Share
  • Link copied

استرجاع الصحراء المغربية بين تقوية الجبهة الوطنية والتحول إلى قوة اقليمية

 تميزت عملية استعمار المغرب عن احتلال دول المنطقة المغاربية بتأخرها الزمني ، إذ تم استعمار الجزائر وتونس في منتصف القرن  ونهاية القرن 19(1830 و1880)، في حين لم يتم استعمار الدولة المغربية وتقسيمها بين كل من فرنسا واسبانيا إلا في سنة 1912  (1). ولعل هذا ما جعل ، عملية استرجاع المغرب لسيادته على مختلف مناطقه المستعمرة تتم بشكل تدريجي. إذ بعد ما تم الإعلان عن استقلال المغرب في 2 مارس 1956 من خلال اتفاقية سان كلو، تم استرجاع منطقتي طرفاية في سنة 1958 و سيدي إيفني في  سنة 1969 .بينما بقيت الأقاليم الصحراوية  الأخرى ترزح تحت السيطرة الاسبانية برئاسة نظام فرانكو قبل أن يتم استرجاعها في منتصف سبعينيات القرن الماضي. من ثمة ، فقد تميزت عملية استرجاع  هذه المناطق الصحراوية بعدة رهانات سياسية سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الإقليمي.

          I -استرجاع الاقاليم الصحراوية وتقوية الجبهة الداخلية

              اتسمت الفترة التي أعقبت استقلال المملكة بصراع بين المؤسسة الملكية ومكونات الحركة الوطنية انبنى بالإضافة إلى اختلاف في المنظور السياسي للحكم ( ملكية تسود وتحكم أم ملكية تسود ولا تحكم ، وطبيعة اقتسام السلطة …) حول السياسة المنتهجة لاسترجاع الأقاليم الصحراوية ، حيث كانت هناك قوى سياسية كحزب الاستقلال تطالب باستعادة المغرب لكل  مناطقه المستعمرة في عملية موحدة وربط تحرير التراب الوطني بتحرر كل دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر، بينما فضلت المؤسسة الملكية التفاوض المتدرج لاستكمال سيادة المغرب على مختلف أجزائه المغتصبة  والتي انتهت بإعلان الملك الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء التي أدت إلى  خلق إجماع وطني.

  • المسيرة  الخضراء وخلق الاجماع الوطني

              لم يكن الملك الحسن الثاني  بعد توليه العرش في مارس 1961، يحظى بنفس شعبية والده، محمد الخامس، الذي اعتُبر بطلا شعبيا لمقاومته الاحتلال الفرنسي ودعمه للاستقلال. فقد خرجت مظاهرات طلابية وعمالية في 23 مارس1965 تندد بسياسته، فعلق الملك البرلمان وأعلن “حالة الطوارئ” التي استمرت حتى إقرار الدستور الجديد عام 1970.  وهكذا عاش المغرب عقدا من الاضطرابات السياسية الداخلية، بين عامي 1965 و1975، ما بين ضغوط خارجية واحتجاجات داخلية. لكن هذه السياسات أنهكت الجيش، الذي وجد نفسه طرفا في العديد من المواجهات، لعل أبرزها كان عام 1963 مع الجزائر، في ما عُرف بـ “حرب الرمال”. كما شهد هذا العقد اشتداد شوكة المعارضة، متمثلة في الكتلة الوطنية التي تأسست عام 1970، حيث كان الهدف الأساسي من تكوين هذه الكتلة هو الاحتجاج على دستور 1972، الذي اعتبروه فاقدا لأسس الديمقراطية.  وبالتالي ، فقد عانى حكم الملك الحسن الثاني من معارضة سياسية قوية اضطرته إلى الاعتماد على الجيش لاحتوائها وإشراك بعض قياداته في تدبير الحكم . مما جعل بعض قادته وعلى رأسهم محمد المدبوح و محمد اوفقير يقومان بمحاولتي الانقلاب عليه.وهكذا ،فقد تعرض الحسن الثاني لمحاولتي انقلاب الأولى في 9  يوليوز عام 1971 عندما هاجم عدد من كبار الضباط حفل عيد ميلاده بقصر الصخيرات ،. والثانية كانت في16 غشت عام 1972، عندما حاولت طائرات من القوات الجوية إسقاط طائرته في طريق العودة من فرنسا.

