إن القراءة السوسيولوجية لم تكن وليدة لحظة يومية، بل هي نتاج لسيرورة متواصلة مع القراءات والتأويلات الراسخة، كما هو الشأن مع الميادين النقدية المتنوعة، ومع فضاءات علم الاجتماع الأدبي والسياسي.
فالمقاربة السوسيولوجية تربط بين المسرح من جهة والوسط الاجتماعي من جهة ثانية، وهذه المقاربة لا تخلو من التأثيرات الفلسفية والفكرية البارزة في أوربا. وهذا التأثير جعل البعد المحاكاتي يتحول حسب طبيعة الموضوع والموقف والمنهج[1]. هذه المفاهيم قد تكون إبداعا وخلقا أكثر منها محاكاة، لأنها تجمع بين عناصر عدة لتنير المختفي ولتزيل الحجب عن الظاهر، بيد أن هذا البعد المقاربتي لم يتوقف على بناء تصور نظري عان يعالج قضايا الإبداع في علاقته بالمجتمع من وجهة نظر سوسيولوجية، لأنه بقي سجين المرحلة الذوقية، تتحكم فيه الموهبة والذات القارئة، إيمانا منه بأن الإبداع مفارقات (nuances) وأن الإبداع يظل دوما غير محمول إلى معرفة موضوعية مبينة على مقاييس محددة سلفا.
لقد أصبحت المفاهيم الموظفة من طرف حسن العلوي، تختلف حسب المدارس والمناهج والمواقع والأحداث، سواء في بعدها العربي: أو في بعدها الغربي، حيث يقول “جان بابتست فيكو”: “إن المجتمع لا يقدم ببساطة مسرحيات، وأشعارا وروايات، لكنه ينمي أدبا وأدباء يستخلصون أعمالهم ومهاراتهم الفنية ونظرياتهم منه”[2]. فالقراءة عنده إذن مدعاة إلى تحديد العلاقات بين النصوص الدرامية والوسط الاجتماعي وكذا التأثيرات والتعالقات التي يطبعها الوسط بكل أجهزته ومؤسساته، لأن الخطاب السوسيولوجي هو بحث عن روح تملك الإخراج والأشياء ومعانيها، وكذا البنية اللغوية لتلك الحقيقة، حيث تحول المشروع المخرج حسن العلوي إلى رؤية علمية بلغة لطيفة تنساب موسيقاه بأنغام هادئة، وهذا ما نجده عنده في نصوصه الممسرحة، حيث ألحت دعوته في دراسة نصوص الأدباء وفق حساسيتهم وأخلاقهم وعقليتهم وحياتهم. يقول “محمد منذور” في هذا الصدد: “لقد كان يتتبع حياة الكتاب الشخصية والعائلية، وتلاميذهم وأصدقائهم ويحاول الكشف عن أذواقهم وعاداتهم وآرائهم الشخصية، وهكذا جاء نقده تصويرا لشخصيات الكتاب، ثم يقسم الكتاب حسب الوشائج التي يمكن أن تربط بينهم إلى طوائف كما يفعل علماء النبات والحيوان عندما يحددون الفصائل”[3].
إن المخرج حسن العلوي المراني منح للظاهرة التي نسعى لتشخيصها هي ظاهرة المماثلة المفهومية التي تعمل على تأسيس وعي نقدي لا يخلط الأوراق، ويصالح بينها لإنتاج قواعد يكون ثمرها هو الكاتب ومؤلفاته، كما عند “تين هيبوليت H. T’aime”. فهذه الشخصية لا تريد الدفاع عن عذرية المؤلف أو نقائها الأصلي، بل تعتمد سلسلة من العلل التي تتحكم في كل الوقائع التي تتبع أثرها الذي ينتهي عند مبادئ عامة. يقول “السيد يسين”: “وقد أدى اعتماد “تين” اعتمادا جوهريا على مفاهيم العلوم الطبيعية والحتمية الصارمة التي نتجت عن ذلك، إلى جهود محاولته وتزمتها إلى غير عادي، فالإنسان عنده كما ذكر في أحد كتبه يمكن اعتباره حيوانا من نوع أسمى، ينتج الفلسفات والأشعار، تماما كما تفرز دودة القز خيوط الحرير”[4]. فحسن العلوي يهدف إلى التأكيد على التماسك النظري الذي يولد الفهم القابل للتأثير المرغوب فيه من وراء بناء أنساق فكرية تتوخى أن لا تقحم النظريات العلمية على الأدب كما عند “برونتيير”. يقول صاحب “نظرية الأدب”: “فمن المتفق عليه أن “برونتير” ألحق الأذى بعلم الأنواع، عن طريق نظريته البيولوجية الزائفة في التطور، فتوصل إلى نتائج معينة كقوله في تاريخ الأدب الفرنسي، إن خطر الوعاظ في القرن السابع عشر تحولت بعد فترة انقطاع إلى الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر”[5]. فنسج حسن العلوي هذه المفاهيم بواسطة استدلال نقدي يستغل باستمرار وقائع الأحداث وشواهد الممارسة، ليؤلف خطابا متماسكا، وليقدم تأملات عميقة، يتأرجح مسعاها اتجاه الرغبة في إحداث قراءة سوسيولوجية تغذي أكثر من غيرها من الاهتمامات الفلسفية مجالا المسرح والأدب. لذا تبحث عن فكر وعن فلسفة للفكر، لتنوير المشروع السوسيولوجي وإحداث قطيعة مع نمطين المنبثقين من النصوص الدرامية الممسرحة:
1– النمط العملي التجريبي الموجود في المسرحيات البغداديات، تمارين في التسامح – رحلة الخلاص.
2– النمط التجريبي المرتبط بالحديقة، وأساطير معاصرة، والكود، والبلوكاج.
وعبر هذين البعدين عمل حسن على بناء رؤية جمالية.
لذا نتساءل، هل هذه القراءة تكسير للسائد؟ أم تتطلب إيجاد شرط للحرية النقدية والفكرية من أجل الدخول بالفكر في اللامفكر فيه، أي إيجاد ثنائية الشكل والمضمون. إن الاقتراب من الأدبية والجمالية لا يتم إلا ضمن سياق يلتحم بفروقات مباشرة التي يكون فيها الإنسان هو الفكر والمفكر، وهو الهدف في ذاته، لأن قيمة الإنسان لا تأتي من إمكانية القيام بتأملات محضة، بل قيمته تأتي من تصديه للتجربة وللقصدية، ومفهوميته تساعد على تحطيم السائد بفكر مادي وتاريخي يكون الدياليكتيك هو البعد الإبستمولوجي المعاصر، باعتباره شعارا رفعه المخرج في مسرحه وكصيرورة داخل الحظيرة الإبداعية، في إطار مناخ مركب يعكس متغيرات الصراع الداخلي على السلطة المعرفية والصراع الخارجي المرتبط بتقسيم هذا المنهج إلى معسكرات فكرية، مما يفرز إيديولوجية متناقضة منها، السوسيولوجيا التجريبية والجدلية والبنيوية التكوينية.
فبالنسبة للتجريبية عنده، ليست معالجة هذا الاتجاه إبهارا بلاغيا، فبالقراءة تواجه الإشكالات التي ترصد الحمولة الفكرية، وكذا الدلالات التي تحرك هذا الاتجاه في علاقته بالمتغير، لأنه البعد الذي يتجزأ إلى قسمين:
1– قسم سوسيولوجي ذي النفحة التجريبية التمسرحية كما في المسرحيات المذكورة.
2– قسم مرتبط بالنقد وبالبعد الإستيتيقي كما في أساطير معاصرة، والكود، والزماكرية.
إن المخرج حسن العلوي يعمل دوما على إظهار البراعة النصية على خشبة المسرح، لتكون عبارة عن أسئلة أنطولوجية وجمالية، مما سيمنح له أن ينتج خطابا نقديا رؤية تصاحب التحولات الدرامية والفنية والفلسفية، تجعل المتلقي يعيد النظر في الأنساق الدلالية والعلمية. يقول “بيير زيما”: “له طابع الفكر العلموي، وهو قريب من المنطق الفلسفي الوبيري، ولعل تطبيق هذا المنطق الوبيري هو الذي أدى إلى التمييز بين أحكام الفعل وأحكام القيمة، فالأحكام الأخيرة تندرج ضمن الإستطيقا أو النقد الأدبي، ولا يمكن أن تكون مقولة في أعمال سوسيولوجية الأدب أو الفن، إن “فوكن Fuyons” و”سيلبرمان” يتفقان على إبعاد كل المقاييس الجمالية من ميدان أبحاثهما، وعلى حصر التحليل السوسيولوجي وتطبيقه على الفعل الاجتماعي الذي يستدعيه الفن والأدب”[6].
فحسن العلوي المراني عمل على مسرحة الوضع الاجتماعي (برشيد) والوضع الأسطوري (الكغاط)، والوضع الثقافي (المسرح الفردي)وحميد الطالبي (الحداثة والمعاصرة)، من أجل تعميق الاتجاه الوجداني.
