في محاولة استباقية للتأثير على الرأي العام الدولي، وربما على محكمة العدل الدولية في لاهاي، قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في شريط بالإنكليزية، قبل ساعات من انطلاق أعمال المحكمة والنظر بدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بشبهة التورط بإبادة شعب داخل غزة، إنه لا نية لديها لاحتلال غزة للأبد، وإنها تحارب “حماس” لا الغزّيين، وطبقاً للقانون الدولي.
وسبقته المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية بقولها، أول أمس، (بعد ثلاثة شهور)، إنها تنوي معاينة تصريحات متطرّفة صدرت عن مسؤولين كبار إسرائيليين دعوا للمساس بالمدنيين الأبرياء أيضاً، وإن اسرائيل ملتزمة بالقوانين الدولية.وهي تقصد سلسلة تصريحات دموية إجرامية صدرت عن وزراء ونواب إسرائيليين منذ اليوم الأول من الحرب على غزة، منهم وزير التراث عامياحي الياهو، الذي لم يستبعد خيار إلقاء قنبلة نووية على القطاع، أو وزير المالية والوزير الإضافي في وزارة الأمن باتسلئيل سموتريتش، الذي سبق وصدرت عنه سلسلة تصريحات تنتهك القانون الدولي، منها قوله، الأسبوع الماضي، بأن بقاء 100 أو 200 ألف غزّي فقط بدلاً من مليونين داخل قطاع غزة سيغيّر النقاش حول “اليوم التالي”، وهذه عملياً دعوة غير مباشرة لتهجير أهالي غزة.
كما صدرت عن وزيرة الاستيطان أوريت ستروك تصريحات مشابهة تدعو لإطلاق يد سلاح الجو في هجماته على القطاع ولتسوية غزة بالأرض.
وسبقهم وزير الزراعة عضو مجلس الحرب آفي ديختر، الذي قال، في الأسبوع الثاني للحرب، إن إسرائيل تقوم بنكبة ثانية داخل القطاع، و”نكبة” مصطلح يعني في دلالاته التاريخية جرائم حرب كالتدمير والتهجير والقتل وغيره.
كما صدرت دعوات مماثلة عن جنرالات في الاحتياط، منهم مستشار الأمن الأسبق غيورا آيلاند، الذي دعا مرة تلو المرة لمحاصرة القطاع وحرمان أهله من الماء والغذاء والدواء على اعتبار أنه لا فرق بين عسكريين ومدنيين فكافّتهم “مخربّون”، وحتى النساء هن زوجاتهم وشقيقاتهم والأطفال أبناؤهم، معللا ذلك في تصريحات ومقالات بأنه بدون هذا التعامل الجارف لا يمكن لإسرائيل تحقيق انتصار في هذه الحرب.
تقديرات إسرائيلية
وبيد محكمة العدل الدولية تشكيلة خيارات؛ من رفض الدعوى، قبولها بشكل كامل، أو بشكل جزئي منها أخطرها إصدار أمر احترازي ضد إسرائيل يفرض عليها وقف الحرب فوراً، وهو قرار لا تستطيع المحكمة تطبيقه فعلياً، لكن هذه ستكون مهمة الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن، بحال لم تستخدم واشنطن الفيتو.
ولا تستبعد جهات قضائية في إسرائيل أن تلجأ المحكمة لخيار معاد لها، لكنه ينطوي على نوع من التسوية، يتمثل بإصدار أمر احترازي لا يجبرها على وقف الحرب فوراً، لكنه يدعوها لتشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة بالحرب بكل ما فيها، أو إدخال كميات كافية من المساعدات الإنسانية للغزيين.
ونسبت وسائل إعلام عبرية تقديرات لمصادر في وزارة القضاء الإسرائيلية مفادها أن مهمة جنوب إفريقيا بتقديم أدلة على نوايا إسرائيلي بارتكاب جينوسايد سقفها ليس عالياً نظراً لوجود كمية كبيرة من التصريحات التي من شأنها إدانة إسرائيل من هذه الناحية، كما ذكر أعلاه. وترجح هذه المصادر أيضاً أن تلجأ المحكمة الدولية لـ “حل وسط” فتصدر أمراً احترازياً محدوداً يدعوها التزام العمل حسب القوانين الدولية وتأمين المساعدات الإنسانية والتحقيق بتصريحات شاذة.