            ولمواجهة هذا الوضع السياسي المحتقن ، قام الملك الحسن الثاني باتخاذ عدة إجراءات سياسية واقتصادية وعسكرية تمثلت بالأساس في إعادة توزيع أراضي المعمرين و سن قانون المغربة وذلك لتقوية حكمه وتوسيع قاعدة النظام الاجتماعية وكذا إعادة هيكلة الجيش وإصدار دستور جديد . لكن إلى جانب هذه الإجراءات ، قام الملك بالإعلان عن تنظيم مسيرة خضراء لتحرير الأقاليم الصحراوية  مما أدى إلى خلق إجماع وطني تمثل بالخصوص في:

             *خلق أجواء تحيل على فترة النضال الشعبي من أجل الاستقلال الذي عرفته البلاد خلال الفترة ما بين 1953-1955 ، حيث كانت عملية استرجاع الصحراءعلى مستوى الرأي العام هي عملية إعادة خلق الظروف السياسية لما قبل الاستقلال . مما أجج الشعور الوطني من جديد.

             *التفاف الجيش حول الملك وولائه له بعد شرخ عدم الثقة الذي أحدثته محاولتي الانقلاب الفاشلة بين الجيش والملك كقائد للقوات المسلحة الملكية.

             *احتواء المعارضة من خلال تنفيذ أحد مطالبها السياسية التي كانت تؤكد على ضرورة استكمال الوحدة الوطنية ، حيث أصبحت لا تمتلك إلا اتباع سياسة الملك . إذ كان عليها إما الانقياد لمطالبة الملك بالصحراء أو تتهم بالخيانة .(2)

II-استرجاع الاقاليم الصحراوية والانتصار العسكري على الجزائر

               بحكم الجوار الجغرافي والتنافس السياسي بين البلدين ، شكل النزاع بين المغرب والجزائر بعد استقلالهما من ربقة الاستعمار الفرنسي بؤرة صراع تجسد في مشكلة الحدود الجنوبية بين المغرب والجزائر الذي انعكس من خلال حربين عسكريتين ، حرب الرمال وحرب أمغالا .  بالإضافة إلى حرب استنزاف  ما زالت مستمرة بين البلدين.

                    -الانتصار العسكري المغربي في حرب الرمال

             إن خلفية النزاع حول منطقتي تندوف وبشار كانت ذات طبيعة سياسية بالأساس لتتحول إلى مواجهة عسكرية مسلحة تجسدت في ما سمي بحرب الرمال (4). إذ لن ينسى الجزائريون على مر السنين حرب الرمال، التي تعد من أكبر المواجهات العسكرية التي اندلعت بين المغرب والجزائر، والتي انتصر خلالها الجيش المغربي على نظيره الجزائري ، فما كان منهم إلا ترديد المقولة الشهيرة التي قالها أيضا الرئيس الجزائري الراحل، أحمد بنبلة، آنذاك وهي : “المغاربة حكرونا”.ويبدو أن هذه الهزيمة العسكرية قد كانت من بين العوامل التي سهلت عملية انقلاب بومدين على الرئيس بن بلة ، الذي اتهم بالتقصير في إدارة هذا الصراع مع المغرب . ومن ثمة التفكير في رد الصاع لهذا الأخير . وبالتالي ، فقد كانت مساهمة سلطات الجزائر في مساندة بعض مكونات معارضة نظام الملك الراحل الحسن الثاني وتسهيل اختراقها للحدود المغربية للقيام ببعض العمليات المسلحة كان آخرها عملية مولاي بوعزة يدخل ضمن مخطط لزعزعة الاستقرار داخل المملكة في انتظار عمليات عسكرية تمكنها من إلحاق هزيمة عسكرية بالقوات المسلحة الملكية انتقاما لهزيمة الجيش الجزائري في حرب الرمال.

