لطالما شكلت القضية الفلسطينية أحد أهم اهتمامات النخب المؤمنة بعدالة القضية، فإن هذا الاهتمام كان يخفي في طياته العديد من الاختلافات حول كيفية فهم أبعاد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من جهة والعربي-الإسرائيلي من جهة ثانية، بما في ذلك، الحلول الممكنة للقضية، حيث ظلت هذه الاختلافات ملازمة للقضية الفلسطينية طيلة عقود، وكانت تخفيها فقط همجية التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين، كما ظلت طاغية بنقاش الفضاء العمومي على النخب والفاعلين بالساحة العربية، فانعكس هذا الاختلاف على الفكر والثقافة والسياسة، الأمر الذي نتج عنه بروز عدة تيارات – بما في ذلك داخل الشعب الفلسطيني نفسه – برؤى مختلفة، بعضها رافضة لأي حوار سلام أو مفاوضات مع إسرائيل، بينما البعض الأخر، محبذ لفكرة السلام بشروط محددة مسبقا أو بدونها..
لهذا برزت إلى الواجهة عدة مقترحات، فهي بالمجمل تعبير عن عدة تصورات لقيادات فلسطينية، فبينما ظلت بعض الفصائل الفلسطينية متشبثة بخيار المقاومة، فإن تيارات أخرى فضلت الدخول في مسلسل التفاوض بغية البحث عن حل سلمي، وبين هذا وذاك، برزت وجهات نظر أخرى لمفكرين ومثقفين فلسطينيين، لغاية البحث عن أرضية وسطى ما بين الفصائل والتيارات المنقسمة للطيف الفلسطيني بالداخل والخارج، أو لنقول بهدف تجميع هذه المقترحات ضمن تصور واحد بغية توحيد الصف الفلسطيني..
وقد كان من بين هؤلاء المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، حيث يعد أحد أبرز الأصوات الفلسطينية التي اختارت الكلمة كوسيلة والثقافة كسلاح للنضال من أجل القضية الفلسطينية، فساهم ذلك في إعطاء إشعاع وبعد دولي للقضية، بل كان من بين الأصوات الفلسطينية التي أثرت على المجتمع الأكاديمي الغربي (خاصة الأنجلوساكسوني) من خلال التعريف بالقضية وتقديم صورة للغرب مختلفة بشكل جذري عن الصورة المغلوطة التي روجها الإعلام الغربي عن الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام، إذ بالإضافة لإسهاماته الفكرية، فقد كان ممثلا كعضو مستقل بالمجلس الوطني الفلسطيني (الهيئة التشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية) إلى جانب قيادات فلسطينية ومثقفين كمحمود درويش وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني بالأراضي المحتلة والمنفى..
فمن يكون إدوارد سعيد؟ كيف فهم القضية الفلسطينية؟ وما هي طبيعة مساهماته ومقترحاته لحل القضية؟ هل زالت إسهاماته ذات أهمية في الوقت الراهن؟
إدوارد سعيد والقضية الفلسطينية
لم يكن إدوارد سعيد مواطنا فلسطينيا مهجرا وفقط، بل كان مثقفا كونيا وصوتا مؤثرا، فقد اتسم مسار حياته بالعديد من المفارقات، حيث ولد بالقدس سنة 1935 التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، فوضعته أمه بين أيدي قابلة يهودية، لكنه اعتنق المسيحية كدين على مذهب البروتستان الأرثذكس، وكان أبوه حاملا للجنسية الأمريكية بعد مشاركته كجندي في صفوف الجيش الأمريكي بالحرب العالمية الأولى، بعدها سيعيش متنقلا ما بين فلسطين ومصر التي كان يعمل فيها، ليضطر إلى الرحيل إليها رفقة عائلته خلال النكبة، ثم بعدها سيرسل ابنه إدوارد سعيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته وهو في سن السادسة عشر، تلك الدولة التي سيجد نفسه مرغما على استرجاع هويته المبعثرة، وفيها سطع نجمه كمثقف اتخذ من الكلمة سلاح للمقاومة، إلى أن وافته المنية سنة 2003 بواشنطن تاركا وصية دفنه بلبنان.