فالتأكيد على الفعل الاجتماعي الذي يولده العمل هو محاولة تعدد القراءات التي تتعدد فيه التيارات والتجارب. وكلما اقتربنا من هذا الطرح الزيمي (بيير زيما) إلا وصار العمل الأدبي ظاهرة اجتماعية وليس شيئا محايدا، هو خطاب ذو طابع إيديولوجي ينبثق من بعدين:
1– علاقة الإنتاج الدرامي بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
2– قوى الإنتاج المستخلصة من الاتجاهات: الاحتفالية – والأساطير، والحداثة، والتجريب.
ومن ثم يميز هذا الاتجاه بين البعد الأدبي والبعد السوسيولوجي، وعبر هذين البعدين يدعو أصحابه إلى اكتشاف مواد جديدة لخلق عوالم سحرية، ولتحقيق أيضا ثورة لبناء الغريب والمختفي، شأنه في ذلك هو جعل النصوص الأدبية وثائق لفهم النظام الاجتماعي السائد حسب تعبير “زيما”، دون البحث عن الكتابة أو عن ماهية النقد. وتأسيسا على ذلك، فإن الجهود التي قام بها هذا الاتجاه حفزت العديد من الممارسين إلى إثارة الجدل بين مختلف الاختصاصات والتشكيلات الاجتماعية، قصد توليد تعريفات متنوعة ومفاهيم متباينة للقراءة وللتحليل. ومع رواج وتداول هذا الاهتمام بالعمل الأدبي كوثيقة اجتماعية، بدأ اتجاه آخر يؤسسه “روبيرت إسكاربيت”، حيث ينزاح عن الدلالة السابقة التي تتجذر في الكتابات النظرية. لذى عمل المخرج على تفكيك الواقع النصي برؤية مفتوحة، قابلة أن تستوعب كل الشروط الاجتماعية والإنسانية، لذا يرسم لنا عوالم ممكنة بلغة شاعرية، وبتراسل الحواس لكي نرى أن هذا الاتجاه يعطي الأهمية للمضامين، حيث صارت مهماته تتمحور حول شكل إنتاج وتوزيعه واستهلاكه، ومشكلة الزمن ومشكلة التموين ومهمة الأدباء، ثم ينتقل إلى مشكلة النشر وتوزيعه، متسائلا عن علاقة الناشر بالإبداع ودوائر النشر، ويميز كذلك بين العمل والجمهور، وبين المثقفين والمتأدبين، ويعرض لدلالة نجاح العمل، ويبحث عن دوافع استهلاك الأدب، والظروف التي تحيط بمطالعة الأعمال الأدبية.
فرغم هذا التحليل الشمولي، فإن هذا الاتجاه ليقصي المقاييس الجمالية والفنية على حساب الظواهر الاجتماعية. لأن السوسيولوجيا الجدلية (البنيوية التكوينية عملت على العمل الدرامي بكل تلويناته وتنويعاته. يقول “حسن المنيعي”: “إن الحقيقة في سوسيولوجيا الأدب الجدلية، وتأسيسها كعلم موضوعي، يبدو أنها مرتبطة بعمل “لوكاتش”، لأن مزيته الأساسية هي كونه قد سمح بربط سوسيولوجية الأدب بالجمالية الكلاسيكية والجدلية ل “كانط Kan” و”هيجل Hégémonie” و”ماركس Marx”، ذلك أن الفكرة الأساسية لهذه الجمالية هي أن الأثر الفني الذي يشكل عالما خياليا غير تطوري، هو في الوقت نفسه شديد الثراء والوحدة”[7]. هذا الرأي يؤطر جملة من أهم القضايا التي تكشف عن استراتيجيات المغايرة، سواء عند “لوكاتش” أو عند “غولدمان” عند “أدورنو” و”زارفا” و”بيير زيما”… وغيرهم من المبدعين فهؤلاء يدعون إلى خلق أحاسيس ضد كثير من الظواهر الخاطئة والسيئة، ومن ذلك فإنه يتجاوز المحاكاة السخيفة، والانعكاس البسيط، والواقعية الفجة، قصد بناء رؤية نقدية ذات معنى جمالي، حيث ينعكس فيه الواقع الاجتماعي، ولا يمثل البنى الإيديولوجية، وإنما يقوم بوظيفة إيحائية ونقدية، وحيث أن الفهم الجدلي للعمل الدرامي يتوخى من المخرج تحديد العلاقة المبنينة من حيث دوره الحيوي في إعادة توليد الواقع وتشكيل أفقه الجديد، يقول “لوسيان غولدمان”: “وإذا كانت كل سوسيولوجيا للفكر تقبل بوجود تأثير للحياة الاجتماعية على الإبداع الأدبي، فبالنسبة للمادية الجدلية، فإنها تعتبر ذلك مسلمة أساسية مع إلحاحها بصفة خاصة على أهمية العوامل الاقتصادية والعلاقة بين الطبقات الاجتماعية”[8].
إن “لوكاتش” و”غولدمان” يربطان سوسيولوجية الأدب بالتطورات الجمالية المشتركة بين تيمة الوعي الجمعي ومضمونه، قصد تجسيد علاقة مبنية بين الوعي الجمعي والوعي الجمالي والشكلي. هكذا أصبح الانعكاس ينضاف بأسئلته وبقراءاته للعمل الدرامي إلى ما تم إنجازه في الدراسات السوسيولوجية الأدبية، وبالتالي أن هذا المجال الجدلي هو استنطاق لكل مكونات البنى الذهنية والبنى التشكيلية، التي ساهمت في تكون رؤى ومجالات التعبير عن وجود هذه القراءة، كشكل حضاري غير مندمج مع المضامين، بل منخرط في سيرورة وجود النقد وكيفية اشتغاله في النصوص الإبداعية الممسرحة.
تهدف السوسيولوجيا الجدلية أو البنيوية التكوينية عند “غولدمان” في تعاملها مع المتن الأدبي إلى تأسيس معطيات سابقة الذكر، من أجل تأسيس مستويين مختلفين من حيث الخلفية الفلسفية والمرجعية:
– المستوى الأول: أن الفهم يشغل هذا المفهوم كسلطة رمزية باعتباره أداة لإعادة إنتاج المختفي، وبناء دالا وظيفيا.
– المستوى الثاني: أن التفسير، حيث يعمل الناقد على الربط الوظيفي بين الشكل البنائي وبين المجتمع باعتباره كلية شاملة وجامعة.
إن الحضور لهذه المفاهيم ساهم في إغناء الحقل الثقافي العربي، وولد أيضا رؤية جديدة للحياة وللمجتمع ومن بين هؤلاء الذين ساهموا في تأطير هذا النهج، نجد “لوكاتش” و”لوسيان غولدمان”.
لقد أحدثت البنيوية أبعادا جديدة، جعلت من المسرح نشاطا غنيا ومنفتحا، يفكر بذاته وبما حوله في نفس الآن، دون أن يتموقع في خضم المد التاريخي والاجتماعي، بقدر ما يقتصر على النص ولا شيء غير العرض لأنها ركزت البنيوية على عالم الركح كحقيقة يمكن للإنسان إدراكها، لذلك توجهت توجها شموليا في دمج الإنسان والعالم والوجود، وآخذ البعد الكلي كصبغة شرعية ونظاما متكاملا. لأن الإدراك لا ينفي عزله عما يتم إدراكه، بل هناك علاقة تلازمية بين مادة الإدراك والإدراك ذاته والذات المدركة والوسيط الذي يهيئ هذه العملية. فتجربة حسن العلوي كما قلت تسعى إلى بناء نظام داخلي للأعمال الفردية. من هنا نتساءل: هل البنيوية التكوينية منبع أم محتوى؟ وهل هي طريقة الصياغة التمسرحية أم نظرية؟ وهل هي صيحة معرفية أم تمركزا إيديولوجي؟ وهل استطاع حسن العلوي أن يؤسس لنفسه منهجا؟.
فإذا كانت بعض التيارات قد أمدتنا بمفاهيم مثل: المعنى والحقيقة في الظاهراتية والتأويلية، والتاريخ والجدل والإيديولوجية والانعكاس والدياليكتيك والمادية في الماركسية، والذات والالتزام في الوجودية، والعلم وتاريخ العلم في الإبستمولوجيا، والأنا والهو والأنا العلى والتقمص والانفصام والهستيريا والوهم والأحلام في علم النفس. فإن حسن العلوي أضفى على هذه التيارات طابعا تجريبيا يسعى إلى فتح الطريق إلى طرح وتفسير القضايا، فهي “طريقة بدأت مع لسانيات ذي سوسير”[9]، ومحاولة جديدة لفهم النقد والفكر والمجتمع على ضوء العلوم الإنسانية، ويظهر أن الفهم هو تعبير عن الحقيقة الموجهة من طرف الممارسة الإنسانية. لذا يعتبر تطور البنيوية مرتبطا بتطور المناهج العلمية والنظريات. يقول “فريديريك معتوق” في هذا الصدد: “إنها النظرية متكاملة، وبالتالي مغلقة، أما المنهج فهو في حالة بحث عن العناصر الثابتة، مما يجعله في حالة انفتاح. إن المنهج على الرغم من ارتباطه الأكبر بإطار نظري معين … يتمتع بانفتاح طبيعي يمسح له بالاتسام بطابع الاستقلالية النسبية عن النظرية”[10].