                -الانتصار العسكري المغربي في معركتي امغالا

             خلقت حرب الرمال التي اندلعت بين الجزائر والمغرب في شهر أكتوبر من سنة 1963،  والتي كانت أول مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، والتي انتهت بوساطة من منظمة الوحدة الإفريقية، من خلال التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في 20 فبراير 1964 في مدينة باماكو عاصمة مالي، توترا سياسيا مزمنا في العلاقات المغربية الجزائرية. وبالتالي

        ، فبعد 13 سنة وبالضبط في 27 من شهر يناير من سنة 1976 تجددت المواجهات بين جيشي البلدين في واقعة أمغالا.ويبدو أن قرار الملك الراحل الحسن الثاني باسترجاع المناطق الصحراوية التي كانت تحت السيطرة الإسبانية بعد استرجاع كل من منطقتي طرفاية وسيدي إفني ، دفعت نظام هواري بومدين إلى استغلال ذلك في محاولة إلحاق هزيمة بالجيش المغربي . وهكذا ، فبعدما تبين لنظام الرئيس الراحل بومدين بأن الملك الراحل الحسن الثاني قد نجح في الضغط على السلطات الإسبانية من خلال تحريك المسيرة الخضراء للتفاوض حول الجلاء من المناطق الصحراوية التي كانت تحتلها ، وعدم تنفيذ وعيدها بالتصدي عسكريا لإيقاف هذه المسيرة ، قام الجيش الجزائري صبيحة 15 فبراير 1975 ، في محاولة لاستباق الأحداث ، بهجوم عسكري  على منطقة أمغالا لتنشب معركة أمغالا الأولى التي استطاعت فيها القوات المسلحة الملكية بعد يومين فقط من هذا الهجوم على تطهير هذه المنطقة نهائيا من الجنود الجزائريين وتقوم بأسر 101 جندي  من الجيش الجزائري . وعقب تعهد الرئيس الجزائري بومدين  في مؤتمر قمة ، أمام رؤساء الدول العربية بأن لا يكرر غاراته على المغرب، خاصة وأن أمغالا تراب مغربي يبعد عن الحدود الجزائرية بـ 300 كلم، قامت قوات عسكرية من الجيش الجزائري ليلة 15و14 فبراير1976 بهجوم ثان على منطقة أمغالا، بعد أن غادرتها وحدات القوات المسلحة الملكية ، حيث تم قتل 120 مغربي وأسر 25 جنديا آخر، انتقاما من النظام الجزائري  لهزيمته  في معركة أمغالا الأولى . فبحسب الرواية المغربية فقد قام اللواء الأول للمشاة بالجيش الجزائري بالهجوم على بلدة أمغالا، في حين قام لواء آخر بالهجوم على منطقة تفاريتي، وتمركز لواء آخر للمدرعات بمنطقة المحبس المحاذية للحدود الموريتانية ، موجها مدفعيته الثقيلة على الأراضي الموريتانية وبالتحديد بمنطقة “كارة فوق كارة”، والتي تبعد مسافة 6 كلمترات عن أمغالا.  ولمواجهة هذا التموقع العسكري الجزائري ، توجه الجيش المغربي لصد هذا الهجوم في قوة تضم وحدة  عسكرية تحت قيادة النقيب حبوها لحبيب، وفيلقين للمشاة يقودهما الكولونيل بن عثمان قائد وحدة السمارة مدعومين بقوة للمدرعات تتكون من 36 دبابة. في حين لعب سلاح الجو العسكري دورا كبيرا في هذه المعركة، إذ قام بقصف مواقع المدفعية الجزائرية وقتل الضابط المسؤول عنها ، الشيء جعل الجيش الجزائري يفر من ساحة المعركة تاركا وراءه الكثير من السيارات والمعدات  حيث تحدث الجانب المغربي عن مقتل 200 جندي من الجزائر والبوليساريو، وأسر 109 آخرين،  .