اليوم جنوب إفريقيا وغداً إسرائيل
وقبيل ظهر اليوم الخميس، سيقدم مندوب جنوب إفريقيا، الدولة المشتكية، مبررات دعواها، وستذكر فيها أن إسرائيل كانت تنوي إبادة الفلسطينيين في القطاع بناء على تصريحات نواب ووزراء، وستطالب بأمر احترازي يوقف الحرب الآن.
وحسب البرنامج، ستقدم إسرائيل غداً لائحة دفاعها وستقوم، وفق تسريبات إسرائيلية، بالزعم بأنها خاضت حرباً دفاعية (على غرار مزاعم روسيا أمام دعوى أوكرانيا ضدها في المحكمة ذاتها)، والتركيز على “جرائم السابع من أكتوبر، وعلى احتماء حماس بالمدنيين داخل القطاع”، وهذا ما توصي به وزيرة القضاء السابقة أييلت شاكيد، في حديث للإذاعة العبرية، اليوم.
وبخلاف أوساط إسرائيلية عارضت التعيين لحسابات ترتبط بالسجالات الداخلية التي عصفت بإسرائيل خلال 2023 اعتبرت شاكيد أن تعيين قاضي العليا المتقاعد أهارون باراك قاضياً في المحكمة في لاهاي قرار صائب، معربة عن أملها بأن ينجح بـ “قلب الصورة وجعل إسرائيل هي التي تتهم لا المتهّمة، وذلك من خلال “العودة للسابع من أكتوبر”.
وهناك أوساط في إسرائيل، أبرزها وزيرة التربية والتعليم يوآب كيش، تعتبر مشاركتها في هذه المحكمة غلطة كونها “محكمة لا سامية”، علماً أن إسرائيل اختارت في الأسبق مقاطعة أعمال محكمة الجنايات الدولية في دعاوى مشابهة في الماضي (بعد عدوان الرصاص المصبوب عام 2008 مثلاً).
وتعتمد إسرائيل محامياً بريطانياً خبيراً بالقانون الدولي، لجانب عدد من الحقوقيين والمستشارين القضائيين في المؤسسات الإسرائيلية المعنية، طاقماً مشتركاً للدفاع عن نفسها في المحكمة، التي ترأسها قاضية أمريكية، ونائبها قاض روسي، ومعهما 13 قاضياً، منهم قاضيان عربيان (مغربي ولبناني)، علاوة على قاض من قبل إسرائيل وقاض من قبل جنوب إفريقيا، وهوية القضاة هنا مهمة لأن من المرجح أن يتلقى كل قاضٍ توجيهات غير معلنة من بلاده.
ثلاثة أبعاد
وبصرف النظر عن طبيعة القرار الذي سيصدر عن محكمة العدل في لاهاي، فإنه يشمل ثلاثة أبعاد ممكنة هامة؛ أولها القضائي، العقاب، ففي حال قبول الدعوى والإدانة كلياً أو جزئياً ستواجه إسرائيل نفسها أمام عقوبات مختلفة عليها وعلى شركاتها.
البعد الثاني يتمثل بالتأثير المباشر على سير الحرب الآن، حيث تخشى إسرائيل الخيار الأصعب: أمراً احترازياً بوقف فوري للحرب بدلاً من أمر احترازي بإدخال معونات أو بعودة أهالي شمال غزة لديارهم، أو تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة إسرائيلية.
والبعد الثالث، وهو أيضاً مصدر قلق كبير لإسرائيل، يرتبط بالمعركة على الوعي والرواية حول هذه الحرب على غزة، وهو قرار يؤثّر على صورة ومكانة إسرائيل في العالم، وربما على سير الحرب ومستقبلها من ناحية تضييق هامش مناورتها.
وما يزيد من قلق إسرائيل أن مثل هذا القرار يضر بمساعي إسرائيل التاريخية لاحتكار خطاب الضحية بالاعتماد على المحرقة وتعرّض اليهود لمحاولة الإبادة، وهي اليوم تجد نفسها على كرسي الاتهام متهمّة بمحاولة فعل ذلك للفلسطينيين، هذه المرة داخل قطاع غزة. ولذا تجندّت هيئة الدعاية والإعلام الحكومية لهذه الحرب على الوعي، حيث تشرف على مسيرة مقابل المحكمة اليوم وغداً بمشاركة عائلات المحتجزين في غزة، وإقامة معرض لصورهم مقابل مبنى المحكمة في لاهاي.
(القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )