا وشمال إفريقيا (المغرب، الجزائر، تونس)، وذلك لإعادة بناء ما خلفته الحرب من دمار عمراني وصناعي. وقد أنشئت مكاتب ووكالات تشغيل لهذه الغاية، عملت على استقدام عشرات الآلاف من الشباب كعمال ضيوف غادروا أوطانهم الأصلية للعمل في بعض بلدان أوروبا الغربية، بما فيها بلجيكا.

ويحيل الباحث بولعوالي في مقدمة الكتاب على المفكر السويدي نيلسن يورغن الذي يذكر أن القنصليات البلجيكية “في المغرب أخذت تدعو المغاربة للذهاب إلى بلجيكا والعمل فيها. وفي مرحلة لاحقة، أخذ الأتراك أيضا يقصدون بلجيكا للعمل، خصوصا بعد أن صار تصدير العمالة جزءا من سياسة تركيا الاقتصادية.” (المسلمون في أوروبا، 1992، ص 22). وهكذا انخرط العمال الضيوف الوافدون على أوروبا وبلجيكا في أوراش العمل، وهم يخططون لجمع بعض المال، ثم العودة بعدئذ إلى أوطانهم الأصلية لاستثماره في بناء مسكن أو فتح مشروع تجاري أو فلاحي صغير. وهذا ما كان يتوقعه أيضا أرباب العمل، الذين عمدوا إلى استيراد اليد العاملة الأجنبية لتوظيفها بشكل مؤقت في بعض الأوراش الفلاحية والمناجم والمعامل، غير أنه حصل ما لم يكن في الحسبان، حيث استمر المهاجرون المسلمون الأوائل في العمل، فتزوجوا مع مرور الأيام، ثم استقدموا نساءهم إلى بلجيكا ضمن قوانين التجمع العائلي، وبدأ يظهر جيل بأكمله في مختلف المدن البلجيكية الكبرى بمناطق بروكسيل والفلاندر والوالون، فنشأت أقلية مسلمة مهمة حتّمت عليها الظروف الجديدة الاستقرار الكلي في المهجر، ما حال دون تحقيق حلم العودة إلى أوطانها الأصلية كما كانت تفكر في بداية الهجرة.

وهكذا صار الجيل الثاني لاسيما المولود في الغربة يشكل جزءا لا يتجزأ من المجتمع البلجيكي، حيث تربى وترعرع والتحق بالمؤسسات التعليمية، وتعلم اللغتين الفرنسية والفلامانكية، وتعرف إلى الثقافة الأوروبية والبلجيكية. وبحلول العقد الثمانيني من القرن الماضي تأكد للعمال من أصول مسلمة، خصوصا المغربية والتركية أنهم لم يعودوا “ضيوفا” كما كان الأمر في العقدين السابقين، بل حكمت عليهم الظروف العائلية والاجتماعية الجديدة أن يلتصقوا بالتدريج بمجتمع الإقامة البلجيكي، ليس عبر العمل فقط، بل عبر آليات أخرى كالاستثمار التجاري وشراء المنازل وتعليم الأبناء والتجنيس.  

ويستخلص الباحث بولعوالي أن العناصر الدينية والثقافية والهوياتية لم تكن غائبة من حياة المهاجرين الأوائل وتفكيرهم، بقدرما سعوا منذ البداية جاهدين لتنظيم شؤونهم الدينية (الصلاة الجماعية، صلاة الجمعة، الاحتفال بالأعياد الدينية والوطنية، الذبيحة الحلال، دفن الموتى، إلخ) رغم الظروف العويصة التي كانوا يعيشون فيها أثناء بدايات الهجرة. وباستقدام الأسر والأبناء من الأوطان الأصلية وظهور مواليد جديدة في بلد الإقامة، بدأت حاجات أخرى تطفو على السطح، منها ما يتعلق بتربية الأبناء وتأسيس المساجد وتنظيم التعليم الإسلامي والعربي، وظلت مؤسسة المسجد، بما فيها دور الإمام، حاضرة في هذا السياق المتغير، وسوف يستمر هذا الحضور إلى وقتنا الحالي بمختلف أبعاده الإيمانية والتعبدية والروحية والتربوية والرمزية. وبقدرما تشكل مؤسسة المسجد ملاذا للشرائح المسلمة في بلجيكا وأوروبا والغرب، فإنها لا تخلو من بعض الإشكالات القانونية والتنظيمية والفقهية، والتي يتعلق بعضها بقضايا الاعتراف الرسمي والتعليم الإسلامي والتوجه المذهبي والتمويل المادي وتكوين الأئمة.          