                    -الصحراء والحرب بالوكالة

               يبدو أن  الانتصار العسكري في  معركتي أمغالا هو الذي دفع  بالنظام الجزائري إلى تحويل  حربه مع المغرب إلى حرب بالوكالة من خلال الدفع بجبهة البوليزاريو إلى الإعلان من مخيمات تندوف في 27 فبراير 1976 قيام “الجمهورية العربية الصحراوية”. ولجوء هذه الأخيرة إلى حرب العصابات التي سبق لجبهة التحرير الجزائرية أن انتهجتها في حربها ضد القوات الاستعمارية الفرنسية . وقد واجه الجيش المغربي صعوبات كبرى في التصدي لقوات البوليزاريو التي تبنت هذا النوع من الحروب التي لم تتمرس عليه جل قواته . فمعظم الضباط الكبار بالقوات المسلحة الملكية لم يسبق لهم أن حاربوا  في مسرح عمليات بالصحراء . إذ أن معظمهم الذي حارب في  الفيتنام والهند الصينية في أوربا حارب في الأراضي الغابوية وفي السهول ولم يتصارعوا في الصحراء الشاسعة المنبسطة، مما جعل الجيش المغربي أمام تكتيك جديد لم يسبق أن تمرن عليه من قبل، فضلا عن سياسة الألغام التي باشرتها الجزائر والبوليزاريو المدعومتين آنذاك من طرف نظام القذافي الذي اعتمد في عقيدته العسكرية على مساندة منظمات التحرير وتبنيها لحرب العصابات. لذا عملت القيادة العليا للجيش على إيجاد تكتيك مضاد لتأمين الحدود المغربية من جهة الجزائر، ومن جهة موريتانيا بعدما تخلت هذه الأخيرة عن المناطق التي حددت لها بمقتضى اتفاق مدريد . وقد قام هذا التكتيك العسكري على المرتكزات التالية:

        *تحسين الأداء الجوي لمراقبة شساعة الصحراء عبر اقتناء طائرات عسكرية جديدة، من خلال اقتناء طائرات الاستطلاع والنقل لتأمين تنقل الجنود بسرعة والقيام بالمسح الجوي لتأمين مرور القوات البرية أو مطاردة قوات  البوليزاريو المتحركة.

       * إحداث مطارات عسكرية في العيون وإنزكان (ثم بالداخلة بعد استرجاعها عام 1979)، إذ كان لهذه المطارات  أدوارا هامة على المستوى اللوجستيكي والحربي، خاصة بعدما اتخذ قرار بجعل أكادير مقرا للقيادة الجنوبية لإدارة العمليات العسكرية بالصحراء.

      * تطوير خبرة فرق الهندسة العسكرية المغربية وتزويدها برادارات وأجهزة إلكترونية وأجهزة خاصة بالدفاع والقدرة على إدارة عشرات الآلاف من الجنود في تنسيق متناغم.

      *إنشاء تشكيلات عسكرية مصفحة تتميز ـ حسب قول الملك الراحل الحسن الثاني ـ بشخصية خاصة في المناورة والعراك معا. بالإضافة إلى إحداث مجموعات من القوة المختلطة مزودة بالوسائل القوية السريعة قادرة وحدها على العمل منفردة عن المجموعات الأخرى.

      *بناء جدران عسكرية حيث شرع في بناء أول هذه الجدران هو الجدار المحاذي للجزائر من جهة الزاك (طول الحزام الأول 600 كلم) الممتد نحو السمارة الذي شرع في بنائه في غشت 1980، وانتهى العمل به يوم 14 ماي 1981 (تاريخ ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية). ليتوالى  إنجاز الأحزمة (6 أحزمة) في ما بعد طوال النصف الأول من عقد الثمانينات من القرن العشرين.

         وقد أثمر هذا التكتيك العسكري خاصة ، بناء مختلف الجدران العسكرية لتأمين التجمعات الحضرية والمنشآت الاقتصادية، بالمناطق الصحراوية المسترجعة ، عن التحكم في الوضع العسكري والأمني بالأقاليم الصحراوية الجنوبية وهذا ما عبر عنه الملك الراحل  الحسن الثاني بوصفه القائد أعلى للقوات المسلحة إلى القول عندما صرح في سنة 1980 “إن المغرب أصبح سيد الميدان عسكريا بالصحراء” وبالتالي ، فقد شكلت هذه السنة المنطلق الرئيسي لتحكم عسكري مغربي بالمطلق في الصحراء، توج بإعلان القذافي عام 1984 عن تخليه عن دعم البوليزاريو والجزائر في حرب الصحراء بعد إبرام  اتفاقية وجدة مع المغرب . كما اضطرت الجزائر إلى المطالبة بوقف إطلاق النار عام 1991 بعدما أغلقت القوات المسلحة الملكية باحكام كل المنافذ التي يمكن أن تتسرب منها الوحدات العسكرية للبوليزاريو .ليتم بعد ذلك التوصل إلى عقد هدنة عسكرية بين الجانبين بوساطة من مصر وتونس والجامعة العربية ليجسد ذلك انتصارا عسكريا آخر للقوات المسلحة الملكية على الجيش الجزائري بعد هزيمة هذا الأخير في حربي الرمال في أكتوبر 1963 ، ومعركتي أمغالا في بداية 1976.

