بات الحزب الحاكم في المغرب منهكا وهو يتوجه نحو الانتخابات التشريعية والجماعية لسنة 2021، فحزب العدالة والتنمية لم يعد كما كان، ولازال في نفس الوقت لم يتخذ شكلا جديدا، والثابت أنه يجتاز اليوم مرحلة صعبة لم يسبق لها مثيل منذ لحظة تأسيسه، وما دعوات تحجيم الترشيحات، وعقد مؤتمر استثنائي، وصيحات سعد الدين العثماني بأن الحزب مشغول بالوطن وأن الباقي مشغول به وبالانتخابات، إلا ”شطحات“ سياسية تعبر عن مخاض تحولات عميقة قادمة تفصل بين جيل العثماني والرميد وبنكيران وجيل الشباب الجديد في الحزب، وتقفز فوق جيل الوسط الوزاري المكون من الرباح والخلفي، لكن مخاض الحزب الحاكم يبدو أكبر من ثورة جيل على جيل استمر في سلطة الحزب لمدة تصل إلى 22 سنة، وإنما توجد عوامل أخرى دولية ووطنية تُفسر سبب وصول الحزب الحاكم لدرجة الإنهاك، إنهاك نفسه، فسلوكات وتصريحات قيادته تؤشر إلى أنه لايعرف أين يتجه، وأن المستقبل أمامه غامض فيه الكثير من اللايقين، وبات ينتظر رد فعل إجتماعي تصويتي انتقامي، فالحزب الحاكم الذي صعد لرئاسة الحكومة بتصويت انتقامي قد يكون موضوع انتقامي هو نفسه في انتخابات 2021، لذلك فهو يبحث عن توافقات ومفاوضات قبل انتخابات 2021.
تحولات دولية وإقليمية أنهكت العدالة والتنمية
ومن الواضح، أن التحولات الدولية والإقليمية لعبت دورا كبيرا في صعود حزب العدالة والتنمية خلال مرحلة بدأت منذ سنة 2009، حيث كانت الإدراة الأمريكية طيلة مرحلة أوباما، تُشجع على إدماج الأحزاب الإسلامية في ممارسة الحكم، بل أن تردد بعض قيادات الجيل الوسط من الحزب الحاكم على اللقاءات الأمريكية كان كبيرا خلال هذه المرحلة مقارنة بمرحلة ترامب.
وبعد نهاية مرحلة أوباما تغيرت المعطيات الدولية ،وتراجع مؤشر الإهتمام بالتجارب الحكومية للأحزاب الإسلامية، وتصادف هذا التحول مع تغييرات إقليمية في المنطقة المغاربية، حيث انتقل الخطاب السياسي من حماسي لتجربة الإسلاميين إلى تقييمي وتدبيري، وبدأت صعوبات حزب النهضة التدبيرية في تونس.
ويلاحظ، أن توجهات السياسة الخارجية المغربية أغلقت كل الممرات على إمكانية تأثير أزمات اقليمية وعربية على الفضاء السياسي والحزبي المغربي، فمقارنة بالتجربة التونسية التي تحولت إلى فضاء صراع مفتوح تتأثر فيه الأحزاب السياسية بما يجري إقليميا، فإن رسائل المغرب نحو بعض الدول الخليجية مثل الإمارات بكون العدالة والتنمية نموذج مغربي خالص، وأن نتائج الإنتخابات شأن سيادي مغربي يمكنه أن يُنتج حكومة يقودها حزب إسلامي أو ليبرالي أو يساري، وموقف المغرب الحيادي من الأزمة الخليجية المتمثلة في حصار دولة قطر، كلها عوامل تركت المغاربة يقومون بتقييم تجربة العدالة والتنمية بعيدا عن كل التأثيرات الخارجية الممكنة ،فالحزب الحاكم تجربة مغربية صرفة، والمغاربة يحاكمون وينتقدون أو يمدحون تجربة حكومية من داخل فضاء سياسي مغربي داخلي صرف.
