Share
  • Link copied

استئناف الوجع الأفغاني

قد تكون أفغانستان بعيدة عنا جغرافيا، فما من دولة عربية تجاورها، وهي من دول آسيا الوسطى، تقع شمالها طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وكلها من الكيانات (الإسلامية) التابعة للاتحاد السوفييتي سابقا، والقريبة سياسيا من روسيا إلى اليوم، وتجاور الصين أفغانستان شرقا، إضافة إلى باكستان جنوبا، وإيران غربا، ورغم كون أفغانستان دولة حبيسة بلا شواطئ، فإنها صارت رقما محسوسا في حياة عرب العصور الوسطى، منذ جرى فتحها إسلاميا، أواسط القرن السابع الميلادي.

ولا يملك مراقب لحياتنا الفكرية الأحدث، إلا أن يلحظ وجودا مؤثرا لقامة كبيرة اسمها جمال الدين الأفغاني، وهو الرمز المؤسس في سيرة مدرسة الجامعة الإسلامية، التي تخرج فيها الإمام محمد عبده عنوان التجديد الديني الأزهري، كما عبد الرحمن الكواكبي، المبشر الأول بالخلاص من الاستبداد الملتحف بلباس الدين، والإمام عبد الحميد بن باديس رائد التحرر من استيطان فرنسا الاستعماري للجزائر، أما جمال الدين الأفغاني نفسه، فكان راعيا للثورة العرابية، التي أخفقت في منع الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882، وظل الرجل ـ رغم عقابه ونفيه ـ من أيقونات كفاح المصريين من أجل الاستقلال والتقدم والمساواة.

وقد تبدو المفارقة ظاهرة بين معنيين، معنى الأفغاني المنسوب لجمال الدين، ومعنى الأفغاني في عقودنا الأخيرة، فقد كان وعي الأفغاني الأول متقدما بمعايير زمانه، وميزت مدرسته بوضوح بين الدائرة العربية والدائرة الإسلامية الأوسع، وقد دعا بن باديس ـ مثلا ـ إلى وحدة عربية تامة، وإلى تضامن جامع بين الأمم القومية التي يضمها دين الإسلام، وبالفهم ذاته، الذي ظهر في الأدب السياسي لجمال عبد الناصر في ما بعد، بينما كان الانقلاب على اختيارات جمال عبد الناصر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ودهس الذين «هبروا» لدماء الذين عبروا، وما تلاه من ذهاب إلى تيه وموات طويل، كان من دواعي استدعاء معنى أفغاني نقيض، حين لعب الرئيس السادات دورا مريبا في الحملة الأفغانية، التي أدراتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وحشدت أموالا من فوائض البترول الخليجي، وجماعات مهولة من الشباب (الإسلامي) في مصر بالذات، وتورط الإعلام الرسمي مع منابر المساجد بتعبئة لا تنساها الذاكرة المصرية، إدعت أن حرب أفغانستان هي حرب المسلمين ضد (الكفرة) السوفييت، وظلت الحرب دائرة مدعومة بسلاح وتخطيط الأمريكيين لنحو عشر سنوات، كانت واشنطن تقصد بها استنزاف موسكو، ودفعها لهزيمة تشبه هزيمة أمريكا الأسبق في فيتنام (الشيوعية) سابقا، وتحقق لواشنطن وقتها ما أرادت، وانسحبت موسكو مهزومة من أفغانستان عام 1989، ولكن من دون أن يعنى ذلك انتصارا للإسلام ولا للمسلمين، فقد كان التجييش الديني حرب أقنعة كاذبة، سرعان ما لحقتها حرب أهلية مهلكة في أفغانستان، دارت بين جماعات إخوانية وشبه إخوانية وشيعية وعرقية وغيرها، أنهتها حركة «طالبان» القادمة من أقبية المخابرات الباكستانية، واستطاعت سحق كل الجماعات (الإسلامية) إياها في ظرف سنتين، وحولت أفغانستان إلى إمارة «الملا عمر» في 1996، واستمر حكمها حتى نهايات عام 2001، حين قررت واشنطن هذه المرة غزو أفغانستان بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبدعوى اقتلاع حكم طالبان حليف تنظيم «القاعدة» وجماعة أسامة بن لادن، وتحقق لأمريكا خلع حكم طالبان من أول غارة، وقتل بن لادن في مخبئه الباكستاني قبل عشر سنوات خلت، لكن واشنطن وجدت نفسها غارقة في المستنقع، رغم تخفيض أمريكا لقواتها وحلفاء الأطلنطي على مدى العشر سنوات الأخيرة، وتراجع مهام القوات وحجمها من مئة ألف، إلى ما يزيد قليلا على عشرة آلاف، إضافة لنحو 7800 متعاقد أمريكي لخدمة القوات القتالية، قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سحبهم في اتفاق الدوحة (فبراير/شباط 2020) ثم جاء الرئيس الحالي جو بايدن لينفذ قرار ترامب، مع تأجيل موعد الانسحاب النهائي إلى 11 سبتمبر 2021، أي بعد عشرين سنة من حرب عظيمة الفشل، كلفت أمريكا آلافا من القتلى، ونحو التريليوني دولار، ومن دون أن ينتهي وجود تنظيم «القاعدة» في جبال أفغانستان، بل أضيف إليه وجود ملموس لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومع بقاء نصف أراضي أفغانستان تحت سيطرة حركة «طالبان» التي تتأهب للزحف إلى المدن الكبرى بعد انسحاب الأمريكيين، واقتلاع الحكومة الفاسدة الهشة الموالية للأمريكيين، في حرب أهلية جديدة منتظرة، قد تكرر فيها «طالبان» ما فعلته سابقا، وتهزم منافسيها لتعيد أفغانستان إلى ما كانت.

