الوضع في الحديث هو الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث المكذوب هو الذي اصطُلح عليه بالحديث الموضوع، وقد أفرده العلماء بالتصنيف، فألفوا كتبا متعددة لجمع الأحاديث الموضوعة، وصنفوا المؤلفات ذوات العدد لكشف الوضاعين والضعفاء والمتروكين، كل هذه الجهود صبت في خدمة السنة النبوية والذب عنها وتصفية ساحِها من الدخيل.
والمؤسف أن كتب الموضوعات وكتب الضعفاء أدرجت الموضوعات والوضاعين الذين عاشوا في عصر الرواية في القرون الأربعة أو الخمسة الأولى، ولو استمر المحَدثون على جرد ذلك وتتبعه لأضافوا واستدركوا على المتقدمين ما لم يذكروا.
وكما أن للمغاربة جهودا تُذكر وأيادي تُشكر في هذا الباب، فإن لهم أيضا إسهامات في حركة الوضع والكذب، حيث وضع علماؤهم حديثا مكذوبا منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في فضل مدينة فاس وتقويم قبلتها، وحديثا في فضل سبتة، وحديثا في فضل ركراكة وأن بعض الركراكيين زاروا النبي صلى الله عليه وسلم وحدثهم وأنهم من عموم الصحابة. وكل هذه الأراجيف لا أصل لها ولا تصح وإن تدوولت على نطاق ما في بعض الأحيان.
ويمكنني أن أقف أمام علمين اثنين من أعلام المغرب المتهمين بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبيان كذبهما نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين، ولئلا يغتر بهما وبأقاويلهما بعض من لا يتتبع مكتوباتهما بالنقد، ويتعامل معها بالتسليم ثقةً بهما وحسنا بالظن فيهما.
أولهما: القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، وهو الفقيه والأديب الأندلسي، اشتهر بتعصبه للمذهب الأشعري، ومن تعصبه أنه حاول أن ينتصر لمقولة من مقولات الأشاعرة، وهي قولهم بوجوب النظر، وهذا من حقه، لكن لا يحق له أن ينسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الكذب المحض.
قال ابن العربي في كتابه المتوسط في الاعتقاد (116): “إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق إلى النظر أولا، فلما قامت الحجة به وبلغ غايةَ الإعذار فيه، حمَلَهم على الإيمان بالسيف، أولا ترى أن كل من دعاه إلى الإيمان قال له: اعرض علي آيتك، فيعرضها عليه فتظهر له فيؤمن فيأمن، أو يعاند فيهلك”.
هكذا وفي سياق فورة مذهبية تعصبية نسب ابنُ العربي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمل الناس على الإيمان بالسيف بعد إقامة الحجة، وأن كل من يعاند ويرفض الإيمان يهلك بالسيف النبوي كما يدل عليه السياق. والسيرة النبوية واضحة جلية أمامنا، تدل بوضوح على براءة النبي العظيم الرحيم صلى الله عليه وسلم من هذا الافتراء، ولا عذر لأنصار أبي بكر بن العربي في تسويغ قولته وحملها على الوجوه الضعيفة الركيكة، لأنها غير صحيحة في الأفراد والأحاد، كما أنها لا تصح في المجموع والاعتضاد. وهذه السنة النبوية المفتراة ليست إلا من الموضوعات التي وجب تنزيه الجناب النبوي عنها.
ثانيهما: عبد الحي الكتاني، وهو من علماء القرويين المعاصرين، أمضى حياته في جمع الفهارس والأثبات والمشيخات، وكان هذا تخصصه، فصار به مسنِد فاس والمغرب، وله فيه غرائب وعجائب، منها أنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة وسائط، فيروي عن شيخ عن شيخ عن شمهروش الجني عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الخرافات التي حشى بها كتبه ودوّخ بها العوام.
