تتسابق الأمم والشعوب إلى تخليد ملاحم تاريخ تحررها من الغزوات الأجنبية، ومن كل أشكال الاستبداد بالبلاد والعباد، والاعتزاز برموزها الفكرية والعلمية والأدبية والسياسية؛ لأن من لا ذاكرة له لا تاريخ له ، ومن لا رموز يفتقد إلى أصوله وإلى مرجعيات وجوده. والشعوب التي لا تمتلك ذاكرة حية، ولا تحيي مآثرها وتحتفي برموزها تكون أشبه بشعوب تعاني من فقدان اللحمة أو القواسم المشتركة بين مكوناتها، ولا تكون جديرة بأن يكون لديها مشروع تعتد به بين شعوب وأمم الأرض.
لكن، أحيانا لا يكون النقص في وجود ملاحم ورموز لدى أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، بقدر ما يكون الإشكال يتعلق بموضوع شخصنة التاريخ والذاكرة ومآثر الوطن ورموزه. وقد يتعمق ذلك بإقصاء أو تهميش من قام بتلبية نداء الوطن، أو بادر بإحداث التغيير، وتشويه صورته، بل معاداته سرا وعلانية أحيانا، من أجل إثبات شخصنة التاريخ وذاكرة الوطن، أو تحقيق ما كان يُطلق عليه في الأنظمة الشمولية “وحدة الفكر والتصور”.
ويعلم الجميع أن الأمة الجديرة باسمها تستمد مشاعر عظمة أبنائها المشتركة وعنفوانهم من قبورها الغنية برموزها، ومما ترك الأجداد والقرون الخوالي من التاريخ، أكثر مما تستمده من الأجيال الحاضرة أو الحية. إن التاريخ والذاكرة هما بمثابة السماد الذي يخصب مشاريعهم وطموحاتهم المستقبلية لتحقيق غد أفضل لهم ولأجيال المستقبل. كما يدفعهم إلى استخلاص العبر من وقائع حدثت ذات يوم قصد تخليد لحظاتها المشرقة، وتجنب الوقوع في العثرات والإخفاقات التي وقع فيها أسلافهم.
وبذلك تستطيع، هذه الأمة أو تلك، ان تفخر بأنها صانعة لتاريخها وتاريخ الإنسانية. ولهذا نتوقف بين الفيْنة والأخرى عند محطات الأمم لنعتبر، ونتأمل، ونستخلص كيف استطاعت بأصالة عمل أبنائها أن تحدث التغيير الاجتماعي الهادف إلى الأفضل، وتتجاوز عثراتها، وتقوم بالتطوير العلمي والتكنولوجي والصناعي والاقتصادي بصفة عامة، وبترقية الفكر والثقافة والإبداع الفني كأسلم طريق إلى الانبعاث أو الانبجاس الحضاري.
حاول المغرب تجاوز الثقافة السياسية الداعية إلى دولة “وحدة الفكر والتصور” التي تؤمم مآثر الأمة وجعلها تحت تصرف حاكمها، الذي يُنسب إليه وحده كل شيء؛ فمثلا وزير الأنباء الأسبق، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، مولاي أحمد العلوي، مدير جريدة “Le Matin du Sahara “، كان يصر على أن يطلق صفة “الديمقراطية الحسنية” على فكرة الديمقراطية في المغرب. أما فيما يتعلق بشأن ملاحم المغرب المعاصرة الرامية إلى التحرر من الغزو والاستعمار الأجنبيين، فلم تكن أدبيات السياسة المغربية الرسمية، أو مدونات الإعلام الحكومي وحواشيها، تشير إيجابيا إلى مآثر الذاكرة المغربية من خارج دائرة المخزن المغربي، ولم تكن تُذكِّر بملاحم تحرير المغرب المعاصر، كملحمة مثلث التحرر “اضهار أوبارَان – إغريبَن – وأنوال”، التي توِّجت بانتصارات أنوال في 21 يوليو 1921 بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، أو ملحمة “إيغزر ووشّن أو وادي الذئب” (Desastre del Barranco del Lobo) قبل ذلك، في 27 يوليو 1909، بقيادة محمد الشريف أمزيان. وغير ذلك من الملاحم التي أعادت للمغرب وهجه الذي كشفت “معركة إيسلي” مع الجيش الفرنسي في 14 غشت 1844 عن خموده إلى درجة انطفائه، وما تلاها من الخضوع لشروط مذلة للمغرب في معاهدتي طنجة ولالة مغنية مع فرنسا؛ وهما على التوالي: في 10 شتنبر 1844، وفي 18 مارس 1845. ثم انكشف خمود ذلك الوهج أكثر في معركة تطوان مع إسبانيا سنة 1859، ومعركة سيدي ورياش على باب مليلة سنة 1893.