فالعلاقة بين النظرية والمنهج مبنية على الاختلاف المعرفي، لأن كل منهج تجريبي هو منهج ظرفي مشروط بجملة من التطورات والحاجات الاجتماعية. يقول “ليفي ستراوس”: “إن البنيوية تريد أن تكون منهجا علميا دقيقا يماثل المناهج المتبعة في العلوم الدقيقة، يدرس العلاقات القائمة بين عناصر أجزاء كل بنية، وذلك بتحليل هذه الأخيرة والكشف عن ارتباطاتها الموضوعية، ثم إعادة تركيبها في منظومة كلية جديدة أسمى من بنياتها الأولى، تتيح لنا تبين بنيتها الخفية”[11].
فمتون حسن العلوي المتمدن المنهج البنيوي الذي ركز على نظرية المجموعات، من أجل إبراز البنية الخفية للموضوع المدروس، أي اكتشاف العلاقات بين العناصر المكونة لهذه الظواهر. ومن أهم مبادئ البنيوية، التزامن والتعاقب، فالأول يهتم بأصل الأنساق (Genèse des systèmes)، في حين أن الثاني يهتم بالمنطق الداخلي للشيء الممسرح La logique interne. فالمخرج إذن نور المفاهيم، وأرسى قواعد التجريب لتغيير المعطيات القائمة على البحث في أصل الأشياء ومكوناتها. وكذا البحث في بنية الشيء، فهما إذن عنصران متلازمان حسب تعبير “جاكبسون”، هذا البعد التدرجي يهدف إلى الوصول إلى البنية بكل عناصرها وعلاقتها. فهي بمثابة قطيعة إبستمولوجية من أجل التحرر من الأشكال السائدة قصد ممارسة حفريات في المعرفة عبر اللاواعي من أجل إنقاذ الإنسان واكتشافه داخل الإنسان. وضمن إطار القطيعة كما قلت، يسعى إلى تأسيس فلسفة جديدة تتجاوز الاختلاف إلى مفهوم المغايرة، كي يبقى خارج الحدود الاصطلاحية (أدب – فلسفة). وهنا أتساءل: أي انقطاع تاريخي المنادى به في المسرح عند المخرج؟ وأي قطيعة ابستمولوجية؟ وهل تجربته قادرة على معرفة الفكر الإنساني؟ وهل هي محايدة تاريخيا واجتماعيا؟ أم هي جدلية تربط بين اللغة الإبداعية والمرجع؟
أسئلة كثيرة ومتنوعة، واختلاف منهجي جعل هذه الدعوة الكامنة إلى صيحات هذا الشكل الجديد من المعرفة، فهي محاولة اجتثات جذور كل فكر سابق من أجل إنتاج أفكار قادرة على احتواء الأسئلة المطروحة والمعقدة التي تعانيها المناهج حتى وقتنا. فتجربة حسن تعني نظام الأنظمة، وإلحاق المسرح بالبنيوية كمحاولة إنقاذه من نسبيته، ومن ضيق أفقه، وجعله مفتوحا وقابلا للتأويل ودون الذوبان في الآخر.
ويرى “جان ماري أوزياس” أن مفهوم البنيوية مستعار من الفعل اللاتيني (construire) أي بنى، أما قاموس “روبير بياجي”، فيضع تحديدا للبنية على الشكل التالي:
1– طريقة ترتيب (Ordre) وتشكيل (Constitution) ونسيج (Contexture) وتنفيذ (Disposition) وصورة (Tome) لبناء صرح تجريبي أصيل، لأن هذه المفاهيم رغم الصفات المشتركة فيما بينها، فإن بعدها المرجعي يختلف حسب سنة التوظيف. إذن فالبنيوية عنده هي طريقة ومنهجية متنوعة في اتجاهاتها، تتأسس على تفاعل مجموعة من العناصر والعلائق في صيغتها الرياضية والفيزيائية، حيث تشكل نسفا وبنية مغلقة. فهي رفض لكل المؤسسة وللإيديولوجيا، وهي فلسفة دون أن تنتمي إلى مدرسة أو منهج أو فكر متنوع الاستراتيجيات، ورفض لكل تحديد منهجي. فحسن العلوي المراني ور كل النصوص برؤية جمالية وفنية، استوعبت كل الثنائيات الضدية، وذلك من أجل مسرحة الواقع لكي يكون سؤالا أمام المتلقي.
إن مشروع حسن العلوي هو مشروع لم يفقد القدرة على التواصل (إنسانيا وواقعيا)، حيث أصبح الإنسان مقولة عامة لا طبقية. هذه الكلمة أخذت أبعادا كثيرة في النقد الحديث، مما يدعو أحيانا إلى اللبس والغموض، لذا ينبغي إحالة هذه الكلمة إلى المذهب الفكري والنقدي الذي يستعملها، فتميز بين مذهبين هما: المذهب الشكلي والمذهب الإيديولوجي، فالأول يركز على البنية الممسرحة من حيث هي ساكنة وغير متحركة في الزمان والمكان، وكأنها معزولة عن السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه، ويمثل هذا الاتجاه كل من “بارت” و”جاك دريدا” و”ليفي ستراوس”. أما الاتجاه الإيديولوجي، فلا يفهم بحد ذاته خارج حدود الزمان والمكان، وإنما من خلال تطوره وتحركه وتفاعله وتنافره داخل وضع محدد زمانيا ومكانيا، ويمثل هذا الاتجاه كل من “لوكاتش” و”غولدمان”.
والبنيوية التوليدية التي لا تحاصر نفسها في الذات النفسية، بل تجعل هذه الذات الممسرحة تنطوي على خاصية تاريخية لذات جماعية. يقول “جابر عصفور”: “ومادامت البنيوية التوليدية تؤكد الأهمية الأساسية للأبنية في فهم التاريخ، فإنها لابد أن تتولى الدفاع الحار عن وجود الذات الفردية، غير منفصلة عن وجود الذات المجاوزة للفرد، على أساس أن هذه الأخيرة هي العنصر الفعال في البنية وفي التفاعل الذي يحدد وظيفتها، ومن هنا فإن البنيوية التوليدية كمنهج، تؤكد أن البنية ليست كيانا منغلقا يسجن الإنسان، أو يستبعده من التاريخ ليحل محله شكلانية مطلقة بلا مضمون”[12]. والبنيوية التكوينية تنطلق من الذات نحو الواقع الاجتماعي، لأن الحياة ممارسة وتأصيل داخل كلية سوسيوتاريخية. فالإبداع قائم على صراع الأضداد، يتولد عنها تمركز الصراع كأساس لها، لا تلبث أن تتعداه. لأن التصور المراني ليس عقيدة، وإنما هو فكر، وكل فكر تاريخي هو تجاوز لأنماط قديمة وجواب لأسئلة جديدة ضمن واقع متطور. لكن هذا التجاوز والتخطي لا يغفل قيمة الفكر الجدلي، بل يكسبه الصلاحية والمصداقية والثورة. تجعل هذا الصلاحية المبدع يتسم بالموضوعيات وبالنزاهة الفكرية في معالجة القضايا الإبداعية، فحسن العلوي مقتنع تماما بأنه يستحيل التوصل إلى التحليل الموضوعي خارج الواقع، لأن سؤال البنيوية التكوينية ليس مجرد سؤال بسيط، بل هو سؤال الأسئلة الذي يطرحه النص على نفسه من خلال الواقع ذاته، لأن حسن العلوي يرى أن تحديد قدراتها على التحليل الكلي هو جعل مشاكل واقعها في تعارضها. لتقود التفكير المسرحي إلى أفق جديد، وكإنتاج تجريبي وتكوين جمالي حسب تداعيات الفعل الدرامي وتوظيفاته، لأن حسن العلوي جعل الخطاب الممسرح هو مسألة توظيف المفاهيم، إنه هوية خاصة به، كهوية مرتبطة بالتطورات الاجتماعية والدلالية الرمزية. الدلالة ليس لها صبغة فردية، وإنما هي جماعية، لأن الوعي ينبع من معطيات الجماعة، “لأن الوعي الفردي لا ينشئ الإيديولوجية، وإنما تقيم هي فيه فقط، واسكن داخل الطرح الاجتماعي للدلالات الإيديولوجية”[13].