ويوضح الباحث بولعوالي أن هذه الدراسة جاءت لمقاربة موضوع الإمام، الذي يعتبر من بين إحدى القضايا المعقدة في السياق الأوروبي عامة والبلجيكي خاصة، لما يطرحه من إشكالات إيديولوجية ومنهجية ولغوية وأكاديمية، تظل عالقة إلى اليوم رغم المبادرات والمحاولات المتنوعة التي تمت في هذا الشأن سواء من جهات إسلامية أو رسمية أو أكاديمية، لتأهيل دور الإمام داخل المجتمع حسب ما تقتضيه الشروط الحضارية الجديدة. لذلك، فلا مناص من الاشتغال بهذه الإشكالية البحثية بهدف صياغة تشخيص شمولي للموضوع، وهو ينطلق في الفصل الأول من الجذور التاريخية للوجود الإسلامي في بلجيكا لاستيعاب مختلف التحولات السوسيو- ثقافية والسياسية والاقتصادية والقانونية التي شهدها حضور المسلمين في السياق البلجيكي. ويقارب في الفصل الثاني مؤسسة المسجد منذ ظهورها المبكر في ستينات القرن الماضي، وكيف يتم من داخلها ترتيب الشأن الديني. ويعالج في الفصل الثالث أهم المبادرات التي تم طرحها من طرف مؤسسات إسلامية وأكاديمية بلجيكية لإرساء تكوين للأئمة والمرشدين الدينيين. ثم يتناول في الفصل الرابع مختلف الجهود المغربية المتعلقة بالشأن الديني سواء التي تبذلها جمعيات ومراكز بلجيكية- مغربية أو التي تساهم بها مؤسسات مغربية رسمية. ويختم هذه الدراسة في الفصل الأخير بمناقشة موضوع الإمام في السياق البلجيكي العلماني والتعددي مع التركيز على كون مسألة تجديد وظيفة الإمام وتأهيلها باتت تشكل ضرورة ملحة أمام التغيرات القيمية والسوسيو- ثقافية والقانونية والسياسية التي يشهدها راهن الإسلام في أوروبا وبلجيكا.

ولعل هذه الدراسة تعتبر من بين الدراسات العربية الأولى من نوعها التي اشتغلت بموضوع الإمام في السياق الأوروبي، وتركيزا على الحالة البلجيكية. وقد سبقتها دراسات وتقارير سواء حول الشأن الديني الإسلامي في أوروبا أو في بلجيكا. ويذكر الباحث بولعوالي أهمها، لاسيما التي اشتغلت بتنظيم الشأن الديني الإسلامي، بما فيه وظيفة الإمام، في السياقين الأوروبي والبلجيكي، وهي: “الأئمة والمرشدون الدينيون في الفلاندر” لجونثان دبير وآخرين، “المساجد، الأئمة ومدرسو الإسلام في بلجيكا” لمريم كانماز ومحمد البطيوي، “الإسلام والمسلمون في بلجيكا” لبرجيت مارشال وحسن بوسيطا، “سياسة الهجرة البلجيكية بعد 1945” لألبرت مارتينس، “المعنى الديني في مجتمع علماني” لسامي زمني، “المرسوم الفلامانكي حول تنظيم العقائد المعترف بها” الصادر عن الحكومة الفلامانكية عام 2004. وتجدر الإشارة أيضا إلى إصدار جماعي من الأهمية بمكان فيما يتعلق بموضوع الإمام، لأنه يغطي مختلف التجارب والنماذج على مستوى أوروبا الغربية، وهو “الأئمة في أوروبا الغربية: التطورات والتحولات والتحديات المؤسسية”، الذي ظهر عام 2018، وهو من تنسيق وتحرير محمد حصحاص ويان ياب دي راوتر ونيلس فالديمار. وتنضاف إلى ذلك دراسات أكاديمية مهمة اشتغلت بشكل خاص بموضوع الإمام ضمن بعض السياقات الأوروبية القريبة جغرافيا من السياق البلجيكي، والمتقاطعة معه في التجربة الدينية الإسلامية كهولندا وفرنسا وألمانيا. ينذكر في هذا الصدد “الإمام في هولندا، وجهات نظر حول دوره الديني في المجتمع” لفيلموت بوندر، “الإمام خلف القضبان، دراسة حول المرشدين الروحيين في السجون الهولندية بهدف صياغة ملفهم الوظيفي” لمحمد أجواو، “أئمة فرنسا سلطة دينية تحت المراقبة” لسولين جوانو، “تكوين الأطر الدينية المسلمة بفرنسا” لفرانك فريغوسي، “مهنة الإمامة بفرنسا، دراسة ميدانية” ليوسف نويوار، “دعاة الإسلام: الأئمة – من هم وماذا يريدون حقا” لرؤوف جيلان، وهذا الكتاب نفسه صدر في طبعة ثانية تحت عنوان: “الإمام في ألمانيا”، و”كيف تفهم القرآن ياسيدي الإمام؟” لبنيامين إدريس،.