عاش إدوارد سعيد حياة المنفى بشغف خاص، حيث توجت رحلته الدراسية بالعمل كأستاذ محاضر بجامعة كولومبيا وجامعات أخرى، فسطع نجمه كمفكر ناقد وداحض لأسس الاستشراق الغربي، وكأكاديمي متخصص في الأدب، ثم كمثقف موسوعي يجمع ما بين الأدب المقارن والاستشراق والفلسفة والموسيقى وعلم النفس والأنتروبولوجيا والسياسة وإدارة النزاعات.. كما ساهم في تأسيس الدراسات ما بعد الاستعمارية Postcolonial Studies، بوصفه حقلا معرفيا يهتم بدراسة الآثار المترتبة للاستعمار على السكان الأصليين، ولإدوارد سعيد العديد من المقالات والحوارات والمؤلفات في عدة مجالات، أبرزها كتاب “الاستشراق”؛ “قضية فلسطين”؛ “تغطية الإسلام”؛ “الثقافة والامبريالية”؛ “أسلو2: سلام بلا أرض”؛ “غزة-أريحا: سلام أمريكي”؛ “خيانة المثقفين”؛ “خارج المكان”؛ “فرويد وغير الأوربيين”؛ “العالم والنص والناقد”؛ “المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع”؛ “الثقافة والمقاومة”؛ “السلطة والسياسة والثقافة”…
وقد قدم من خلال مؤلفاته الغزيرة والمقالات التي كان ينشرها بالعديد من الصحف العربية والأمريكية والعالمية صورة مختلفة عن المواطن العربي، مغيرا لتلك النظرة النمطية للإنسان الشرقي التي رسمها بعض المفكرين الغربيين أو بعض كتابات المستشرقين الغربيين من جهة، ولنظرة العرب للغرب التي تتسم بالخنوع أو الرفض من جهة ثانية، فكانت الثقافة هي سلاحه في المعركة، ملحا على ضرورة معرفة ثقافة الأخر، حيث يقول في كتاب “أسلو2: سلام بلا أرض”، “لماذا لا ندرس الآخرين لنعرف كيف نتعامل معهم مثلما يفعلون هم؟ إن المعرفة وحدها هي التي ستمكننا من الوقوف في وجه سيطرة إسرائيل والولايات المتحدة، لتقدم لنا بديلا أخرا غير الرفض الأعمى أو الخنوع، وهما شكلان من أشكال القصور وعدم النضج. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا الرفض أو الخنوع لا يتجاوزان أن يكونا استعادة للعلاقة الكولونيالية بين ثقافة قوية وأخرى ضعيفة”.
على غرار ذلك، كان لإدوارد سعيد ارتباط بقضيته الأولى بصفته مواطنا فلسطينيا هجر من أرضه، حيث كتب في كتابه “غزة – أريحا: سلام أمريكي”: “حينما اضطرت عائلتي بأكملها إلى النزوح من فلسطين، بسبب نكبة 1948، دفعتني أعيش فترات متفاوتة في مصر وفي الأردن وفي لبنان، ثم أخيرا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا (..) فإنني تحملت نصيبي من الشتات والحرمان وهما السمتان الأساسيتان للقدر الفلسطيني”، ورغم أن إدوارد سعيد قضى أكثر فترات عمره بالولايات المتحدة وكان يحمل الجنسية الأمريكية، إلا أنه ظل له ارتباط ببلده الأم، فكرس حياته للكتابة حول فلسطين بالموازاة أيضا مع التحاقه بالمجلس الوطني الفلسطيني كعضو مستقل سنة 1977..
وقد تعرض للعديد من المضايقات في مسيرته الفكرية والنضالية جراء أنشطته الثقافية التي كان يترافع من خلالها على القضية الفلسطينية، كما شنت ضده حملات التضييق والتهديدات واتهامات بمعاداة السامية.. حيث تمت الإشارة إلى جزء من هذه المضايقات في ورقة عمل حول اللوبي الإسرائيلي كان قد أعدها سنة 2006 اثنان من أبرز المنظرين بالعلاقات الدولية في الوقت الحالي (رائدي النظرية الواقعية ‘الهجومية’ “جون ميرشايمر John J. Mearsheimer ؛ والواقعية ‘الدفاعية’ ستيفن والت Stephen M. Walt”)، ليطوروها – في سنة 2007 – إلى كتاب تحت عنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy, “، هذا الكتاب الذي يعد من أهم الكتب التي قدمت توصيفا دقيقا لأنشطة اللوبي الإسرائيلي بالولايات المتحدة وتأثيره على سياستها الخارجية بعيدا عن منطق المؤامرة أو الأسطرة، إذ لم يسلم عملهما من الهجوم، فوصل مداه إلى حد اتهامهما بمعاداة السامية.