         III- تحول المغرب إلى قوة إقليمية في المنطقة

                إن التنافس بين البلدين الجارين على احتلال موقع الدولة الاقليمية المركزية في المنطقة المغاربية وشمال غرب إفريقيا هو الدافع الموضوعي الرئيسي الذي يفسر التنافس المحموم على التسلح لدى الجزائر أولًا ثم لدى المغرب ثانيًا. فحصول دولة ما على تلك المكانة الإقليمية في المنطقة سيجعل كل تفاعلات العالم مع المنطقة تمر عبر إرادتها أولًا؛ مما يمكِّنها من ملاءمة كل تلك التفاعلات لمصلحتها؛ حيث إنه كلما كان التفاوت في ميزان القوة بين الدول كبيرًا جدًّا، سيضمحل التنافس لصالح القوة الكبرى، في حين أن المنافسة ستشتد كلما كان ميزان القوة بين الدول أكثر تقاربًا. وقد تجلى هذا التنافس الإقليمي بين الدولتين في مرحلة أولى من نزاع الصحراء وفي مرحلة تالية في سباق التسلح بين الدولتين.

        1-نزاع الصحراء ومحاولة حرمان المغرب من عمقه الافريقي

              منذ استقلال البلدين ، اتسمت العلاقات بين المغرب والجزائر بتوترات مستمرة وحتى نزاعات مفتوحة؛ حيث خاضت الدولتان حربًا في سنة 1963 بسبب نزاع حول ترسيم الحدود الشرقية المشتركة بينهما. حيث كانت الخلفية السياسية للجزائر من إشعال هذه الحرب ثني المغرب عن استعادة صحرائه الشرقية التي انتزعت منه إبان الاحتلال الفرنسي (5) لتتحول استراتيجية النظام الجزائري لتوظيف النزاع حول الصحراء منذ اندلاعه في سنة1975 في قلب التوترات بين الجزائر والرباط فيما يشبه حربًا باردة بين الدولتين وتنافس تاريخي مع المملكة المغربية. والواقع أن العلاقة بين الدولتين اتسمت على مدى عقود بالعداء السياسي المستمر على خلفية جملة أمور منها النزاع حول الصحراء. فقد سمحت الجزائر لجبهة البوليساريو، بإدارة مخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف باعتبارها ضمن الصحراء الجزائرية .فلطالما أظهرت الجزائر دعمها “الثابت وغير القابل للتفاوض” لجبهة البوليساريو. والواقع أن جبهة البوليساريو، التي تأسست في 10 ماي 1973 بمبادرة من شباب من أصول صحراوية، كانوا يتابعون دراستهم في جامعة محمد الخامس بعاصمة المغرب الرباط، أبرزهم الوالي مصطفى السيد ومحمد عبد العزيز وولد الشيخ بيد الله، كانوا يتبنون الفكر اليساري الاشتراكي. وقد لقيت دعما غير محدود من نظام العقيد معمر القذافي الزعيم الليبي السابق، واحتضانا من الجزائر التي سمحت لها بإقامة مخيماتها في ولاية تندوف جنوبا. وظلت البوليساريو تجد تزويدها بالأسلحة والمعدات العسكرية من الجزائر وليبيا وكوريا الشمالية…وتستعملها في حربها ضد المغرب (6)  ويعتبر المغرب منطقة الصحراء جزءًا لا يتجزأ من وحدته، نظرا لادراكه برغبة الجزائر في حرمانه من عمقه الافريقي من خلال إطالة أمد هذا الصراع . في حين اعتبرت الجزائر هذه المنطقة منطقة تصفية استعمار وبالتالي وضعها يتحدد بناء على استفتاء لتقرير المصير. وقد نجحت الدبلوماسية الجزائرية في بداية ثمانينيات القرن 20 مستغلة الوضع السياسي والاقتصادي الداخلي الصعب للمملكة في إقحام “الجمهورية العربية الصحراوية” ضمن أعضاء منظمة الوحدة الافريقية مما اضطر الدبلوماسية المغربية إلى اتخاذ قرار الانسحاب من هذه المنظمة وتبني سياسة الكرسي الفارغ الشيء الذي خدم أهداف الدولة الجزاءرية لأكثر من ثلاثة عقود . لكن مع اتخاذ الملك محمد السادس قرار انضمام المملكة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، في 30 يناير 2017، أسهم في سحب الاعتراف بـ”الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” من قبل العديد من الدول الإفريقية ، كما ساهم في إضعاف  الموقف الجزائري داخل المنظمة (7) وقد زاد الاعتراف الأمريكي بمغربية  الصحراء وبعده الاعتراف الفرنسي ومساندة عدة شركاء من أوربا  لمبادرة الحكم الذاتي وفتح 30 دولة لقنصلياتها بكل من العيون والداخلة من العزلة الدبلوماسية للنظام الجزائري.