تتحدد الممارسة التمسرحية عنده بموقفها من الوضعية والشكلانية والتحليل النفسي، لأن الممارسة تسقط التصورات القبلية على الطبيعة بغية إدراكها من حيث أنها جوهر، أما العملية التجريبية تجعل الشكل مكتفيا بذاته باعتباره تعبيرا عن الذات الإنسانية، دون الإشارة إلى المضمون، لأن الذات المبدعة بشروطها الإنتاجية، تفجر “عنصر الكبت” كأفق لمعرفة الذات بكل جوانبها من حيث خضوعها لمقتضيات النظرية الدرامية، وهذا ما يميز هذه التجربة هو اندراجها ضمن مشروع كبير هو مشروع التجريب، كنواة في الفلسفة التمسرحية وفي التحليل النفسي، وهي مسلمات تصادر على أنها مسلمات متساوية من حيث قيمة المعالجة، ومن حيث الذات وخارجها ومن حيث هي العنصر المحدد لها تحديدا شاملا. “فكولدمان” يرى أن الذات والعالم، ليسا الأشياء الثابتة والمخترعات الإيقاعية والأدوات البسيطة، بقدر ما هي ذلك الموقف الكلي، لأن المفاهيم ليست بسيطة، بل هي مواقف، أي نمط لعلاقة الإنسان بالعالم.
فحسن العلوي المراني اعتمد في نصوصه الممسرحة على بعدين:
– الفهم: ففهم النص أمر يقتضي مواجهته والارتباط به دون أية إضافة، وهو البنية الدالة للنص المعالج. يقول “كولدمان”: “إن الفهم مسألة تتعلق بالتماسك النصي، ويفترض أن نتناول النص حرفيا، كل النص ولا شيء غير النص، وأن نبحث داخله عن بنية شاملة ذات الدلالة”[14].
فالفهم إذن تركيز ودقة في وصف العلاقات في العمل المدروس مع إبراز الوحدة الدالة في النصوص الممسرحة.
– التفسير: إذا كنا فهمنا النص داخليا، بكل تركيباته ودواله، فإننا سنعمل على ربطه بمحيطه الاجتماعي. يقول “كولدمان”: “أما التفسير، فليس سوى إدراج هذه البنية من حيث هي عنصر مكون ووصفي في بنية شاملة مباشرة، لا يسبرها الباحث مع ذلك بطريقة مفصلة، وإنما بالقدر الضروري لجعل تكوين العمل الذي يدرسه مفهوما”[15].
إن التفسير يراعي الظروف التاريخية والاجتماعية للبنية، قصد معرفة تجربة حسن وتكوينها ووظيفتها، لأن البنية لا تفسر لذاتها وبذاتها، بل يتحتم انفتاحها على المحيط، وهذا ما يفسر عدم اقتصار هذا المنهج على الفرد، بل يتعداه إلى الجماعة. فالسؤال المطروح: كيف يتم ربط النتاج الدرامي بالجماعة؟ وكيف يتعامل المبدع مع هذه الجماعة؟ وكيف يعيد تأسيس رؤية العالم؟
إن النسق الفكري هو وعي يهدف إلى تنظيم العلاقات الإنسانية، التي تسعى إلى بناء رؤية بها، تيسر دراسة الأعمال الكبرى. التي تجذرت مع علم الاجتماع والفكر الجاد والواعي، لأن حسن العلوي يعبر دوما عن ذاته وطبقته التي يجد فيها ذاته الكلية، ويقول “كولدمان”: “إن رؤية العالم بالضبط هي الجمع بين الآمال والمشاعر والأفكار التي تجمع أفراد الجماعة في أغلب الأحيان من طبقة واحدة، وتجعلهم في مقابل جماعة أخرى”[16]. فهذا العرض هو الصياغة الذي يربط المنحى الوظيفي بعمق التجربة لأن الهدف من وراء هذا التحديد، هو تحليل مكونات السيميولوجيا داخل المسرح انطلاقا من تسليط الأضواء على النصوص القرائية والممسرحة، أي مقارنة بين النصوص الأدبية والمسرحية. إذن ما هي التصورات والتمثلات التي تروجها السيميولوجيا حول المسرح؟ وكيف وظفها حسن العلوي؟ وهل هو قادر على فهم آلياتها وفلسفتها؟ وما هي الصور التي يكونها عن العلاقات التي تربطه بالسيميولوجيا وبالمسرح؟ وما هي النماذج التي يرغب الناقد السيميولوجي في تلقينها لنا كمشاهدين؟ وما هي الخلفيات الإبستيمية التي تكون الإطار المرجعي للخطاب السيميولوجي لدى المخرج؟
أسئلة تنقلنا من الكتابة النصية إلى الركح قصد اعتماد السيميولوجيا كتقنية العلامة لتشكيل الخطاب كمنهج في البحث والتأويل، جعله يتأثر بنوع من الخطاب المميز، لأنه القادر على معرفة الأهداف المعرفية والوجدانية التي يتضمنها النص الممسرح على المستوى الضمني غير المعلن عنه والذي يتم التوصل إليه من خلال تأويل العلامة قصد إبراز التصورات والعلاقات الناظمة لتحديد المنظومة المرجعية التي تؤطره. ولقد تمت الاستعانة بشبكة اللسانيات والسيميولوجيا لتحليل صورة المسرح المغربي، وكذا معرفة الحاجة إلى مقاومة تغيرات العلامة الممسرحة والموجهة إلى المحيط الإنساني والاجتماعي، لذا فالنصوص المسرحية المحللة بأدوات سيميائية تركز أساسا على حاجيات الذات الواقعية، لأن المضامين المستخلصة هي أرضية تلاحظ تغيرات جديدة وتنقلات عبر وسائل معينة، حيث أن المعارف المقدمة من طرف حسن العلوي للمتفرج تأتي على شكل حقائق مطلقة غير قابلة للتحويل أو التشكيك. يقول “بيرنار توزان”: “إن السيميولوجيا تهتم بالعلاقة بين الدال والمدلول، والسيميوطيقا لا تهتم إلا بالمدلولات أو بالعلامات اللغوية، أو بجميع الأشكال الممكنة للتواصل”[17].
فحسن استنطق النصوص عبر لغة تمسرحية لجعل هذه المعارف الملقنة على شكل حقائق مطلقة يشارك فيها الدارس في بلورتها، مادامت تبرز لنا التمايز بين السيميولوجيا والسيميوطيقا هذه الأخيرة رغم تقاربها التاريخي مع السيميولوجيا فإنها تقوم على المنسق والظاهراتية والرياضيات، وهي أيضا “نظرية الطبيعة الجوهرية للسيميوزيسات (Semiosis) الممكنة، ولتنوعاتها الجوهرية والأساسية”[18]. هذا التعريف المقدم من طرف المخرج يتم بشكل يطغى عليه التعميم دون التدقيق في جزئيات الأشياء وتفاصيلها وفي الظواهر الموصوفة، أو في تلك المرجعيات التي هي موضوع البحث المعالج، لأنها ترتبط بالتجريب وبالحداثة أكثر ما ترتبط باللغة كمرجع اجتماعي كما يقول “بيير غيرو”[19]. لكن يبقى هذا التحليل حول ماهية هذه التجربة جوهريا وأساسا لمنح شرعية البحث العلمي لما سيأتي بعد هذه التعريفات المذكورة، فتفكيكه للعناصر وبنيات النصوص الممسرحة هي إعادة ترتيبها داخل نسق مفتوح، قابل لأن تظهر في أشكال متنوعة وفي تأويلات لإضفاء طابع الجمالية والفنية المسرحية على هذا التعامل الآلي الذي يحاول عن طريقه توريطنا فيه، دون مراعاة الوجه المختفي لوظيفة هذا المسرح، على اعتبار أنه قادر على تفكيك أتربة النص لمعرفة ذبالها القادر على إعطاء خصوبة جديدة. وهنا تكمن صعوبة التعامل بين مفهومين: مفهوم يخضع لصالح العقل والمنطق والتأويل، ومفهوم يخضع بدوره لامتداد التجربة الدرامية على مستوى الزمكان وللذات المعبرة داخل فضاء الخشبة وخارجه، وعبر امتدادات (النص المسرحي) في تشكلن العالم الخارجي في صورة مغايرة، بالإضافة إلى المكملات أو التوابع المسرحية، وكذا إلى الكلمة وحرارة الجسد والإشارات والحركات.
فالمخرج مسرح العالم الممكن من أجل ربط بين الشكل والمضمون برابط عضوي لأن هذه المفاهيم لا يتم بناؤها من لدن المؤلف وحده، بل تعطى جاهزة من طرف المخرج، لأن الأخير هو الذي يلفت انتباه الممثل إلى جواهر وإلى مكونات العرض المسرحي، وهو الذي يوجه انتباه المؤلف إلى جمال الطبيعة المسرحية، وإلى الأخطار التي تهدده بفل التأويلات والاجتهادات واللعب. ويبقى عالم حسن العلوي عالما مرتبطا بالمزيد من الجهد لمعرفة أسراره (النص والعرض) لكي يعرف إن هو أراد أن يحقق آماله، لأجل بناء القيم التي يروجها المؤلف لتكتسي طابعا لذويا، حيث تستند هذه التأويلات والمعارف التي تعتبر أساس المحك. فقيمة العمل المسرحي تبدو واضحة المعالم، إذ تستند إلى معايير تقسيم الرؤى والمعنى، لتبرز قيمة العمل حسب الحقب التاريخية. ففي الوقت الذي ينظر إلى العروض كعمل إبداعي، بمكن أن يستفيد منه المتلقي، حيث نجدها في التأويلات المضاعفة كشيء غير معطى يساهم فيها المبدع والمخرج والممثل في بنائه، لأن التحليل السيميولوجي يبقى ذا طبيعة ازدواجية بين صورة المؤلف السلبية كما تقدمها النصوص القرائية، وبين صورة المخرج والمتلقي الدينامية كما تقترحها النصوص كأشكال علاماتية، في الوقت الذي يقدم فيه العرض إغراء (Séduction) وافتتانا بنمطه في التقديم والتفكير والإحساس بالنص للنصوص المعروضة.