إذ جاء في مقتضيات الكتاب بأن جامعة كولومبيا التي انتمى إليها إدوارد سعيد كانت هدفا لأنشطة اللوبي، من خلال فرض القيود على الحرية الأكاديمية، فما أن يصدر تصريح من إدوارد سعيد حول ما يقع بالأراضي الفلسطينية أو منتقد للسياسات الإسرائيلية بشكل موضوعي، إلا وتلج على الجامعة مئات الرسائل الإلكترونية والمقالات الصحفية التي تطالب الجامعة باستنكار التصريح ومعاقبته أو طرده من التدريس، ولم يكن إدوارد سعيد لوحده ضحية هذه الممارسات المخالفة للأصول الأكاديمية بالمجتمع الأمريكي، بل كان أيضا ضحيتها مواطنه المؤرخ الفلسطيني رشيد خليدي الذي تولى منصب سعيد بعد رحيله..
ظل إدوارد سعيد طيلة مسيرة حياته مثقفا مستقلا له صيت عالمي وناقدا أكاديميا لامعا ومناضلا اتخذ من الكلمة سلاح للتعريف بالقضية الفلسطينية بالعالم الغربي، حيث صنف حسب العديد من الكتاب بأنه أكثر الأصوات إزعاجا للحكاية الإسرائيلية بالمجتمع الدولي، كما اعتبر من أكثر الفلسطينيين تأثيرا على الرأي العالمي، وقد كتب عنه الكثير وأنتجت حوله العديد من الأفلام الوثائقية وألفت عليه كتب وقصائد، نقتبس بعضها من أبيات لقصيدة كان قد ألفها حوله صديقه في النضال الفلسطيني الشاعر محمود درويش، تحت عنوان طباق :
والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدَ… في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ…
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ/
إدوارد سعيد رافضا لمسار أسلو وما بعده
اتسمت مرحلة التسعينات من القرن الماضي بالعديد من التحولات للقضية الفلسطينية التي كان سببها المباشر حرب الخليج من جهة والتحولات العالمية (انهيار جدار برلين) من جهة ثانية، وقد بدأ مسار التسوية للقضية المتعثر مع مؤتمر مدريد للسلم سنة 1991، الذي دعت إليه الإدارة الأمريكية، فحضرته كل من لبنان وسوريا ووفد مشترك من الأردن وفلسطين من الأرض المحتلة ومصر والسعودية، بينما تم رفض مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، لأن زعيمها ياسر عرفات كان آنذاك من المساندين لصدام حسين بعد غزوه للكويت، ثم تلا هذا المؤتمر مسار أخر الذي سيبدأ بشكل سري عبر مفاوضات بين قيادة حركة التحرير الفلسطيني والمسؤولين الإسرائيليين بالعاصمة النرويجية أسلو برعاية أمريكية، ليتوج هذا المسار بالاتفاق على إعلان المبادئ حول الحكم الذاتي الانتقالي الذي وقع بالعاصمة الأمريكية واشنطن (سميت الاتفاقية بأوسلو 1)، التي سيليها اتفاق لاحق يسمى باتفاق غزة-أريحا أو اتفاق القاهرة في سنة 1994، والذي حدد الحكم الذاتي المحدود بالضفة الغربية وقطاع غزة، كما تم توقيع اتفاقية الحكم الانتقالي للضفة الغربية وقطاع غزة، التي تسمى بأوسلو 2، حيث وقعت بمدينة طابا المصرية في 24 شتنبر 1995، ثم بالعاصمة واشنطن في 28 شتنبر 1995.
بعد ذلك، بدأت سلسلة أخرى من الاتفاقيات المرتبطة بأوسلو 2 كالاتفاقات الأمنية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وبروتوكول باريس المتعلق بترتيبات للعلاقات الاقتصادية بين الجانبين وغيره.. وهي كلها مبادرات لم تصل إلى حل نهائي للصراع إلى اليوم، ولابد من الإشارة إلى أن هذا المسار وازاه اتفاقات السلام أخرى للدول العربية مع إسرائيل (مصر وإسرائيل 1979، والأردن وإسرائيل 1994)، كما أعبقها العديد من المبادرات الأخرى التي قدمت لحل الملف، سواء تلك التي قدمتها السلطة الفلسطينية أو الإدارات الأمريكية المتعاقبة أو ما يعرف بمبادرة السلام العربية التي قدمها الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز سنة 2002 وتبنتها الجامعة العربية، التي وضعت ثلاثة شروط أساسية لإنهاء الصراع وإقامة علاقات سلام مع إسرائيل دائمة وكاملة، إذ تكمن هذه الشروط في (انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها منذ سنة 1967 بما في ذلك الجولان السوري والأراضي اللبنانية؛ إيجاد حل عادل للاجئين الفلسطينيين بناء على قرار الأمم المتحدة رقم 194؛ قيام دولة فلسطين مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية)..