2-ميناء الداخلة وتحول المغرب إلى قوة بحرية

        يتوفر المغرب بالواجهة الأطلسية على عدة موانئ وظيفية بالدار البيضاء، والمحمدية، والجرف الأصفر والميناء الجديد لآسفي التي أنجزت لاستيراد وتصدير منتجات طاقية وصناعية وفلاحية. غير أن بناء مركب مينائي بالداخلة، يعتبر ضمن التصور الملكي مشروعا إستراتيجيا لا يقتصر فقط على  تنمية الأقاليم الجنوبية للمملكة بل يعد ضمن الإستراتيجية الملكية الإفريقية  كرافعة لتقوية تواجده كقوة بحرية أطلسية.

     – ميناء الداخلة والانفتاح على البوابة الافريقية الأطلسية

          يبدو أن مشروع ميناء الداخلة الأطلسي لا يشكل فقط رافعة اقتصادية لتنمية جهوية ، بل يندرج ضمن رؤية استراتيجية ملكية شمولية تسعى إلى توطيد الروابط الاقتصادية بين المغرب وعمقه الإفريقي، وأن يشكل واجهة بحرية للاندماج الاقتصادي وقطباً للإشعاع القاري والدولي.(8)إذ يبرز ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يعد أحد المشاريع الهيكلية الكبرى المدرجة في إطار النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، كورش استراتيجي من شأنه تعزيز وترسيخ البعد الإفريقي للمملكة و دعم وتمتين الروابط الاقتصادية والتجارية التي ينسجها المغرب مع عمقه الإفريقي، ليشكل بذلك رافعة أساسية للتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري والدولي للمملكة.إ ذ من المرتقب أن يساهم هذا المشروع الاستراتيجي بقوة في إبراز جهة الداخلة – وادي الذهب، باعتبارها بوابة لبلدان القارة الإفريقية ومركز جذب لمستثمرين مغاربة وأجانب مهتمين بالتصدير إلى إفريقيا، لاسيما في إطار منطقة التبادل الحر القارية.إذ سيأخذ مشروع ميناء الداخلة الأطلسي بعين الاعتبار أهمية الارتباط بالطريق السريع الذي سيربط بين تيزنيت والداخلة ومنها إلى الحدود المغربية – الموريتانية وباقي بلدان القارة الإفريقية، مساهما بذلك في دعم توجه المملكة نحو توطيد علاقات التعاون جنوب – جنوب.(9) وقد ظهر هذا التوجه واضحا من خلال الخطاب الذي ألقاه الملك بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة حينما أكد أن ” ميناء الداخلة سيشكل آلية وانطلاقا من هذه الرؤية، ستكون الواجهة الأطلسية، بجنوب المملكة، قبالة الصحراء المغربية، واجهة بحرية للتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي.فإضافة إلى ميناء طنجة -المتوسط، الذي يحتل مركز الصدارة، بين موانئ إفريقيا، سيساهم ميناء الداخلة الأطلسي، في تعزيز هذا التوجه. وسنواصل العمل على تطوير اقتصاد بحري حقيقي، بهذه الأقاليم العزيزة علينا؛ لما تتوفر عليه، في برها وبحرها، من موارد وإمكانات، كفيلة بجعلها جسرا وصلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي”.