وقد وفق الباحث بولعوالي في كتابة هذه الدراسة بين مختلف الآليات الوصفية والتحليلية والتقويمية التي استقاها من بعض المنهجيات البحثية، حيث استفاد كثيرا من المنهج الوصفي التاريخي، لاسيما في الفصول الثلاثة الأولى، حيث اعتمد على الامتداد العمودي التعاقبي في تقريب تاريخ الوجود الإسلامي في بلجيكا وتطور مؤسسة المسجد وشتى المبادرات المتعلقة بتكوين الأئمة، ولم تخل هذه الفصول من لحظات تحليلية ونقدية ومُقارِنة، كلما اقتضى ذلك مسار البحث. بالإضافة إلى ذلك، عمد الباحث إلى توظيف المنهج النقدي ليس في بعده التقويضي والتفكيكي، بل في بعده التأسيسي والتقويمي أثناء الاشتغال بالتجربة المغربية في تنظيم الشأن الديني الخاص بمغاربة أوروبا، وذلك بهدف التعريف بجهود هذه التجربة، وتقييم إسهاماتها المتنوعة، ثم الكشف عن بعض نواقصها المنهجية التي من شأنها أن تشكل منطلقا للتجديد المستقبلي.   

وقد توزعت هذه الدراسة خمسة فصول ومقدمة وخاتمة. مهّد الباحث بولعوالي في المقدمة بحديث حول السياق التاريخي العام لموضوع البحث، ثم الإشكالية الرئيسة للدراسة، وهي وظيفة الإمام في السياق الأوروبي والبلجيكي، وما تفرع عنها من أسئلة ثانوية، ثم أهم الدراسات السابقة حول الشأن الديني الإسلامي في السياق البلجيكي، ثم الآليات المنهجية المعتمدة في هذه الدراسة. جاء الفصل الأول تحت عنوان: الإسلام في بلجيكا من الهجرة إلى الاعتراف، وقد تضمن ثلاثة مباحث، وهي على التوالي: لمحة تاريخية عن حضور المسلمين في بلجيكا، ديمغرافية المسلمين في بلجيكا، ثم إشكالية الاعتراف البلجيكي بالإسلام. وتمت في الفصل الثاني مقاربة موضوع مؤسسة المسجد وترتيب الشأن الديني، والذي تناولناه عبر أربعة مباحث، وهي: المساجد الأولى في بلجيكا، تأثير البلدان الأصلية، الإمام في السياق البلجيكي، وتنظيم وظيفة الإمام في القانون البلجيكي. وتطرق في الفصل الثالث إلى إشكالية الفشل في إرساء تكوين للأئمة في بلجيكا، من خلال ثلاثة مباحث، وهي: الحاجة الملحة إلى تكوين للأئمة، تجارب إسلامية متنوعة في هذا الصدد، ومبادرة تكوين للأئمة في جامعة لوفان. أما الفصل الرابع، فقد خصصه الباحث للجهود المغربية المتعلقة بتنظيم الشأن الديني لدى مغاربة أوروبا، إذ تريث في المبحث الأول عند التراكم المؤسسي المغربي في هذا الباب، ثم تعرض في المباحث الثلاثة الموالية لتجارب المؤسسات المغربية الثلاث المكلفة بمغاربة أوروبا والعالم في تنظيم الشأن الديني، وهي مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، ومجلس الجالية المغربية بالخارج، والمجلس الأوروبي للعلماء المغاربة. وفي الأخير، ناقش الباحث في الفصل الخامس أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة في الفصول السابقة، حيث تبين أن وظيفة الإمام في السياق الأوروبي أصبحت في حاجة ماسة إلى التجديد. وقد توقف أيضا عند أهم معوقات تأهيل الشأن الديني، والتعدد الوظيفي الذي يطبع عمل الإمام، والسياق الجديد المتغير الذي أصبح فيه تجديد وظيفة الإمام ضرورة ملحة. وفي الأخير، ختم الباحث بولعوالي هذه الدراسة بأهم الخلاصات التي تم التوصل إليها.

*كلية اللاهوت والدراسات الدينية، جامعة لوفان في بلجيكا

Share
  • Link copied
المقال التالي