إن علاقة المخرج بالنص المسرحي ذات طبيعة واقعية، وذات منظور دفاعي تبريري (Apologétique)، لأنها ذات طبيعة علاماتية، تعامل الذات الممسرحة كشكل من أشكال العناصر المكملة بالنسبة للعمل المدروس، وكوضعية علمية تقتصر على ذكر الجانب الشكلي بكل تمظهرات العلامة المسرحية، بل التوغل في جماليتها وماهيتها التي سوف تحيلنا على المعنى الساكن وراء العلاقة المسرحية التي تبنى للعمل المسرحي، والذي نتوخى منه الفهم الحقيقي للمسرح بكل آلياته وتشكيلاته المسترسلة في قالب متكامل جعل من الكتابة والأداء والتمثيل والفرجة والتلقي. إن من إواليات النقد السيميولوجي ومحاولة لإبراز الخصائص المنهجية التي تستدعي الضرورة من أجل حفر معرفي للفعل المسرحي، ومن أجل تناول التراث المسرحي تناولا يكون فيه البعد الاستيعابي لكل الأجناس الأدبية والتاريخية هو المسرح نفسه، فهو نص لغوي وخطاب (كلامي) ولفظي أو صامت، يتحدد في شكل الأيقونات الموظفة فيه، وهو إشارات التي تتحول إلى جمالية إبداعية وإلى ذاتية تختزل الذاكرة والتاريخ في شكل إيديولوجية. تتحدث فيه كعالم التواصل المسرحي، ينطلق منها المبدع مرورا بالمخرج ومنتهيا بالمتلقي. ويقول “بيير غيرو”: “تكمن وظيفة العلاقة في تأمينها الاتصال بين الأفكار، عبر وسيلة الرسائل، مما يحتم وجود أداة، شيء يتكلم عليه، وعلامات ونظام وإشارات، كما يتوجب أن يكون ثمة وسيلة نقل تصل بين المرسل والمرسل إليه”[20]. وتصور “حسن العلوي” ينبع أساسا من منطلقات التفكير الفلسفي ذاته، حيث يؤسس مفهوما واعيا يحدد به تميزات كيانية وشخصية، وتفردات وجودية في استقلال تام متأصل يضمن استمراريتها عبر الزمن السردي، وعبر التاريخ الجدلي، وإن كانت هذه العلامة شكلا منفصلا ونوعا متصلا، تحدد معالم المسرح، وتسمح لنا بمعرفته، وإلا فما جدوى هذا النوع من الاختزال الاصطلاحي والوظيفي. لأن منطلقات التفكير الحواري يشكل للعلامة البصرية منظومة بيداغوجية تطرح نفسها في شكل مستويات ثلاث: الوجودي والإبستيمي والتلقي، مفعمة بأسئلة كبرى تتحدد الجواب عنها معالم وجودها كامتداد زمني تمسرحي داخل ثقافة مسرحية التي تعي مادتها انطلاقا من الذات المبدعة، وتكشف أسرارها اللعبوية ضمن جهاز معرفي مضبوط نظريا في ثقافتنا العربية، لأن السيميولوجيا أمدت المتلقي والمخرج بمختلف الأشكال والعلائق، لكي يتسنى لذهن كل واحد منهما، استعمال حواسه للوصول إلى المعنى الحقيقي والملموس، لأن الخطاب المسرحي هو خطاب مسرحي، كما يندمج ضمن الأجناس التعبيرية والأدبية حيث يدعونا المسرح إلى الانخراط فيه والتسلح به، قصد تحدي ذواتنا وعصرنا من أجل إيجاد بديل اجتماعي وثقافي ومعرفي و”سيميولوجي”[21] وهذا ما نراه في المسرحيات الممسرحة.
إن التصور المنهجي والتواصلي، قادر على جعل النص المسرحي عنده يحتوي على الإثارة والدهشة، قصد إبراز مستويات المكان والزمان والسنن …، وكذا القيمة الفنية القادرة على النفاذ إلى ذهن المتفرج لاستحضار دلالة الخطاب، حيث إن المخرج المسرحي حسن العلوي مدعو إلى معرفة توقع المتلقي داخل متنه، لأنه هو الهدف في هذه العملية الفرجوية، فهذه الخطوة الإبداعية التي تسهل على الناقد وسيلة الفهم والتفسير. واستخلاص المتعة واللذة داخل النص وداخل العرض، وعبرها يعاد طرح مجموعة من الأسئلة المعرفية والاجتماعية من أجل إيجاد موقعا وسط المشاكل الراهنة المطروحة على بساط الواقع، من هنا أصبحت السيميولوجيا تفصح عن نفسها في سياقات متنوعة: هل وجودها في المسرح وجود حتمي أم ضرورة زمكانية وحضارية، وهل وعينا لهذا المنهج، وعي معرفة بمرجعية علمية كانت أم تاريخية؟ وهل الوعي المنهجي يتضمن القيمة الجمالية والفرجوية التي تبرز نفسه ووجوده؟ كيف تشتغل العلامة في المسرح؟
إن الوعي بهذه القيمة الحوارية، لمساءلة الذات فكرا ووجودا في مستوياتها الإبداعية والإبستيمية والفرجوية، سمح لنا بهيكلة الحقيقة المؤطرة بمنطلقات التحليل الدرامي، والمتسائلة حول صعوبة التصنيف لهذا المنهج كخاصية إجرائية تطورية، لذا أصبحت مهمة الناقد هي التسلح بمختلف المناهج، قصد استغلالها.
ويقول “سامية أسعد”: “يجب على الناقد أن يكون فيلسوفا ومحللا نفسانيا وعالما اجتماعيا ولغويا وانتروبولوجيا”[22]. فهذه الموسوعية تسمح له أيضا بالتفكيك والهدم والخرق لكل الوضعيات التي يعيشها المسرح، لذا فالتحليل السيميولوجي لا يعتمد الرؤية الواحدة، بل يحمل طبقات بلورية، وأبنية يكتسيها الأداء الجسدي بكل معالمه. فالمسرح عند حسن العلوي يحمل طبقات مشروطة بنوعية الظروف التاريخية والثقافية والاقتصادية، مبنيا على معرفة فلسفية مفتوحة وغير مختومة، ومنفتحا بتجاوز التعريف، بمفهوم المناطقة، لأن موضوع التعريف المنهجي هو عبارة عن محاكمة لهذا الفن الغائب الحاضر (النص والعرض)، والمؤسس على التمسرح السيكودرامي، لا على البعد السطحي. فالناقد ينبغي أن يراعي التسلسل الزمكاني للنص، لكي يندرج في سلم التجريب، مرورا بسياقات التمظهر والبروز الإيروسي المتلاحم مع الخطابات المهمشة والمنسية، مما يجعل القراءة السيميولوجية لهذا النص مرحلة أولى تسبق كافة الإمكانات التي ينطوي عليها. وعلى المخرج بعد ذلك اختيار إحدى هذه الإمكانيات وبلورة بنائها في تفسير معين، ولا ينبغي أن يكون هذا التأويل مرآة تعكس معالم النص الأولي، بل يجب أن تكون ذات المخرج سائد وحاضرة فيه وعلى الخشبة، لأن السمة الجوهرية لهذا المخرج هو التنوع اللانهائي لشعرية السؤال الوجودي ذي النزعة الراديكالية التي يعيشها الكائن المتخيل مع ذاته وخارج ذاته. فهذا التحول من الداخل إلى الخارج هو الذي يميز بين سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة، فالأولى تتناول بعض الخصائص والوقائع الملموسة، وترسل عمدا لكي يعرف المتفرج عن المرسل. ويمكن أن نطلق على هذه العلامات الإرادية إشارات (Singnaux). أما الدلالة فتحتوي على الوقائع وعلى الأحداث بغض النظر عن إرادة المتكلم في بنية التواصل، ويمكن أن تسمى هذه الوقائع بعلامات[23].