– ميناء الداخلة والمبادرة الأطلسية

          بعد الإعلان الملكي في 6 نوفمبر 2023 عن المبادرة الأطلسية في الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء، ظهر بأن إنجاز ميناء الداخلة يندرج في أفق استراتيجي يتجاوز الابعاد الجهوية المحدودة والقارية الموسعة ، ليندرج في إطار التحولات الجيوستراتيجية التي يعرفها العالم تتمثل في المتغيرات الجيوستراتيجية العالمية خلال العقدين الماضيين التي أعادت وضع القارة الإفريقية في قلب اهتمامات القوى الكبرى، خاصة بعد تداعيات جائحة كوفيد – 19 والنزاع الروسي الأوكراني والأزمات الطاقية والغذائية والمناخية، وتنامي الصراع على الموارد والمعادن والمواقع الاستراتيجي. كما تتمثل أيضا في المتغيرات التي عرفتها دول الساحل بعد الانسحاب الفرنسي من بعض دول المنطقة والتمدد الروسي فيها . بالإضافة إلى الموقع الجيوستراتيجي للمنطقة الافريقية الأطلسية إذ أن البحار والمحيطات التي تحد إفريقيا (المحيط الهندي، البحر الأحمر، البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي) تمنحها ميزة استراتيجية تمكنها من الإشراف على أهم مضائق وممرات التجارة الدولية (مضيق جبل طارق، قناة السويس، … )، ومن ثم تأتي أهمية هذه المبادرة كأرضية لاستثمار هذه المؤهلات الإستراتيجية التي تتمتع بها القارة، وفق مقاربة تشاركية تمكن بلدان الساحل من منفذ بحري على الواجهة الأطلسية المغربية.وتعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي . وبهذا الصدد أكد العاهل المغربي على استعداد المغرب لتقديم دعمه عبر إتاحة البنية التحتية الخاصة بالطرق، الموانئ، والسكك الحديدية. كما ‏أكد الملك أيضًا على ضرورة تطوير البنية التحتية في دول الساحل وربطها بشبكات النقل والاتصالات الإقليمية لضمان نجاح هذه المبادرة، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة وتحسين التواصل والتجارة بين دول الساحل والعالم الخارجي. ولتجسيد هذه المبادرة عمليا ، تم التوقيع في المؤتمر المنعقد بمراكش يوم السبت 23 ديسمبر 2023 ، على اتفاق بين دول الساحل والمغرب، الشيء الذي يمثل خطوة أولية نحو تحقيق هذه المبادرة.(10).

  • تحديث الترسانة العسكرية البحرية

  لتجاوز بعض مظاهر الضعف التي تعاني منها البحرية المغربية مقارنة بباقي الأسلحة البرية والجوية للجيش المغربي ، ولتجسير الهوة التي تفصلها عن البحرية الجزائرية والاسبانية (11) ،خضعت البحرية المغربية لتحديث تدريجي ، حيث انتقلت من كونها قوة حماية ساحلية – مجهزة بشكل أساسي بكورفيت من فئة Descubierta وأربع سفن دورية صاروخية من فئة لازاغا من أصل إسباني أيضًا – لتصبح قوة بحرية رئيسية في المنطقة ولديها حقا قدرات المحيطات . يضاف إلى ذلك تحسين التدريب المهني لأفرادها ، الذين أجروا العديد من التدريبات البحرية مع أساطيل فرنسا والبرتغال وإسبانيا والبحرية الأمريكية. ويمكن نرجع  دوافع هذا التحديث إلى اعتبارين : الأول إقليمي  يتمثل في مواكبة تعزيز بعض دول المنطقة لقدراتها البحرية حيث عززت دول مثل الجزائر ومصر قواتها البحرية  حيث أن اقتناء هذه الأخيرة لمجموعة من المعدات البحرية المتطورة جعلت  من أسطولها البحري الأسطول الرئيسي في منطقة البحر الأبيض المتوسط ، في حين أن عمليات الاستحواذ التي قامت بها الجزائر جعلت من أسطولها البحري الأهم  في منطقة المغرب العربي (12) دون التغافل عن القوة البحرية التي يتوفر عليها الاسطول الاسباني بالمنطقة. أما الاعتبار الثاني داخلي يتمثل  في حماية مصالحه البحرية ، خاصة بعد اكتشاف بعض الثروات المعدنية  في المحيط الأطلسي خاصة بالقرب من جزر الكناري(13) حيث يرى بعض  الخبراء العسكريين أن هذا الاستحواذ يعكس اهتمام المغرب المتزايد بتأمين حدوده البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في استراتيجية بعيدة المدى لحماية المملكة وتعزيز أمنها القومي خاصة بعد تزايد أنشطة عصابات التهريب والجريمة المنظمة العابرة للقارات وتهديدات التنظيمات المتطرفة

