“إن الخوف يسلب من الرأس قوى أفكارها” الفيلسوف محمد إقبال
إلى الأستاذ عبد اللطيف وهبي الصديق العزيز الكريم ابن الأكرمين الذي عرفته وتعرفت عليه عن قرب، ومدة زمنية ليست بالقصيرة، قد تتجاوز 16 سنة.
كنت أود، الأستاذ عبد اللطيف، كتابة مقال بطريقة ساخرة بعنوان “من الفاعل السياسي عبد اللطيف وهبي إلى الحركة الوهابية” (نسبة إلى وهبي)، والسبب أني أجد راحة كبيرة في الكتابة الساخرة التي تمنح لي مساحة واسعة في التهرب والهروب في نفس الآن: الهروب من المواجهة المباشرة والتي هي حرفة السياسي المؤدلج، والتهرب من ضيق العبارة إلى سعة الإشارة وهي البلاغة العامة التي تقوم على السياحة في تراث الأجداد ومناهج الأنداد من أجل الإفهام على طريقة “الإمتاع والمؤانسة”.
لكن فضلت أن أخاطبك بطريقة مباشرة، وبخطاب مباشر، بعيدا عن لغة الإشارات، والتقعير اللفظي، والإغراب في المعاني، وددت أن أتحدث معك بلغة يفهمها الجميع، لا تحتمل أي تأويل أو تفسير.
الرأي قبل شجاعة الشجعان!
ما زلت أتذكر، سيدي عبد اللطيف، أول مرة حصل التعارف بيننا، فقد عرفتك صاحب رأي، وكنتَ تتواصلُ معي عبر الهاتف وترسل لي مقالاتك، مقالات رأي طبعا، وتبقى في نهاية الأمر مقالات رأي، رأي مواطن يعبر عن رأيه، وكنت أحرص على تصحيح بعض الأخطاء في الرقن أو علامات الترقيم، دون المس بفكرتك، أقصد رأيك الشخصي، وكنت أجهز مقالاتك للنشر إلى جانب مقالات أخرى تعبر عن روح الاختلاف ونعمة التنوع التي يزخر بها وطننا الحبيب المغرب، اختلاف في الأهواء والإيديولوجيات والأطروحات السياسية، وكنت أشعر بالفخر أن أتوصل بهذه المقالات من أساتذة جامعيين ومحامين وباحثين وأعضاء في النقابات العمالية والأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية (المجتمع المدني)، وحتى بعض القضاة، ولا زلت أذكر بعض الأسماء التي كانت تتواصل معي آنذاك، وهي مقالات وإن اختلفت تعكس ولا ريب في ذلك، حركية المجتمع المغربي وثقافته الضاربة في العمق التاريخي والممتدة على الرقعة الجغرافية لهذا البلد الأمين.
كانت مقالاتك تتسم بروح النقد للفاعل في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وكانت عبارة عن مرافعات تدافع فيها عن المجتمع، عن قيم الحرية والعدالة والكرامة، اختلفنا أم اتفقنا في طريقة التعبير، أو في الحجج التي تبني عليها مرافعاتك، فهي في رأيي تبقى في النهاية تعبر عن طريقتك وأسلوبك في كتابة الرأي، والأسلوب هو الرجل!
وبعد مرور سنوات، سيدي عبد اللطيف، التحقت بالبرلمان، أو بالأحرى أُلحقت بالبرلمان، (لست أدري هل التحقت أم تمت عملية إلحاقي) باعتباري مستشارا في البرلمان، وهناك تعرفت عنك بشكل مباشر، لا زلت أذكر أنك كنت تعيش وضع المعارض، في حزب كان آنذاك في المعارضة، كما كنت تعارض من داخل حزبك، وكانت تدخلاتك قوية جدا، وعنيفة أحيانا، وبقيت مقربا منك لأنك أنت من اخترت أن أكون صديقك، وهنا كبرت في عيني، وأحيانا كنت تناديني هاتفيا أن ألتحق بك إلى مكتبك الخاص، وكنا نخوض في النقاش الذي يمتد ساعات، وكنت تستشيرني كثيرا، أكبرت فيك هذه الصفة، وغالبا ما كنت ـ أنت ـ تتراجع وبسرعة، وتسامح وتعفو وتُكرم، تفتح عقلك، تفتح قلبك، بل وتفتح جيبك للمستضعفين من الموظفين من النساء والرجال الذين يشتغلون في مطعم ومقهى البرلمان.