ولم يكتف بهذا الأمر، بل زاد عليه ونسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لطم وجهه الشريف، فصار اللطمُ اعتمادا على قوله سنةً نبوية، قال في كتابه منية السائل (ص:147) ما نصه: “وبكى [النبي صلى الله عليه وسلم] لما قرئ عليه: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. قلت: بل ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لطم وجهَه الكريم لمّا سمعها، وهو أصل ما يفعله الصوفية قدس الله أسرارهم من الصعق وضرب الرأس عند غلبة الحال والأحوال عليهم”.
في هذا النص المصَدّر بـ”قلت”، ينسب عبد الحي الكتاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة فعلية، وهي لطم الوجه، وهذا من افتراءاته على الجناب النبوي، وهو مما لم يثبت بسند ضعيف أو حسن أو صحيح، ولم يذكره المتقدمون ولو بدون إسناد، ونظرا لعدم وجود سند لهذه السنة المفتراة، فإنه توسل بالتدليس على القراء فصدّرها بقوله: “ثبت”، وهي لم تثبت. وزاد في الطنبور نغمة وادعى أن هذه السنة النبوية هي أصل ما عند الصوفية في ضرب الرؤوس والصعق، وهذا من افتراءاته على الصوفية، وها هي كتب القوم بين أيدينا، فالرسالة القشيرية وقوت القلوب وإحياء علوم الدين وعوارف المعارف والتعرف للكلاباذي والفتوحات المكية وغيرها لا وجود فيها لضرب الرؤوس، فمن أين جاء بها صاحبنا الوضاع؟.
وقد سبق أن بينت هذا الكذب على الجناب النبوي، لكن الأخ حمزة الكتاني أخذته الحمية العائلية فكتب للدفاع عن قريبه (عمُّ جدِّ أمه)، وقد سبق له أنْ كتب عن عائلته أنها (عائلة مقدسة)، كما سبق أن كتب عن الشهيد محمد بن عبد الكبير الكتاني بأنه (من القديسين)، ومن كان هذا اعتقاده فإنه لا جرم سيدافع عن قرابته وإن أخطأوا، والخطير في الأمر أنه ينتفض دفاعا عن قريبه ولا ينتفض دفاعا عن السنة والجناب النبوي الذي نسب إليه الافتراء وجُعل سنة متبعة عند طائفة من المسلمين.
ومما كتبه الأخ المذكور أنني قرأت عبارة “لطم وجهه” “بفتح الهاء، وأن الوجه مفعول به، وهو ما أدّاني إلى فهم العبارة خطأ، والصواب حسب رده التبريري أن “النص إنما هو برفع الهاء”، فصار [الوجه] فاعلا لا مفعولا، وأحالنا على تاج العروس ومنه نقل أن “لطم الشيء بمعنى أنه احمر وأزهر، ولطم البحر وتلاطم بمعنى ارتجف واضطرب”، وبناء على هذا النقل من معجم تاج العروس للزبيدي، خلص أخونا في سيمفونيته التبريرية إلى أن [لطم وجهُ النبي، هو بمعنى ارتجف واضطرب].
وهذه التخريجة التبريرية قد تبدو سائغة لأول وهلة، خصوصا عند من يثق في الأخ حمزة ونقولاته، لكنها سرعان ما تُنقض من أساسها، وبيان ذلك من الآتي:
أولا: اللطم حسب عبارة عبد الحي لا يعني حالة وجدانية وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم وانعكست على وجهه المنور الشريف، بل هي فعلٌ نبوي صادر عنه صلى الله عليه وسلم، وأنه بمعنى ضرب اليد على الوجه. يؤيد ذلك:
ثانيا: عبارة عبد الحي الكتاني نفسها توضح ذلك دون الرجوع إلى المعجم، لأنه ختم قوله بالآتي: “وهو أصل ما يفعله الصوفية”، ونركز هنا على [يفعله]، ولو كان اللطم حالة وجدانية لقال: “وهو أصل ما يقع للصوفية”، لأن تلك الحالة الوجدانية تقع للإنسان ولا يفعلها، أما اللطم فهو فعل من الأفعال.