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا، هو: أين تقع الرسالة المسرحية إذن؟. لاشك أنه تقع بين بعدين: فالرسالة المسرحية تسعى دوما إلى التواصل، مادامت العلامات ترسل إراديا من طرف المتلقي إلى المرسل إليه، ولكن نجد دلالات خارجية مصاحبة للنص، يمكن تسميتها (بعلامات العلامات). لأن التمايز بين التواصل والدلالة هو تمايز تفاضلي وليس أساسي، لأننا لا يمكن أن نجد تواصلا بدون معنى والعكس كذلك. فالباحثة “آن أوبير سفليد” ترى أن العلامات سواء كانت فعلية (Verbale) أو غير فعلية فإنها تكون إما إشارية أو مؤشرات. لكن في مجال العرض تكون كلها عبارة عن إشارات كلية تحتاج إلى الإرادة وإلى القصدية، قصد إبلاغ الرسالة. ورغم الاختلاف الاصطلاحي والوظيفي والجغرافي، فإن السيميولوجيا تهتم بالدال وبالمدلول (النفسي والدلالي)، والسيميوطيقا لا تهتم بالدال، بل بالمدلولات وبكل الأشكال الممكنة للتواصل[24].
وتضيف أن هذا لا يمنع هذه العلامات من أن تكون مؤشرات في حالة ثراء الدال المسرحي، وتقلب دلالته، أي ما يعرف بالدلالة الإيحائية التي تبرز إلى الوجود حين يرفض السياق أخذ مجراه العادي. ويرى “بيير غيرو” أن العلامات كلها قصدية، فالعلامة على الدوام هي تلك الإشارة الدالة على إرادة إيصال معنى، و”قد تكون هذه الرغبة، إرادة التواصل في نظره عملية لاواعية”[25].
غير أن “لاكان” يعتبر أن مظاهر اللاواعي نمط من أنماط الاتصال، وقد اعترف بهذه المسلمة علم النفس الحديث، ونجد “تادوز ماوزن” في بحثه المعنون “العلامة في المسرح”، مميزا بين العلامة الطبيعية والصناعية، قصد التوفيق بين البعد النظري والبعد التطبيقي، وبالتالي إيجاد أداة مؤقتة للتحليل المسرحي[26].
ويظهر هذا التمييز بين العلامات جليا في كتاب “لأندري لالاند” (Vocabulaire technique et critique de la philosophie)، حيث يقول: “إن الدلالات الطبيعية هي الدلالات التي تنشأ علاقتها بالشيء الذي تدل عليه، إلا أن قوانين الطبيعة، مثلا الدخان دلالة النار، والدلالات الاصطناعية هي التي تستند علاقتها بالشيء الذي تدل عليه إلى قرار إرادي غالبا ما يكون جماعيا”[27].
فالفرق بين الدلالة الطبيعية والدلالة الصناعية كامن في وجود غياب التحليل، وقد يقع عند مستوى الإرسال لا الإدراك الحسي، لأن كل شيء هو دلالة على شيء ما في ذواتنا أو في العالم المحيط بنا في الطبيعة[28]. فالإرسال لا يتأسس إلا من خلال الأداة الإيصالية التي تربط بين المرسل والمرسل إبيه، لأنها هي العلامة الكلية التي توصلنا إلى الحقائق. ويرى “بيير غيرو”: “أن العلامات باعتبارها تداعيات تنقسم إلى علامات طبيعية وأخرى صناعية، هذه الأخيرة تنقسم إلى مجموعتين، منها المرتبطة بالواقع كالرسم… بينما الثانية مرتبطة بالاتصال مع الغير، مثل الكلام المنطوق، أي أن الأولى تعيد تكوين الخصائص الطبيعية للوقائع، مثل: الإيقونات والصور، أما الثانية فهي بمثابة علامات اصطناعية”[29].
وبما أن الهدف الذي يهدف إليه الفن المسرحي هو تحقيق هذا التواصل عند المخرج حسن العلوي حيث أن جل العلامات التي توظف في هذا المضمار تنتمي إلى فصيلة الدلالات الصناعية كما قلنا، فالتعارض بين العلامة الطبيعية والعلامة الصناعية، تجعل الذات المراقبة هي الفاعل، وهذا الفعل يكون بدوره معللا الشيء الذي دفع “بكاوزن” إلى صياغة مبدأ يعرف بتصنع العلامة التي تبدو طبيعية في العرض المسرحي، يقول “كاوزان”: “يحول العرض العلامات الطبيعية إلى علامات صناعية، فلنقل البرق، بمعنى أنه يضفي الصنعة على العلامات، فتصبح علامات إرادية وتكتسب على المسرح وظيفة تواصلية حتى وإن افتقدتها في الحياة”[30]. وهذا التصور يتيح لنا محاكمة ذواتنا من خلال هويتنا وتاريخنا وإبداعنا. وهذه المحاكمة الاستعارية هي امتداد نحو الإرث الحضاري التليد، يأخذ العرض مواقعه ومواقفه الأكثر تطرقا للعالم الخارجي، حيث تتعدى هذه الدلالة الرمزية نفسها لتعلن عن نفسها بفضاضة عن نظيرها، وأبرز مظهر تتحداه السيميولوجيا هي هذه الأجساد الرمزية المتمثلة في المقولات التي تصدت لآليات السلطة النصية. يقول “بيير غيرو”: “تكمن وظيفة العلامة في تأمينها الاتصال بين الأفكار، عبر وسيلة الرسائل، مما يتحكم بالتالي وجود أداء شيء يتكلم عليه، ومرجع وعلامات ونظام وإشارات، كما يتوجب أن يكون وسيلة نقل بين المرسل والمرسل إليه”[31]. “فغيرو” يقر بعدم وجود التعارض بين العلامة التقنية والعلامة الجمالية، لأن الهدف من هذا المسرح التجريبي هو تحقيق التواصل، لأن جل العلامات التي ترسل في هذا المجال تنتمي إلى سلالة الدلالة الصناعية. يقول “رولان بارت” في هذا الصدد: “فطبيعة العلامة السيميولوجية سواء كانت قياسية أو رمزية أو عرفية، هي دلالة الرسالة الاصطلاحية والمصاحبة. لكل هذه المشاكل السيميولوجيا الأساسية الموجودة في المسرح”[32]. “فبارت” في هذا الطرح يكشف عن صعوبة الحقيقة كحرية وكثقافة لهذه العلامة، إنها رؤية أولية للماهية الكلية من احتواء التفكير في الممكن والمحتمل؛ فالأنا المبدعة لا تدرك ما يدور حولها إلا إذا انخرطت في العلامات الأخرى في شكل توافق مع الشيء ومع العالم، متخذة موقفا من هذا الوجود الخاص بها، ومكتسبة في مجال المسرح وظائفا وقيما تفتقدها في حياتها العادية. ويغدو التجريب عند المخرج عبارة عن التعارض بين الدلالة الطبيعية والدلالة الصناعية، مما يعطي للنص المعالج درجة وسلما لا يترك للمتفرج فراغا لكي يحس بأنه فاعل ومنفعل وصائغ مبدأ ما يعرف عند “كازون” بــ “تصنع العلامات”[33]، وقد تبدو بطبيعة التوظيف في العرض المسرحي حسب المخرج شكلا متكاملا يحول العرض الطبيعي إلى علامات صناعية، لتصبح علامة إرادية وتكتسب على الركح وظيفة تواصلية التي افتقدتها في الحياة.
لهذا يتجلى الطابع السيميائي للفكر المسرحي الحداثي في مستويات عديدة، تلتقي كلها في البحث عن حلول يكون فيها العرض هو الواقع الملموس والثقافي الباني من جهة، ومن جهة ثانية في البحث عن مبدأ متنوع يعد بمثابة العلة الأولى لتفسير التعددية، فكرية كانت أم اجتماعية درامية ولغوية. فالناقد السيميائي يشدد على خاصية الموضوعية، وإعادة الإنتاج مع تجدد العلاقات الممكنة لذلك.
خلق حسن العلوي تجربته كوعي نقدي تمسرحي، وتجريبي، كالقراءة التي ولدت المجالات التحليلية وتطورت الاختيارات، حتى أمسى النص المسرحي مساحة مفتوحة ونظاما واسعا على ذاته، حيث يتماهى الكل مع الواحد دون إبراز المعنى الأصلي بالمفهوم السيميوطيقي[34]، وهذا ما يبرز لنا التأويلات التي تشترك فيها المناهج ومختلف الخطابات التي تقوم على التحليل والحكي، والهدف من هذا النقد السيميولوجي هو الإمساك بالتواصل الدلالي والقصدي، بغض النظر عن مختلف التجليات التي يتخذها العمل المدروس. فالتواصل في المسرح ينبني أساسا على علاقة المتفرج بالنص، لأن النص كما قلنا يوجد قبل العرض، ويلازمه بعد ذلك. فالمؤلف يريد دوما أن يوصل شيئا إلى المتفرج، ووسيلته الوحيدة في ذلك هو النص، باعتباره زمنا جديدا يفتت التكرار والاجتزاء، الأمر الذي يمده إلى حد كبير بموضوعية مكتملة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور الحيوي الذي تشغله الشقوق وعلامات الوقف فيه، وهذا مظهر مزدوج من مظاهر التواصل في العرض المسرحي، وهذا التواصل يتحقق على مستويين اثنين:
1- هناك التواصل الداخلي: ويتمثل في سيرورة المشهد بين “الشخصيات المسرحية”. “فرولان بارت”[35] في كتابه “مقالات نقدية” يرى أن المسرح هو الميدان الوحيد الذي تتعدد فيه الأصوات والشخصيات المختلفة عن بعضها، نفسيا وفكريا واجتماعيا، هذه الشخصيات تتبادل الحوار والكلمات، كما لو كانت تتبادلها على أرض الواقع، والمتفرج بدوره يتتبع هذا الحوار المتبادل بين الشخصيات كما في مسرحيات أساطير معاصرة،وتمارين في التسامح وكذا في لعبة الخلاص.