تدبير خاطىء شبيه بحكومة عزالدين العراقي شتنبر 1986
ولوحظ أنه في نهاية تجربة حكومة بنكيران، بدأت تنقرض مقولات ”التماسيح ” ومقولات ”التحكم ” واختفى الخطاب الدستوري لربط المسؤولية بالمحاسبة لما وصلت العديد من قيادات حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة مجالس جهوية وجماعية، وبالمقابل، انتبه المغاربة إلى حجم خطورة القرارات المسماة ب“الإصلاحية”، التي اتخذتها حكومتا بنكيران والعثماني، والتي كانت لها انعكاسات إجتماعية وإقتصادية سلبية، قرارات باتت تذكر بما أقدمت عليه حكومة عزالدين العراقي بعد خروجه عن حزب الاستقلال وقبوله منصب وزير أول لقيادة حكومة شتنبر 1986 بكل قراراتها التي أثرت على المغرب بشكل سلبي إلى حدود بداية التسعينيات.
ويبدو أن الحزب الحاكم اصطدم بصعوبات كبيرة في التدبير، ولم يكن مهيئا لإدارة العديد من القطاعات التي اختارها، ووقع الترويج لمقولة ”التمرين أو التدريب الديمقراطي”، التي كان البعض يحاول أن يُغطي بها على أخطاء تدبيرية كانت تكلفتها باهضة على الحياة المعيشية للمواطنين ،فمقابل مقولة ”التمرين أو التدريب الديمقراطي“ الذي يقوم به حزب العدالة والتنمية وهو يقود الحكومة كانت تصريحات بنكيران في كل اتجاه يواكبها تراجع في الاستثمارات الدولية بالمغرب.
وأسست حكومة بنكيران لسابقة خطيرة ،لما جعلت من كل التعيينات الموكولة لرئيس الحكومة مجالا خاصا بالأحزاب السياسية دون باقي المغاربة.
ولا أعتقد أنه بعد ولايتين من حكم العدالة والتنمية، أن المغاربة يتذكرون إنجازات حكومية في شكل قرارات لقطاعات تولاها وزراء من العدالة والتنمية، قرارات قد تكون غيرت نمط حياتهم نحو الإيجابي.
عدو غير موجود بعد اعتذار وهبي وسكوت الأحرار
وازدادت صعوبة الحزب الحاكم بعد اختفاء حميد شباط وإلياس العمري وصلاح الدين مزوار من المشهد السياسي، فلم يعد من الممكن لقيادة حزب العدالة والتنمية بناء خطاب تظلمي في باطنه وهجومي في ظاهره متوجه نحو الإنتخابات بالهجوم على قيادات حزبية.
وباتت الوقائع أكثر صعوبة بعد صعود عبداللطيف وهبي، الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي لايُعرف ما إذا كان واعيا أنه بتصريحاته المتواصلة المشيدة بحزب العدالة والتنمية ،والتي وصلت إلى حد الاعتذار، أنه شتت استراتيجية العدالة والتنمية التي كانت تنتظر استمرار البام القديم على قيد الحياة السياسية لاستعماله كورقة سياسية في انتخابات 2021.
وبسكوت حزب التجمع الوطني للأحرار، وتركيزه على زاوية التدبير، وخروج وزراءه لتقديم إنجازاتهم خلال مرحلة وباء كورونا، إزدادت محنة حزب العدالة والتنمية الذي كان ينتظر تصريحات هجومية من رشيد الطالبي العلمي أو عزيز أخنوش ،ولكن سكوت حزب التجمع الوطني للأحرار ،وذهابه نحو الميدان جعل حزب العدالة والتنمية في وضعية صعبة لأنه لم يستطع إيجاد عدو لاستعماله كورقة ”حربية“ في تشريعيات 2021.
مشروع عودة بنكيران والتناوب المفلس بين بنكيران والعثماني على شاكلة النمط الروسي
ويلعب الحزب الحاكم اليوم أحد أوراقه الخطيرة، بخروج تيار عبدالإله بنكيران إلى الواجهة ومحاولة الانقلاب على سعدالدين العثماني، فالأمر يبدو جديا، وليس استراتيجية متفق عليها كما يعتقد البعض، لأن بنكيران لن ينسى لحظة تغييره بالعثماني ويريد العودة إلى قيادة الحزب ،فبنكيران الذي كان يستعد في سنة 2006 و2007 لمغادرة الحزب لايريد وضع نهاية لمساره السياسي.