ووفق هذا السياق الجيوستراتيجي ، تم  اتخاذ الخطوات الأولى نحو تحديث البحرية المغربية بإدماج فرقاطتين فرنسيتين من نوع فلوريال ، واقتناء ثلاث فرقاطات من طراز SIGMA ، مزودة بأحدث جيل من الأسلحة والأنظمة الإلكترونية ، و فرقاطة FREMM التي  يبلغ وزنها 6000 طن وطولها 142 مترًا ، وهي واحدة من أكثر الوحدات القتالية الحديثة في المنطقة التي تتوفر عليها البحرية المصرية. وهكذا أصبحت البحرية المغربية تضم 12000 فرد ، منهم 3000 ينتمون إلى مشاة البحرية ، مع سبع فرقاطات وطرادات ، وقوارب دورية صاروخية مختلفة ، بالإضافة إلى زوارق دورية وخمس وحدات برمائية وقوارب نقل ودعم و 11. وأسطول طائرات الهليكوبتر. وفي سابقة تُعد الأولى من نوعها منذ ثلاثة عقود، نجح كل من المغرب إسبانيا في إتمام صفقة اقتناء الرباط لسفينة حربية تستعمل في الدوريات والإنقاذ، وذلك بفضل قرض قيمته 95 مليون أورو منحه مصرف “سانتاندير” للحكومة المغربية.ويتعلّق الأمر، بقارب دورية متطور يحتوي على أكثر الأنظمة تطوراً، مثل أجهزة الاستشعار والرادارات الحديثة، ونظام إطلاق الصواريخ، والإجراءات المضادة الإلكترونية، ومدفع 76 ملم، يبلغ طولها 89 مترًا ويتألف طاقمها من 46 شخصًا   وتتسع لاثني عشر شخصًا (14)أما الخطوات التالية  فتتمثل في رغبة المغرب في الحصول على غواصات بحرية التي ما زال المغرب لا يمتلكها في الوقت الذي تمتلك فيه  كل من اسبانيا والجزائر بعض هذه الغواصات الشيء الذي يشكل أحد مظاهر ضعف الأسطول المغربي بالمنطقة . ولعل هذا ما دفع بالمملكة  في السنوات الأخيرة للتعبير عن رغبة ملحة لامتلاك غواصات ، و البحث عن أحسن الخيارات العسكرية لاقتناء الغواصات التي ستساهم في تقوية قدرات البحرية الملكية (15)  والاستعانة بها في حماية امن حدوده البحرية وخلق نوع من التوازن العسكري مع الجزائر وبالأخص بعد الانتهاء من بنائه  وتشغيله لقاعدة القصر الصغير.

  خاتمة  

    وعموما، فاسترجاع الصحراء يشكل بالنسبة للمغرب رهانا سياسيا محوريا ليس في استعادة جزء من وحدته السياسية  وتقوية جبهته الداخلية، بل في استرجاعه لعمقه الافريقي الذي انطلقت منه حركة المرابطين الذين وحدوا لأول مرة الدولة المغربية . فاسترجاع هذه الأقاليم الصحراوية  هو بمثابة استعادة الدولة المغربية لجذورها السياسية التي تستمد منها الاستمرارية والتمدد. ولعل هذا ظهر واضحا من خلال مختلف المشاريع التنموية التي باشرها المغرب منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي والتي من أبرزها إنجاز ميناء الداخلة الذي سيربط المغرب كقوة إقليمية بمجالها الافريقي إقليميا ومجالها الأطلسي دوليا.

Share
  • Link copied
المقال التالي