وقد تلفت النظر هزيمة الأمريكيين بعد هزيمة السوفييت بثلاثين سنة، وكانت أفغانستان، بتضاريسها الوعرة وطباع أهلها المحاربة، عصية دائما على الغزاة، من غزوات الإسكندر الأكبر حتى الغزوة الأمريكية، وإن لم ينجح الأفغان أبدا في صياغة نظام سياسي صالح مستقر، ومنذ ترك الاحتلال البريطاني لأجزاء كبيرة منها عام 1919، كانت أفغانستان تعيش في الظلام والفوضى، تحت ملك أسرة ظاهر شاه، التي حكمت من عام 1933 حتى 1973، حين انقلب محمد داود خان على ابن عمه الملك الأخير، ثم انقلب عليه الحزب الشيوعي (حزب الشعب الديمقراطي) عام 1978، ولم تنفعه نجدة الكرملين السوفييتي بقوات الجيش الرابع، وظلت فصائل الحزب الشيوعي يقتل بعضها بعضا، وإلى أن جاء دور الجماعات (الإسلامية) المتحاربة حتى الفناء على يد «طالبان» وما من عاقل يتوقع استقرارا لأفغانستان، حتى بعد جلاء الأمريكيين، وهو ما تدركه القوى المتصارعة على مصير العالم، ومصائر آسيا، خصوصا من الدول المتداخلة جغرافيا وعرقيا مع أفغانستان، وبالذات من الصين المجاورة السعيدة بخروج الأمريكيين، وتعتبر أفغانستان مهمة في شق طريق (الحرير) الصيني العالمي، وقد نجحت الصين في استقطاب باكستان تجاريا واقتصاديا، وتريد الإفادة من أولوية الدور الباكستاني في الوضع الأفغاني الجديد، ومن دون تناقض هذه المرة مع روسيا الحليفة اليوم، بعكس ما كان عليه الحال الصيني زمن الغزو السوفييتي، وبغير تناقض مع دور إقليمي منتظر تزايده لإيران في أفغانستان، ولا حتى مع دور إقليمي وارد لتركيا بحكم طبائع أفغانستان العرقية، ففي أفغانستان أعراق متعددة، أهمها (البشتون) الممتدون من باكستان إلى أفغانستان، وهم مسلمون سنة، يشكلون نحو سبعين في المئة من الأفغان، إضافة إلى (الطاجيك) و(الأوزبك) و(الأيماك) و(التركمان) و(الهازارا) والعرقية الأخيرة يسود فيها المذهب الشيعي بنسبة 20% من مجموع السكان، وهم نقطة ارتكاز ثابتة للنفوذ الإيراني، والمحصلة ظاهرة، وفيها مزيج من توقع اشتعال حروب الدين والجماعات والمذاهب، وحروب مزارع «الأفيون» وضعف مركزية حكم «طالبان» المتوقعة عودته، مع تنامي المصالح الاقتصادية والتجارية للصين بالذات، واتصال أدوار (لعبة الأمم) على جثث وأشلاء الأفغان، الذين قتل منهم الملايين، إضافة لتخريب أغلب المدن والقرى ونشر فكر الإرهاب، في بلد يبلغ تعداده اليوم ما يزيد قليلا على 38 مليون نسمة.

وقد لا يكون وجعنا مما جرى ويجري في أفغانستان مختلفا كثيرا، ويكاد يشبه وجع الأفغان في بعض وجوهه، فقد عرفنا النور الأفغاني مع الأستاذ جمال الدين، وعاش بيننا وكأنه منا ومن سادة عقولنا، كان ذلك قبل قرن ونحو نصف القرن، لكن الظلام الذي هبط على بلده الأصلي في نصف القرن الأخير، أرخى سدوله علينا أيضا، وفي صورة جماعات إرهاب وتخلف همجي، تلقت دروس القتل وفنونه في جبال أفغانستان، ونشرت الدم والفوضى في كثير من الأقطار العربية، ولم تفكر أبدا في الذهاب لقتال مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهو العدو الأقرب إلينا من حبل الوريد، بل كانت دائما عونا لإسرائيل بالقصد أو بدونه، وقتلت من العرب والمسلمين أضعاف أضعاف ما قتلت «إسرائيل» ولعبت أدوارا خفية فظاهرة في تدمير عدد من الأقطار العربية، وبدعوى طلب (خلافة) موهومة، لا تعدو كونها، سبيا وخرافة وجهلا وقطعا للرؤوس، وقطعانا تتلاعب بها أجهزة مخابرات دولية وإقليمية، وتلوث سيرة الثورات العربية المعاصرة، وتحولها إلى محارق وقبور وحروب دمار شامل، ونشر للتخلف الطائفي وتزوير للإسلام، ومع توقع العودة للحروب الدينية إياها في أفغانستان المنهكة، وعلو كعب حركة «طالبان» من جديد، وفهمها القبلي الصحراوي البدائي لعقيدة الإسلام، وإتاحتها لبيئة تفكير جاذبة لجماعات الإرهاب الوافدة، فلا نستبعد أن يعود وجعنا الأفغاني للنزف من جديد، وأن يتجدد إيقاع الحملات الأفغانية، وأن تحظى بالدعم القديم ذاته من المخابرات الأمريكية وغيرها، وبهدف حرق أفغانستان ذاتيا، حتى لا تستفيد الصين المنافسة بامتيازاتها الجغرافية، وجعل أفغانستان مملكة ذهبية لجماعات التطرف المشوه للإسلام القاتل لمستقبل المسلمين.

Share
  • Link copied
المقال التالي