لكن الذي لم ينتبه له الكثيرون، أن الحزب الحاكم لم يستطع خلال إثنان وعشرين سنة إنتاج قيادات غير الأسماء الموجودة منذ إنشاء الحزب، وهي ظاهرة شبيهة بالحزب الشيوعي الروسي زمن ستالين والحزب الشيوعي الصيني أو حزب العمال الشيوعي الكوري الشمالي، حيث تستمر القيادات لمدة طويلة، وتكون النهاية السياسية مرتبطة بنهاية الحياة الشخصية.
والملاحظ، أن كل القيادات الحزبية التي عاصرت بداية العدالة والتنمية من أحزاب أخرى قد تغيرت، أو جددت مكاتبها السياسية، باستثناء حزب العدالة والتنمية، فالحزب الحاكم يعود بنا إلى زمن تراكم الأزمنة التنظيمية وصراع الأجيال، وهو الوضع الذي يفسر جزءا مما يعيشه حزب العدالة والتنمية اليوم.
ويبدو أن مقولة الديمقراطية الحزبية والتجديد التنظيمي في الحزب تختفي لفائدة عودة الزعيم، فعبدالله بنكيران يبدو أنه زعيم أبدي لحزب العدالة والتنمية، وإلا كيف نفسر هذا الطلب على عودته، فالحزب الحاكم يبدو أنه مفطوم على شخصانية الأمانة العامة ويطبق نموذجا فاشلا للنمط الروسي الذي لديه أسبابه الخاصة، ذلك أن الأمانة العامة للحزب لم تتجاوز لحد اليوم ثنائية بنكيران العثماني.
ولايبدو أن عودة بنكيران ستكون سهلة ،فخطابه السياسي لن يجد السياق الملائم له مادام المجتمع قد انتبه لقراراته التدبيرية الخطيرة، فلايمكن اليوم أن يعيد بنكيران استعمال خطاب ”واحد معندوش ثمن زلافة ديال الحريرة أو جبانية صيكوك”.
وبالمقابل، فإن وصول حزب العدالة والتنمية إلى درجة الإنهاك لايعني أن هناك قوى حزبية أخرى في طور الصعود، فالحزب الحاكم الذي حصل على نسبة 7 في المائة من الكتلة الناخبة، التي لها حق التصويت في الإنتخابات التشريعية السابقة، يظل حزبا متوسط القوة، لكنه يستمد قوته من ضعف الأحزاب الأخرى وأخطائها ونسبة المشاركة الانتخابية، فالحزب الحاكم قد يكون نزل على هذه النسبة بمعنى أنه بات في حدود 5 في المائة أو أقل، والشهور المقبلة قد تُوضح مؤشرات عن ماهو قادم في 2021 ،ولكن الحزب الحاكم يعاني من صعوبتين كبيرتين:
الصعوبة الأولى، حالة الطوارئ في زمن كورونا والإستراتيجية التي نهجتها وزارة الداخلية بمنع الأحزاب من الوصول إلى الساكنة ،ولعل أبرز المتضررين منها حزب العدالة والتنمية الذي كان يستعد في الأيام الأولى من الحجر لإطلاق حملته الانتخابية بتقديم مساعدات لفئات من المجتمع ،مساعدات توزع انطلاقا من فروعه بتسييس الوباء.
وبمراقبة وزارة الداخلية لدعم الجمعيات تكون قد أغلقت ممرا آخر كان يستعمله حزب العدالة والتنمية أكثر من الأحزاب الأخرى.
الصعوبة الثانية، لم يسبق لأي حزب أن تولى الحكم في ولايتين بعد تجربتين انتخابيتين، فالحزب الحاكم ارهقه التدبير، واستشعر صعوبته، وبات يريد التفاوض لإنقاذ نفسه، لأن ولاية ثالثة معناها أن المغرب سيدخل اللعبة الصفرية التي لا أحد سيكون رابحا فيها ،وهذا أكبر المخاطر التي يجب مناقشتها بهدوء وواقعية.
*رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني .
تعليقات الزوار ( 0 )