ولسنا بحاجة إلى التأكيد أن ملاحم ومعارك المغرب الذائد عن حريته وكرامته، ليست وقفة على جهة معينة، أو إقليم دون سواه؛ فالتاريخ خلد لنا معارك مواجهة الاحتلال الفرنسي لوجدة والدار البيضاء سنة 1907. كما شهد المغرب بعد ذلك ملاحم كثيرة ومعارك كبيرة؛ كمعركة لهري سنة 1914 بقيادة موحا أوحمّو الزّياني، ومعركة سيدي بوعثمان سنة 1916 بقيادة أحمد الهيبة، ضد الاستعمار الفرنسي. وإنما أردنا تركيز الحديث في هذا المقال عن الذكرى 99 لملحمة مثلث التحرر الشهير المتوج بانتصارات أنوال المصادفة لـ21 من شهر يوليو، وتحفيز أحرار المغرب على الاستعداد الفعال لإحياء الذكرى المئوية لتلك الانتصارات التي ستحل في صيف 2021.
ونعتقد بأن المغرب الرسمي قد قرر تخطي مرحلة دولة “وحدة الفكر والتصور”، حين ركّز الملك محمد السادس، في خطاب اختتام أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 6 يناير2006، قوله على: “إننا لا نريد أن نجعل من أنفسنا حكما على التاريخ (…) فالمؤرخون وحدهم المؤهلون لتقييم مساره، بكل تجرد وموضوعية، بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية”. ولذلك نعتقد بأن المغرب الحكومي والحزبي، سيكون على موعد مع إحياء الذكرى المئوية لملحمة أنوال وأخواتها؛ ونرجو أن يكون الأمر كذلك عند الهيئات والجمعيات المغربية غير الحكومية، والمؤسسات الفكرية، والمراكز العلمية، وشُعب التاريخ في الجامعة المغربية، ووسائل الإعلام، والكُتّاب الأدباء وفقا لمجال اختصاصاتهم واهتماماتهم، والفنانون في مختلف أجناس الفنون: من الرواية، والشعر، والسينما، والمسرح، والفنون التشكيلية، والرسوم الكاريكاتورية، وإقامة معارض لكتب تخص المرحلة (علما أن الببليوغرافيا الحالية، التي لها علاقة بملحمة حرب التحرير في الريف تقترب من 5000 مؤلف وبحث علمي). ونتمنى أن تعرض صور تاريخية ولوحات فنية ذات صلة بالموضوع.
نأمل أن يبادر الجميع إلى إحياء هذه الذكرى المئوية لبداية الانتصارات على الاستعمار الأوروبي المعاصر من المغرب، والاحتفاء بذكرى مثلث التحرر؛ تقديرا لأبطاله الذين أعادوا المغرب إلى منهجية صناعة تاريخه الفاعل، أولئك الذين كانوا بمثابة إكليل نصر طوقوا به رقبة وطنهم في زمن تسابق فيه من تسابق إلى قراءة اللطيف لشفاء قائد الاحتلال الأجنبي للمغرب، الجنرال ليوطي، من مرض ألم به سنة 1921. (كما ذكر ديديي مادراس (MADRAS Didier ) في مؤلفه dans l’ombre du Marechal loyautés souvenires1921/1934، في صفحة 170، أن الأعيان، والأئمة، والعلماء، اصطفوا تحت نوافذ قصر ليوطي بفاس، حاملين أعلامهم، وهم يرددون “اللطيف”، الدعاء الذي يرفعونه لدفع أي بلاء يتهددهم.)
من المأمول أن يشمل الاحتفاء بإحياء هذه الذكرى المئوية الأولى بتقييم ما تم إنجازه في المغرب خلال القرن الأول من ملحمة أنوال وأخواتها، والقيام من جهة ثانية بالكشف عن عثرات المغاربة، إن وجدت، التي حالت دون تحقيقهم التغيير المنشود من قبل آبائهم، والخروج من أوضاعهم التي لا تتجاوب مع طموحاتهم المشروعة، مع التركيز على أسباب ذلك ومسبباتها، وكيف يتم تجاوزها. وفي مستوى ثالث يكون جديرا بأن تُطرح أسئلة واستفسارات عما ينتظر المغرب خلال المئوية الثانية، وتقديم اقتراحات وكيفيات تحقيقها على أرض واقع المغاربة
نتمنى أن نكون جميعا: هيئات رسمية، وجمعيات المجتمع المدني، ومراكز البحث التاريخي والاجتماعي والعلمي، ومفكرين، وأدباء، وفنانين، في الموعد من أجل تخليد هذه الذكرى بما هو واجب على جيلنا، تقديرا لكل من لبى نداء الوطن وهو يتعرض لخطر فقدان حريته وكرامة مواطنيه، والتأكيد أن مغاربة اليوم ما زالوا حريصين كأجدادهم على سلامة وطنهم وتقدمه وتطوره وتحقيق المواطنة الكاملة لكل المغاربة.
*أستاذ فلسلفة التاريخ ودبلوماسي مغربي سابق مقيم في كندا
تعليقات الزوار ( 0 )