2- هناك التواصل الخارجي: الذي يتمثل على مستوى علاقة العرض بالمتفرج، فالعرض شبكة معقدة من الرموز والإشارات، والجمهور بدوره يحمل على عاتقه عبء تفكيك هذه الشبكة، من حركة وصوت ولغة وموسيقى وديكور … كما أن هناك تواصلات أخرى تتمثل على مستوى الممثل والمتلقي، إذ ليس بينهم تواصل حقيقي لأن هذا الممثل يختفي وراء قناع الشخصية، في حين أن المتفرج لا يهتم بالممثل، بقدر ما يهتم بما تقوله هذه الشخصية المقنعة. هذه الإثارة حسب “جورج مونان”[36] تجعلنا نعيد السؤال التالي: هل المسرح تواصل أم رغبة؟ إن المسرح نشاط إنساني ومصدر للحياة العاطفية والنظام النفسي، وخزان ضخم من الطاقة الخلاقة عندما يأخذ شكل الحياة. لأن التواصل لا يعني التطور الخطابي والعاطفي والفكري المتبادل وإنما يعني دراسة الظروف الفرجوية لتفتح ضريبة الجسد أو استمرارية النوع الدرامي الذي لا يمكن تفاديه، وهو يضع حاجزا بين العواطف والواقع، ونظرا لتنوع المشاكل التي تدرج تحت مقولة السيميولوجيا وسعتها، يجب أن نحصرها على المظاهر التي تتناسب بشكل خاص مع التحليل المسرحي، وتستبعد المظاهر النفسية والبيولوجية التي لا تنبثق عن دراسة علمية خاصة، وكذلك موضوع المسرح الذي يقترب من تمسرحه ودراميته، بالقدر الذي يؤمن فيه بالعمل التخييلي كما في مسرحية البلوكاج لحميد الطالبي.
فالإنسان في عملية التواصل يخضع لخاصيته ككائن اجتماعي يقودنا لمعرفة الوسائط والشروط، وللممارسة الأساسية لوظيفة التحليل المنهجي. إنه يضع شروطا كما قلنا، حسب النوعية والكيفية، وحسب الوظيفة الحدسية التي تؤسس التوالد الإيحائي بالضرورة قرينا للتحقق، فالعرض المسرحي حسب “بارت” فعل سيميائي مركز إلى أقصى حد، يستخدم كأداء للتواصل، ودلالات تفضي بطريقة تكاد تكون منتظمة دائما إلى بعض المضامين؛ لذا كان المسرح فن الشفرة أكثر من الفنون الأخرى، لأنه يتضمن دلالات مصاحبة ليكشف عمق الزمن المسرحي، انطلاقا من أدوات ومفاهيم تتحرك ضمن العرض المسرحي الذي هو في حركية دائرية تبتدئ من المؤلف، لتمر عبر المخرج والممثل، فيتلقاها المتفرج، ثم تعمل عملها وفعلها داخل مخيلته وحواسه ليستجيب للعرض المسرحي بكل قوانينه.
فجسد الممثل في المسرح يمكن أن يكون إيقونة حسب تعبير “Jean Kott”، وأن لغته تصبح أيضا إيقونة بمجرد ما ينطق بها”[37]، لأن العلاقة بين الدال والمدلول لا يمكن الاعتماد عليها حسب تعبير “إيكو Coco”، فالعملية الإيصالية تفرض الجوهر الاجتماعي على الإنسان، كاختيار موضوعي، يضع كل المفاهيم المحددة تاريخيا واجتماعيا في شكل طبائع وسمات، فلا تتعلق المسألة هنا بشرح منهج، بل تتبع الأشكال التحليلية التي تنبع من النص المسرحي كنظام جعل “بيرس” يقسم الإيقونة إلى (صورة ورسم بياني واستعارة)، هذه الإيقونة تخضع للتحولات، التي تعرض الصورة المرئية بصورة سمعية، تحكي وتصف المساعد، ما أطلق عليها البلاغيون الكلاسيكيون لترسم المكان (Topographie)، وحين يتعلق الأمر بحقائق يشار إليها باسم الأشياء، وأحيانا تعوض صورة بصرية بأخرى من الشفرة نفسها، فما يظهر في مشهد على أنه يد سيف يتحول في المشهد الموالي إلى صليب، لأن النص المسرحي ليس شيئا منتهيا وثابتا، بل هو نص مفتوح ومتحول يسعى إلى إثبات وجوديته وفرجويته في العرض وفي مخيلة المتلقي. وهل هذا يعنى أن النص يندمج في العرض أم يمسرح ذاته بذاته؟ هو الشكل الفني الوحيد الذي يستطيع أن يشغل ما يمكن أن نطلق عليه “التطابق الإيقوني”، لأن المؤشر يرتبط أكثر بالإيقونات. فالمخرج حسن العلوي المراني طور تجربته من خلال التنوع المنافي الموجود في المسرح ليتحول إلى إيقونة معينة، وفي الوقت نفسه ليكون مؤشرا على مكانة الشخصية الاجتماعية أو السياسية، وفي العرض عادة ما تكون المؤشرات تابعة لوظيفة الإيقونات الخالصة حسب تعبير “آن أوبير سفيلد”. ويجب أن يعتبر هذا التحليل المتعلق بإسهام السيميولوجيا حول مشاكل النشاط المسرحي كمقدمة وكتصميم أولي، نظرا لتعقيد المشاكل المطروحة، وطلك من وجهك نظر المدارس التحليلية المتنوعة من جهة، وكذلك من وجهة نظر النقد السيميولوجي من جهة ثانية. إن المسرح بالنسبة لها هو نص مفتوح يسمح بتبرير الموقع الدرامي والاجتماعي والنفسي للذات، وهي بالنسبة للآخرين مقولة تغطي الميزات الخاصة للتقنية الجسدية واللغوية والاقتصادية، كما تظهرها الملاحظة التفكيكية والتأويلية من دون استحضار أفكار مسبقة حول أصلها الاجتماعي والمنطقي. إن كل المجادلات حول السيميولوجيا تتقاذف الكرة من النص إلى العرض والعكس، ويبدو أن الحكم المسبق اللغوي أو المنطقي أو الفلسفي يسمح بحسم المشكلة إذا لم يؤد إلى عملية الخيار النهائي، وإلى الانتقاء الجزئي. وفي الواقع عندما نطرح مشكلة “المنهج” لأن مسألة التجريب هو تفكير يتعلق بمشكلة علمية كما ذكرنا، لأننا نلجأ إلى المطارحات المنهجية لمعرفة موقع الذات العربية في هذا العالم، وما هي مساهماته بكل عناصره المفيدة حول هذا الفن ودراسته يبدو أن إطار هذا التفكير النقدي لم يحسب الفرق بين الأساليب والنتائج، ولم يفهم ذاته إلا من خلال الآخر، لأن فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، يعني التوجه لدراسة التراث الغربي وإعادته إلى مصادره الأساسية، أي رد ثقافة الغرب إلى حدودها الطبيعية، وبيان كيف أخذ الوعي الأوربي مركز الصدارة عبر التاريخ داخل ذواتنا وفي عقلنا، مادام الخطاب النهضوي تحدث عن كل شيء، ولم يتحدث عن العقل والنقد الذاتي. لذا لزمت مراجعة العقل الناقد، لأن الارتباط باللاعقلانية جعلنا نطرح السؤال التالي: كيف نؤسس حاضرنا وماضينا عقلانيا ونقديا؟ وكيف تتم القطيعة مع الآخر؟ وهل الإنسان العربي قادر على خلق قطيعة مع ذاته؟
فالنقاد العرب لم يخرجوا من المعاودة والتكرار، لكن القراءة الدرامية هي المعاودة للنص القديم في شكل حداثة ومعاصرة، تلغي التطور والاستمرارية، ولا إبراز العلاقة العضوية بين التاريخي والثقافي. لأن الناقد العربي يسير سير الناقد الغربي قصد تأسيس الرؤية التي تماثله في القراءة العمودية والتي تجعل المركز الأوروبي في المواجهة والمحاكمة لمعرفته.