لم يكن إدوارد سعيد راضيا على الطريقة التي كانت تجري بها مفاوضات أوسلو بشكل سري بين الوفد الفلسطيني والوفد الإسرائيلي بوساطة أمريكية التي ستنتهي بتوقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، وقد احتج على ذلك من خلال انسحابه من المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1991، كما لم يكن رأي إدوارد سعيد ضد المفاوضات بحد ذاتها، بل كان ضد الوفد الفلسطيني المفاوض الذي قدم تنازلات للإسرائيليين من دون أن يحصل على أي شيء في نظره، باستثناء الاعتراف به كممثل للشعب الفلسطيني من إسرائيل، بل قبل الشروط الإسرائيلية لشعب فلسطيني منزوع السلاح وبدون سيادة، لكن انسحاب إدوارد سعيد من المجلس الوطني الفلسطيني – الهيئة التشريعية لحركة التحرير الفلسطيني – لم يمنعه من الترافع عن القضية، فقد ظل يدافع من موقعه عن حقوق الشعب الفلسطيني عبر كتاباته وحواراته محاولا تقديم وجهة نظر أخرى لحل القضية مختلفة عن التي قبلت بها بعض قيادة فتح.
فحسب إدوارد سعيد فإن الاتفاقيات التي وقعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (ياسر عرفات ومحمود عباس وأحمد قريع) مع الإسرائيليين، لم تعطي الحق للفلسطينيين في تأسيس دولة مستقلة، وإنما نتج عنها تسويات كان في أغلبها الفلسطينيون هم الطرف الضعيف، الأمر الذي خرجت معه القضية الفلسطينية أضعف مما كانت قبل الاتفاق، لهذا وجه إدوارد سعيد قلمه للهجوم على قيادة فتح واتهامها ببيع القضية الفلسطينية، حيث اعتبر الاتفاق بأنه “أداة الاستسلام الفلسطيني، وفرساي فلسطينية”، بل وصل الأمر إلى اتهام قيادات فتح بعدم الكفاءة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بالمقابل أدت هذه الانتقادات إلى منع كتاباته من الولوج إلى الأراضي الفلسطينية خلال منتصف التسعينات، واتهامه بأن له خلافات شخصية مع قيادة السلطة الفلسطينية التي انخرطت في مسار المفاوضات..
إدوارد سعيد والدولة ثنائية القومية
طرح إدوارد سعيد حلا للقضية الفلسطينية أساسه أن تكون هناك دولة واحدة بدل حل الدولتين، أي دولة ديمقراطية علمانية يتعايش فيها الفلسطينيين والإسرائيليين على قدم المساواة، وحاجج بأن هذا الحل هو “الفكرة الوحيدة التي يمكن طرحها، إنها رؤية تقوم على المساواة والندية والتي ستمكن الشعبين من العيش معا بدلا أن يعمل كل منهما على إقصاء الأخر”، بينما سبب اقتناعه بهذا الطرح هو الفشل الذي أثبتته مفاوضات أوسلو من جهة، ومن جهة ثانية نتيجة عداء اليمين الإسرائيلي للفلسطينيين الذي يقابله صمود الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقه وابتداعه لأشكال متعددة من المقاومة؛ بما يفيد بأن مقترحه ينبني على عدة معطيات استقاها من تجربته في النضال ومن ملاحظاته للواقع الفلسطيني الذي وإن كان يتسم بالعدائية والكراهية بين الفلسطينيين والإسرائيليين نتيجة التوغل الإسرائيلي، فإنه يؤكد بوجود الشعبين جنبا إلى جنب من خلال احتكاكهما اليومي، وبالتالي يصعب وضع حدود بينهما أو تفريقهما وتقسيمهما ضمن دولتين معزولتان على بقعة جغرافية صغيرة، بل يصعب حتى إطالة أمد الصراع، لأنه لا الفلسطينيين سيتخلون على أرضهم ولا إسرائيل ستنسحب من الأراضي المحتلة..