وكنت، سيدي عبد اللطيف، كريما مع الموظفين الذين يشتغلون معك، كانوا يمتلكون نفس الهاتف الذي بحوزتك، لأنك عندما تغير هاتفك تفكر في الموظفين معك فيغيرون هواتفهم، لأنك أنت من تشتري الهواتف للجميع، لك ولهم دفعة واحدة، ومن جيبك!
ولا أنسى أن الموظفين بالفريق البرلماني للحزب كانوا دائما يمنون النفس بأن يتم اختيارك رئيسا للفريق، لأنك أنت الوحيد من كان يعترف بمجهوداتهم، وأنا شاهد على ذلك، وكنت تقول مخاطبا الموظفين: لولاكم أنتم فلا وجود للبرلمانيين، هم موجودون هنا بفضلكم!
وأحيانا تغضب من موظف، وعندما يتحدث معك مدير الفريق، وهو شخص نبيه ومسيس ويتقن فن الإدارة، تأتي عندي او عند موظف آخر وتتنازل، الكل كان يحترمك ويقدرك وأنا واحد منهم، كنت أحترمك وبقيت أحترمك كشخص كريم كنت تقف إلى جانب الضعيف، ودعني أذكر إحدى اللطائف التي لا أنساها، سيدي عبد اللطيف، وأهمها ما يتصل بالكرم والجود، عندما كان الفريق البرلماني ينظم لقاء في مراكش على عهدك لما كنت رئيسا للفريق، كنت أول ما تعتني به هم الموظفون، كانوا يقيمون في فنادق خمسة نجوم، بل وتطلب من الموظف أن يصطحب معه زوجته، ومن الموظفة أن تصطحب معها زوجها، وظل هذا السلوك الكريم منك يردده الموظفون عندما التحقت بالبرلمان في أواخر 2014.
غادرت قبة البرلمان، وبقيت أحترمك بسبب أنك إنسان كريم ابن الأكرمين، قلب طيب، قد تتمرد أو تخونك العبارة، ولكن تتراجع بسرعة وتسامح وتعفو، وتترفع ولا تحقد على أحد، وهي نفس الشهادة التي أدلى بها إلياس العماري في حواره مع الصديقة والأخت نعيمة المباركي.
هكذا عرفتك عن قرب، وهي شهادة عبرت عنها في أكثر من مرة مع أصدقاء.
قد تخونك العبارة، ولكن تتراجع، في مقابل ذلك لا يتراجع خصمك، بل يستعمل عبارتك للنيل منك، ولا ضير في ذلك كما أرى لأن هذا هو سلوك السياسي، ليس في المغرب وحسب، ولكن حتى في بلدان غربية لها تقاليد في الديمقراطية، وعندما ينزلق لسانك وأنا بعيد عنك كنت لا أجد ضيرا في الدفاع عنك، لأني كنت أنطلق من معرفتي بشخصك الكريم، ودافعت عنك أكثر من مرة، اذكر مرة عندما قلت في تصريح بأن إمارة المؤمنين إسلام سياسي، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي للنيل منك وأنت على أبواب المؤتمر قبل الأخير، هنا دافعت عنك، بل عن المبدإ، وذهبت إلى أن ما قلته في تصريح سياسي قاله باحثون مرموقون داخل المغرب وخارجه، وبلغات متعددة، وكان همي هو أن يتم الاختلاف معك بحجة اصطناعية وليس بحجة سلطوية Argument d’autorité حسب تصنيف أهل الحجاج.
بل إنني دافعت عنك مؤخرا أيام الزلزال الذي ضرب مناطق الحوز بخصوص تصريحاتك حول المساعدات الجزائرية، بل واختلفت مع الصديق د. عبد الرحيم المنار اسليمي، وقلت بالحرف بأن: “ما صرح به وزير العدل عبد اللطيف وهبي لم يخرج عن السياسة العامة في تدبير الأزمة من لدن أعلى سلطة في البلاد، أي الملك، والردود التي تابعتها حول تصريحه يمكن تصنيفها في إطار لعب الدراري الصغار: تصفية حسابات سياسوية، اعتقد جازما أنها خارج السياق، وخارج الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد. .. لنكن في مستوى هذا الشعب العظيم من شماله إلى جنوبه، ومن قراه ومدنه، وجبال وصحاريه، شعب من الرجال لم تلهيهم مشاكلهم من فقر وفاقة وحاجة من الوقوف إلى جانب إخوانهم في الحوز والأطلس….”.