إن النقد المسرحي يعني الجانب الفني والمعرفي والفكري في الحضارة الإنسانية. إذن كيف تتم الدراسة في غياب الأشكال الثقافية المشاركة في البناء والترتيب، فالحكم يبقى ضد ذاته يقول “روجي الخالدي”: “فلا يكمل علم الأدب للمتبحر فيه، إلا بعد أن ينظر في آداب الأمم الأخرى المتمدنة، ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم، وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتبهم، فيقف على ما عندهم من سعة الفكر وسمو الإدراك وبلاغة المعاني، ويعرف أساليبهم في النظم والنثر، وتصرفهم في الكلام، ويميز بين المتقدمين والمتأخرين منهم”[38]. إن هذه الدعوة المفتوحة تمثل بداية للتلاقح وللتثاقف ما بين النقد الغربي والنقد العربي، وهي دعوة وجدت صداها في تكوين أجيال متعاقبة من النقاد العرب ما بين مؤسسين، أمثال: “ميخائيل نعيمة” و”محمد منذور”و”أمين العالم” و”لويس عوض” و”عبد القادر القط” و”علي الراعي” و”مصطفى ناصف” و”سامية أسعد” و”عبد السلام المسدي” و”محمد برادة” و”غالي شكري” و”حسن المنيعي” و”عبد الرحمن بن زيدان”. فهذه الثلة، رغم اختلاف ثقافتها وتكوينها الأكاديمي، فإنها طبقت عدة مناهج علپ نصوصنا وثقافتنا العربية، جاعلة السؤال مشكلة من المشاكل الثقافية التي يواجهها الإنسان العربي. فالعمل السيميولوجي في نظرنا يشكل وسيلة جوهرية تساعدنا على فهم بواطن الدراسات الأدبية والمعرفية، وتجعلنا نؤصل مبادئها في أوساط الدارسين دون التخلي عن تلك النظرات التحليلية التي مارسها بعض نقادنا من دون ترو، ومن دون وعي لمستقبل هذا النمط من الدراسة الحيوية التي لا ينتظر منها أن تحلل ظاهرة المثاقفة الأدبية والنفسية والتعبيرية فحسب، وإنما ينتظر منها أن تتحكم في هذه الظاهرة وتوجهها، وهنا يأتي دور المناهج التي تأمل أن تسبق فيما بينها، حتى تساهم في حل إشكالات الثقافة العربية، وترسم مستقبلها وفقا لمنهجية علمية خاصة في عصرنا الذي أخذت المناهج والعولمة تفرض فيه فرضا بأساليب قد تشكل تهديدا جادا بالنسبة إلى هوية فكرنا ومعرفتنا، لأن “تطبيق منهج نظرية التأثير والتأثر، ليس سهلا كما يبدو لنا لأول وهلة، بل يعد أصعب من غيره من المناهج… “[39].
هذه المفاهيم عبارة عن أرضية تسمح لنا بمعرفة الخلفيات المتحكمة في هذا الشأن، لأن حسن العلوي المراني عمل على توظيف حقول معرفية سواء في تحليلاته النصية ولا نقده للمتون المدروسة، من هنا ندرك أن حسن لا ينغلق في حقل معين بل ينفتح على التعدد والتنوع. مما جعل من تجربته تجربة مغايرة عن كل التجارب الأخرى التي مسرح نصوصها، لذا نقول أن التجريب عنده خضع لاستراتيجية جمالية، وفق نموذج دينامي يؤشر على التجاوزات في الدرجة الأولى من أجل ترتيب مسافات بين المواقع، والألوان والأشكال الدرامية هكذا يبدو أن التجريب عنده يخضع كما قلت لقيم التوازن قصد بناء كتابة ركحية تدخل في اعتبارها أفق انتظار الجمهور.
ومهما يكن يتميز المسرح عند المخرج والفنان حسن العلوي المراني عما عداه من أنواع أدبية، بكونه يجمع بين القارئ المؤلف، والمخرج المبدع، لأنه يعتمد الخشبة كقيمة إخراجية، وجمالية وذات مكان مشهدي كل هذا يشكل عنده مجموعة من المعاني تتخطى لغة النص وإشاراته وجماليته إلى أداء بصري وصوتي وجمالي، لذا يجد المخرج حسن العلوي المراني ذاتيته في الإخراج قصد تحقيق قصدية نوعية وواعية وجودية. هكذا يمكن إجمال هذه الخصائص الدرامية فيما يأتي:
– تلاقح بين الأصالة والمعاصرة.
– مسرحة النصوص بلغة دراماتيكية.
– استثمار فعال لطاقات الممثل.
– عرض مجسد لمواقفه اتجاه قضية ما.
– خلخلة أفق انتظار لدى المتلقي.
– وخلق نوع من الجد داخله.
[1] – محمد منذور: في الأدب والنقد، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، ص: 53.
[2] – محمد حافظ دياب: النقد الأدبي وعلم الاجتماع، مجلة فصول، مجلد 4، عدد 1، أكتوبر – نونبر – ديسمبر 1983، ص: 60 – 61.
[3] – محمد منذور: في الأدب والنقد، مرجع مذكور، ص: 74.
[4] – السيد يسين: التحليل الاجتماعي للأدب، مكتبة مدبولي، ط. 3، القاهرة، ص: 102.
[5] – أوستين وارين – ورنيه ويليك: نظرية الأدب، ترجمة: محي الدين صبحي، المجلس العلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، ط. 1، 1972، ص: 310.
[6] – Pierre Zima : L’ambivalence romanesque, éd. Sycomore, Paris, 1980, P : 25.
[7] – حسن المنيعي: دراسات في النقد الحديث، مطبعة سيدني، مكناس، ط. 1، 1995، ص: 110.
[8] – لوسيان غولدمان: المادية الجدلية وتاريخ الأدب، ترجمة: محمد برادة، من كتاب البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مؤسسة الأبحاث العربية، ط. 2، 1986، ص: 13.
[9] – Oswald Ducrot et les autres : Qu’est-ce-que le structuralisme, éd. Seuil, Paris, 1968, P : 9.
[10] – فريديريك معتوق: منهجية العلوم الاجتماعية عند العرب وفي الغرب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. 1، 1985، ص: 11.
[11] – Claud L évi Strauss : Anthropologie structurale, librairie plan, 1958, P : 100.
[12] – جابر عصفور، مجلة فصول، ص: 92.
[13] – ميخائيل باختين: الملحمة والرواية، ترجمة: جمال الشحيد، معهد الإنماء العربي، ط. 1، 1982، ص: 17.
[14] – لوسيان كولدمان: منهجية علم الاجتماع الأدبي، ترجمة: مصطفى المسناوي، ط. 1، دار الحداثة، بيروت، ص: 14.
[15] – المرجع نفسه، ص: 17.
[16] – Lucien Goldmmane : Le dieu caché, éd. Gallimard, P : 26.
[17] – Bernard Toussant: Qu’est-ce-que la sémiologie, op. cit, P: 11.
[18] – Charle Sandres Perise: Ecrits sur le signe, éd. Seuil, 1970, P : 27.
[19] – بيير غيرو: السيمياء، ترجمة: أنطوان أبي زيد سلسلة زدني علما، عدد 21، منشورات بيروت، باريس، 1984، ص: 6 – 7.
[20] – بيير غيرو: السيمياء، مرجع مذكور، ص: 19.
[21] – سامية أسعد: سيميولوجيا المسرح، مجلة فصول، مصر، عدد 3، مجلد 1، أبريل 1981، ص: 67.
[22] – سامية أسعد: سيميولوجيا المسرح، مرجع مذكور، ص: 68.
[23] – المرجع نفسه، 68.
[24] – Bernard Toussant: Qu’est-ce-que la sémiologie, op. cit, P: 11.
[25] – بيير غيرو: السيمياء، مرجع مذكور، ص: 31 – 32.
[26] – T. JKowzan : Sur le signe théâtre, indiogène, N : 61, 1968, P : 69.
[27] – نقلا عن سامية أسعد: الدلالة المسرحية، مرجع مذكور، ص: 58.
[28] – المرجع نفسه، ص: 85.
[29] – بيير غيرو: السيمياء، مرجع مذكور، ص: 17.
[30] – كير إيلام: العلامات في المسرح “مدخل إلى السيميوطيقا”، ترجمة: سيزا قاسم، منشورات البيضاء، ج. 1، 1986، ص: 89.
[31] – بيير غيرو: السيمياء، مرجع مذكور، ص: 9.
[32] – المرجع نفسه، ص: 23.
[33] – كير إيلام: العلامات في المسرح “مدخل إلى السيميوطيقا”، مرجع مذكور، ص: 89.
[34] – سعيد يقطين: نظريات السرد وموضوعها في المصطلح السردي، علامات، عدد 6، 1996، ص: 48.
[35] – مارتن إيسلان: المسرح البريشتي بين النظرية والتطبيق، ترجمة: رشيد بناني، اللواء، المغرب، مطبعة النصر، عدد 1، 1979، ص: 68.
[36] – George Monan : Introduction à la sémiologie, Paris, éd. De minuit, P : 92.
[37] – P. Pavis : Problème d la sémiologie théatral, Canada ;Québec, les press de l’université de Québec ,Paris,1976,P : 13.
[38] – روجي الخالدي: تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتورهيكو،دمشق، ط. 2، 1984، ص: 60.
[39] – الرشيد بشير بوشعير: الدراسات الأدبية العربية المقارنة، عالم الفكر، مجلد 31، أكتوبر – ديسمبر، عدد 2، 2002، ص: 76.
تعليقات الزوار ( 0 )