لا يمكن أن نختصر المخاض الذي يعرفه “البام”هذه الأيام باعتباره فقط لحظة تنافس على الزعامة، ولا حتى لحظة تدبير خروجه الثاني برؤية جديدة وربما بوظائف وتموقعات جديدة، فكل ما يجري من ديناميات لحظية ليست في الواقع هي ما سيحسم مستقبل هذا الحزب، ويدفع به في اتجاه تجديد دوره السلطوي أو تحرير ارتباطاته السابقة، فهذه الديناميات التي أخذت طابعا حديا بين توجه محافظ وتوجه آخر يسعى إلى إعادة صياغة هوية الحزب وتموقعاته، إنما تجيب فقط عن سؤال علاقة الحزب بالسلطة، ولا تجيب عن سؤال علاقة السلطة بالحزب، أي أن قصارى ما يقدمه السيد بن شماس وغريمه السيد عبد اللطيف وهبي أنهما يحاولان استشراف متخيل عرض سياسي في صورة تجديد ارتباطه السلطوي أو صياغة حزب جديد، بينما المشكلة في الأصل لا ترتبط بالمستقبل، وإنما ترتبط بالماضي، وتحديدا بلحظة التأسيس، ورهانات المؤسسين الفعليين والمؤسسين المشاركين، فلحظة التأسيس، ارتبطت برهانات سياسية هي التي كان لها الدور الحاسم في صياغة الهوية، وتحديد المكونات، والتركيبة الاجتماعية للحزب، فضلا عن أنماط العلاقات السائدة، والتموقع من السلطة والنخب الديمقراطية.
فالذين التحقوا بهذا الحزب، وأثتوا قياداته العليا والوسيطة، ويصنعون اليوم حاضره، ويشكلون تركيبته السوسيولوجية، هم الصورة المطابقة للحزب في الواقع، ولا يمكن صناعة الحزب أو إعادة إخراجه بتجاوز لهذه الصورة، ومن ثمة فسؤال صياغة هوية جديدة، أو بناء تموقع جديد اتجاه السلطة أو اتجاه النخب، هو مجرد ترف فكري لا غير، وهو في الحقيقة خطاب للسلطة أكثر منه خطاب للداخل الحزبي.
لنحدد الإشكال بكل دقة، ف”البام” اليوم يقف أمام معضلتين، الأولى مرتبطة بالدور المجتمعي أي بالعرض السياسي الذي يمكن أن يكون ذا مصداقية لدى المجتمع، والثانية مرتبطة بالسلطة، أي العرض السياسي الذي يجعل السلطة قادرة على إعادة تقييم موقفها اتجاه دور مستقبلي له بعد نكبته في انتخابات 2016 وسقوط قيادته.
فّاذا كان البعض يتصور بسذاجة بأنه بالإمكان تجديد هذا الحزب وإعادة صياغة رهانات جديدة له، فإنه في الحقيقة لا ينظر إلا لنصف الكأس، أي الدور المفترض للحزب في حقل سياسي يسوده كثير من الشك والريبة منه، بينما يغفل النصف الثاني، والمتمثل في إرادة السلطة، ونواياها اتجاه هذا الفاعل السياسي الذي صنعته بعينها وتكتيكاتها.
وحتى تستبين الصورة، فالذين ينظرون للمشهد من جانب واحد، ويصدقون إمكان أن ينصلح “البام” ويصير حزبا مجتمعيا، لا ينتهبون إلى أن الجزء الأكبر من التركيبة السوسويولوجية لهذا الحزب، إنما قدمت إليه من غير هذه البوابة، وأن ما يربطها به، هو قربه من السلطة ومساحة المواقع والامتيازات التي يوفرها هذا القرب، ومن ثمة، فأي مسعى لإصلاح “البام” يعني التضحية بهذه التركيبة، بما في ذلك بعض مناضلي اليسار الذي أصبحوا من صنف البرجوازية النضالية !
ولذلك ما أميل إليه، أن المهم ليس هو صياغة هوية الحزب وتموقعاته الجديدة والإعلان الطموح عن نوايا تحريره من السلطة وتحريره من مقولة الصراع مع الإسلام السياسي، فهذه المقولات، ليست أكثر من محاولة بناء الصورة التي تحطمت بفضل أخطاء القيادة ومحاولة إقناع السلطة بإمكانية لعب نفس الدور، ولكن بتكتيكات جديدة، في حين أن المشكلة في الواقع، هي ماذا تريد السلطة من هذا الحزب؟
الرهان على نفس أدواره بنفس خطاباته السابقة، هو تكرار للتجربة الخطأ، ومن العبث تصور إمكان الوصول لنتائج مغايرة باتباع نفس الطرق السابقة، والرهان على الاحتفاظ به للقيام بنفس الدور برهانات وتموقعات جديدة، يخلق نوعا من الالتباس الذي سيكون في المحصلة مربكا للتكتيكات السلطوية، إذ غاية ما يؤول إليه هذا الخطاب من رهان سياسي في المستقبل هو ترتيب تحالف المستحيل، بين الإسلاميين وبين “البام”، تلك الصيغة التي ظهرت نواياها بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 2016.
لكن هذا الرهان على فرض إمكانه وبراغماتيته، فهو خيار ليس بالسهل، لأنه لا يحتاج فقط إلى إعادة ترميم البنية السوسيولوجية للحزب، ولكن يحتاج إلى إعادة صياغة عقل السلطة برمته، إذ لم يثبت في تاريخ السياسة في المغرب أن وضعت السلطة بيضها في سلة حزب، يجعل من شرط إعادة تجديد عرضه السياسي التحرر منها ولو كانت على مستوى التكتيتكات.
تقديري الاستشرافي أن “البام” سيعرف مصيرا شبيها بالأحزاب الإدارية التي بقيت محتفظة بدورها، ولكن فقط في تأمين ألا تؤول الأغلبيات إلى النخب الديمقراطية، وأن تكون آلية مكملة من آليات التوازن السياسي.
تعليقات الزوار ( 0 )