وأخفيت هذه التدوينة لما علمت أنك تنوي مقاضاة الأستاذ عبد الرحيم المنار اسليمي، كما حكى لي أكثر من مصدر، هنا جعلتني أقف إلى جانب الصديق عبد الرحيم الذي اختلفت معه فيما ذهب إليه..
وعندما كنت أكتب فلم أكن انتظر منك جزاء ولا شكورا، ولكن الكرم والجود والقلب الطيب الذي عرفتك به لما اشتغلت في البرلمان هو ما جعلني لا أنسى الفضل دون أن أعدم فضيلة الاختلاف الذي يعتبر خاصية للتجديد والإبداع التي تقوم عليها الدول والحضارات.
العفو عند المقدرة
إنني، سيدي عبد اللطيف، أستغرب أيما استغراب أن الأستاذ وهبي ذا القلب الطيب كما عرفته يعفو ويسامح من يختلف معه، بل مع من يخاصمه، المحامي الذي يدافع عن أصحاب الرأي يلتجئ إلى القضاء من أجل القضاء على أصوات الاعتدال وحب الوطن من قبيل الأستاذ الجامعي د. عبد الرحيم المنار اسليمي والصحافيين الأربعة محمد التجيني وهشام العمراني وحميد المهداوي ورضا الطاوجني، هؤلاء جميعهم أعرفهم، وإن اختلفت معهم، فهم حسب شرعي (رأيي) يمثلون صوت الوساطة بين الدولة والمجتمع حقيقة في زمن تراجع فيه دور الحزب والنقابة والمجتمع المدني، ناهيك عن غياب التواصل لدى الحكومة، نعم غياب التواصل وهي شهادة الصحافي المخضرم الصديق معنينو عندما كتب مقالا بعنوان “من يتذكر أن لنا حكومة؟”.
أستغرب، سيدي عبد اللطيف، كيف تغيرت وتبدلت وتحولت، ما الذي جرى؟ ما الذي جعل الأستاذ عبد اللطيف وهبي الذي يحب الصحافيين كما عهدي به ويدافع عن الرأي، ويكتب رأيه، ويؤلف الكتب؟ هل يتعلق الأمر بثقل الأمانة؟ ارتباك بسبب كثرة المسؤوليات (أمين عام حزب احتل المرتبة الثانية، مشاكل داخلية يتم تصريفها في الصحافيين وكأنهم هم السبب؟ رئاسة البلدية؟ مسؤولية الوزارة؟ مشاكل في مكتب المحاماة؟) ما الذي جرى تحديدا؟
لماذا تخليت عن الصحافيين وكتاب الرأي من أساتذة جامعيين وباحثين، ومنهم من اشتركت معهم في تأليف كتب من قبيل الأستاذ حسن طارق، كنت تقدرهم وتجالسهم وتشترك معهم في الطعام والرأي والنشاط الثقافي فلا أدري كيف أصبحت اليوم تناصبهم العداء؟
هؤلاء المستضعفون الذين لا يحملون غلا ولا حقدا للدولة والمجتمع، لم يتفوهوا بربع كلمة من الكلام الذي قاله إدريس لشكر أو عبد الإله بنكيران بحقك أنت شخصيا … حكرة والله السي عبد اللطيف!
وما يقوله الصحافيون والمواطنون وما قالوه بحق بنكيران وإلياس وشباط ووزراء ووزيرات في الحكومة السابقة لم يصبك ربعه أو ثلثه ومع ذلك لم يفكر أي أحد منهم أن يقاضي الصحافيين وأصحاب الرأي. (وهنا تحضرني شهادة يونس دافقير في الوزيرة سمية بنخلدون رحمها الله).
ولا تحسبن، سيدي عبد اللطيف، أن اللجوء إلى القضاء واستصدار أحكام سيرهب الناس، بل إن العكس هو ما سيحصل لا قدر الله، إن التمادي في قمع الرأي سيساهم لا محالة في سيادة خطاب التطرف والتوحش، ويزيد في اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع، ولا يمكن القضاء على التطرف في زمن الانترنيت، أو في زمن الدولة الافتراضية.
أتمنى صادقا السيد الوزير عبد اللطيف وهبي أن تعفو وتسامح كما عهدي بك، وحينها ستكتب كبيرا عندي في القلب والعينين، كما ستكبر في قلوب وعيون المغاربة جميعهم، وذلك لمصلحة الوطن، فالعفو والتسامح والمرحمة هي القيم الجامعة عند المغاربة، بل هي فلسلفة يقوم عليها الاجتماع البشري بشكل عام. والــــــسلام.
تعليقات الزوار ( 0 )