وفي تقديره هناك مجموعة من المحددات التي تؤكد على أهمية هذا الطرح، منها:
أولا، الانصهار أو “الانضفار” الديمغرافي بين الإسرائيليين والفلسطينيين والذي أصبح معه الوضع صعبا لعملية العزل في بقعة جغرافية صغرى بين مكونين؛ بل أنه لم يعد ممكنا تجنب أحد الطرفين للأخر، لهذا فإن حل الدولتين أضحى أمرا مستحيلا، وحتى إن طبق، فسينتج عنه نظام فصل عنصري أكثر خطورة من الذي كان قائما بجنوب إفريقيا، وذلك عبر عزل الفلسطينيين في مناطق محدودة بالسكان وتجريدهم من كافة حقوقهم الإنسانية (مناطق معزولة ومنزوعة السلاح وبدون سيادة)..
ثانيا، تكمن أهم المعطيات في الواقع الفلسطيني بالأراضي المحتلة في كون العديد من الفلسطينيين يعملون في مقاولات إسرائيلية؛ وهذا الواقع بنظره يعد من أهم المفارقات، خصوصا بالضفة الغربية وعرب 1948، حيث لاحظ بأن الفلسطينيون يعملون “في المطاعم داخل إسرائيل وفي أماكن مثل تل أبيب والقدس الغربية وحيفا. وطبعا في الضفة الغربية، حيث يتواجد المستوطنون في مدن مثل الخليل”..
ثالثا، زيادة الوعي لدى الأقلية الفلسطينية المتواجدة داخل إسرائيل من خلال النضال على حقوقها المدنية بغية أن تتساوى مع الإسرائيليين (الحق في ملكية الأرض والهجرة..)، وتجد هذه الفئة دعما من بعض الأصوات العلمانية اليهودية التي يزعجها أيضا نفوذ اليمين المتطرف وإرسائه لقوانين على أسس دينية، بما يكرس “ليهودية الدولة الإسرائيلية”..
رابعا، المحدد الديمغرافي الذي يعد في نظره من أحد أهم التحديات، حيث لا يمكن لإسرائيل أن تقيم نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين في بقعة جغرافية أصغر بعشرين مرة من جنوب إفريقيا، ثم أنها ستجد نفسها محاصرة بعدد الفلسطينيين الذي قد يتساوى أو يفوق الإسرائيليين، ناهيك على أن إسرائيل نفسها محاطة بدول عربية، لذلك فإقامة نظام تمييز عنصري في هذه الخريطة الجغرافية هو من باب المستحيل..
وكان إدوارد سعيد يستشهد بتجارب دولية لأنظمة عنصرية (جنوب إفريقيا) أو بتاريخ طويل من الاحتلال لدول استعمارية (بريطانيا) لبعض الدول (نموذج الهند والجزائر) والتي انتهت كلها بانتصار إرادة الشعوب عبر وضع حد لنظام الفصل العنصري أو الحصول على الاستقلال رغم أنه كان هناك من لا يظن بأن الشعوب ستنتصر بالنهاية، لهذا فإن خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية وإن كانت تبدو “إفراطا في يوتوبيا” أو “فكرة مجنونة”، فإنه خيارا غير مستحيل، بل هو الحل الممكن أن ينهي الاحتلال والعنصرية، ويرسي لدولة تتعايش فيها الأديان الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) والعرب واليهود تحت نظام ضامن للتعددية والاختلاف وحقوق الإنسان..
خاتمة:
هل ما زال طرح إدوارد سعيد له أهميته في ظل المتغيرات الراهنة للقضية الفلسطينية؟ سؤال يطرح نفسه في الوقت الراهن بالنظر للمنعطفات التي تعرفها القضية الفلسطينية، سواء من خلال فشل مسلسل مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية التي وصلت للباب المسدود أو من خلال السياسة التوسعية لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يتجه لتثبيت يهودية الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك، تهجير الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم وبناء المستوطنات وارتكاب أعمال مجرمة بالقانون الدولي، وهي كلها معطيات تؤكد باستحالة قيام دولتين متعايشتين على الأراضي الفلسطينية المحتلة في المدى القريب أو المتوسط؛ بل تؤكد افتراض أن إسرائيل تسير في اتجاه طرد الفلسطينيين وتشريدهم أو محاصرتهم في مناطق معزولة من دون أدنى الحقوق..