ثالثا: إذا كان اللطم المقصود عند الوضاع الفاسي عبد الحي الكتاني مجرد احمرار اللون، فلا يجوز أن يجعله تأصيلا لفعل الصوفية في “ضرب الرأس”، لأن الضرب ليس هو الاحمرار أو الارتجاف أو الاضطراب.
والأوجه الثلاثة السابقة كلها تدل بوضوح على أن عبد الحي الكتاني يقصد ضرب الوجه باليد، وأنه فعلٌ من الأفعال وليس وجدا وحالة نفسية، لكننا سنعرض عنها لنبين مسألة غاية في الأهمية، وهي أنه لا يجوز تسويغ الكذب إلا بالكذب، فصاحبنا استدل بما نقله عن تاج العروس للزبيدي، وهو كتاب بين أيدينا، ليس فيه البتة ما ادعاه.
فـ[لطم بمعنى أزهرَ] كذبٌ وافتراء على تاج العروس.
و[لطم البحر وتلاطم بمعنى ارتجف واضطرب] غير موجود كذلك في التاج، بل الوارد فيه: “التطمت الأمواج بمعنى ضرب بعضها بعضا”، لذلك قلنا بأن عبارة عبد الحي تفيد ضرب الوجه باليد.
والأمران يدلان على كذب الأخ حمزة على تاج العروس لنصرة الوضاع عبد الحي.
أما أنّ لطمَ الوجه بمعنى احمرّ، ونسبة ذلك إلى تاج العروس فغير سائغة، لأن صاحب التاج وغيره من اللغويين أوردوا قول ابن الأعرابي: [اللطم إيضاح الحمرة]، والإيضاح بمعنى أن يكون غير ظاهر ثم تُظهره، والنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده حمرة مستترة فأظهرها، فثبت الكذب والوضع.
نعم، لو كان عند الأخ حمزة بعض الذكاء لاقتنص من تاج العروس معنى آخر، وهو إن لم يُفده، لكنه أحسن مما اختلقه، ففي التاج قوله: “تلطّمَ وجهُهُ: اربدّ”، ولكنه تلطم وليس لطم. وعلى فرض ادعاء التصحيف، فإن خاتمة كلام عبد الحي تنقض تبريرات حمزة.
وعموما، فما قام به عبد الحي الكتاني يعدّ عند المحدثين كذبا على الجناب النبوي، حيث نسب إليه فعلا لم يصدر عنه البتة، وبناء عليه، فإنه لا يعدو كونه وضاعا من الوضاعين، ومن باع وطنه لفرنسا ولمقيميها العامين الذين أغدقوا عليه الأوسمة والصلات فإنه لا يتورع في غير ذلك.
وفي الأخير، أشير إلى أن محبي ابن العربي المعافري وعبد الحي الكتاني سينتفضون حين يقرأون هذه الحقائق الساطعة، وهذا من آفات العصر، حيث لا قدسية إلا للأشخاص، وبدل أن يبذلوا كبير جهد في سبنا والإقذاع في الكلام معنا، أدعوهم إلى قراءة نص المعافري والكتاني، وإن وجدا فيهما أصلا في السنة النبوية فليظهروه لنا حتى نتراجع عن وصم الرجلين بالوضع، وهذا ما لن يجدوه، وحتى محققا الكتابين المذكورين وإن توسعا في عزو النصوص ولو كانت مغمورة، فإنهما لم يستطيعا عزو هذين الافتراءين، وهذا العجز منهما ينطبق عليه قول الصديق: العجز عن الإدراك إدراك، فنحن بناء على هذا العجز أدركنا آفة الوضع، وكان حريا بهما أن ينصرا السنة النبوية وأن يبينا ذلك، وهذا مما يُستدرك عليهما، وقد فاتهما غيره.
تعليقات الزوار ( 0 )