لكن هل لا زال خيار الدولة ثنائية القومية ذات راهنية؟ لابد من التأكيد بأن إدوارد سعيد من المفكرين الفلسطينيين المؤمنين بالسلام وبالحل السلمي للقضية، كما أنه من بين الفلسطينيين الذين لا يؤمنون بقوة السلاح في حسم القضية الفلسطينية، لاعتبارات كثيرة، منها أولا التفوق العسكري الإسرائيلي بالإضافة إلى الدعم الغربي له، حيث أنه حتى وإن حققت المقاومة انتصارات في الميدان أو استهدفت مواقع إسرائيلية حساسة، فإن حجم الخسائر في صفوف الفلسطينيين يكون مضاعفا، لهذا كان يعتقد بأن المقاومة قد يكون لها دور في ضمان الصمود والاستمرارية للشعب الفلسطيني بدل الاستسلام أو الخنوع ، لكنها غير قادرة على هزم إسرائيل أو تحقيق انتصارات كبرى ضدها..
ثانيا، كان له موقف إنساني انطلاقا من حياته بالمجتمع الأمريكي المتعدد الثقافات، إذ أنه لم يكن يؤمن بالخيار الذي يقصي اليهود من منطلق عقائدي، فلا يمكن رمي اليهود بالبحر، لأن إسرائيل من وجهة نظره موجودة بقوة الواقع، حيث يقول في هذا الصدد بأنها “واقعا، نتيجة التاريخ المأساوي جدا للشعب اليهودي”؛ كما يتابع القول بأنه لا “يؤمن بسياسة طرد الشعوب..”، ثالثا، هو أن إدوارد سعيد وإن كان يؤمن بالسلام، فإنه لا يرى بديلا عن تحقيق مكتسبات للقضية الفلسطينية غير الصمود للشعب الفلسطيني وابتداع أشكال جديدة من النضال على القضية، كما لا يمكن موازنة الأعمال الوحشية لإسرائيل بعمليات المقاومة الفلسطينية المحدودة الأثر، بل أنه لم يكن يقبل أن توصف المقاومة بالإرهاب، إلا أن صمود الشعب الفلسطيني يقتضي أن يوازيه الانفتاح على الآراء المعتدلة والمعارضة لليمين المتطرف الإسرائيلي، بما فيها اليسار العلمني الإسرائيلي الذي ضد إقامة يهودية الدولة الإسرائيلية، وضد سياسة المتطرفين، بل الانفتاح على الأصوات اليهودية بالخارج الداعمة للتعايش بين الشعبين، وحتى من داخل إسرائيل فهي داعمة لعرب 48 من خلال المطالبة بمنحهم نفس الحقوق بدل التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية..
لهذا فإن طرحه كان هدفه إثارة النقاش بشأن الحلول الأقرب إلى ضمان كرامة الشعب الفلسطيني وتحقيق السلام، سواء طرح الدولتين أو طرح المقاومة إلى أن يتم إجلاء أخر جندي إسرائيلي، كما كان أيضا يحاجج الأطروحات الأخرى التي لا تعترف بإسرائيل أو ترفض الدخول معها في أي مفاوضات وبأية شروط سواء بمنطق عقائدي أو إديولوجي؛ الأمر الذي يعني بأن إدوارد سعيد قدم مقترحا للنقاش والذي يراه هو الأقرب للصواب، وإن كان تحقيقه يبدو صعبا، فإنه يراه هو الحل الأقل صعوبة، لأنه لا خيار حل الدولتين سيعطي للفلسطينيين حقهم في تأسيس دولة وفق ما أثبتته اتفاقيات أسلو وما بعدها، حيث خرج الإسرائيليون أكثر قوة مما كانوا عليه؛ ولا خيار المقاومة وعدم الاعتراف بإسرائيل سينتهي إلى محو إسرائيل من الخريطة، الأمر الذي يفترض البحث عن خيارات أخرى ممكنة وعن حل وسط يجمع ما بين جميع المقترحات لإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني، وهذا ما وضحه إدوارد سعيد في كتاباته، إذ يقول “آمل أنني قد تمكنت من إثارة النقاشات واستمزاج التوجهات، الأمر الذي يمكن أن تنجم عنه مثل هذه الدولة أو تقترب من الظهور”..
باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.
تعليقات الزوار ( 0 )