شارك المقال
  • تم النسخ

أي دور للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تنزيل النموذج التنموي الجديد؟

مما لاشك فيه أن الأسئلة الأساسية التي تفرض ذاتها في سياق ميلاد النموذج التنموي الجديد، تتمثل في المكانة التي حظيت بها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تدابير الرؤية الاستشرافية التي جاء بها النموذج التنموي الجديد؟ ثم ما هي الهوامش المتاحة أمام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للمساهمة في تنزيل طموحات التنمية البشرية الواردة في النموذج التنموي الجديد؟

تكتسي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أهمية خاصة في إطار المجهود العمومي المبذول منذ انطلاقة هذا الورش الهيكلي في 18ماي2005 من طرف جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، وهي مؤطرة بغايات أساسية مفادها تجاوز عجوزات التنمية البشرية في كل المجالات ذات الصلة بالرأسمال البشري؛ كالتعليم والصحة، والبنيات التحتية والتجهيزات الأساسية، خصوصا بالعالم القروي. وبفضل مخرجاتها، وآثارها الايجابية على مؤشرات التنمية البشرية، انتخب المغرب في 2018 عضوا بالهيئة الأممية للتنمية الاجتماعية، وقبل ذلك، صنف البنك الدولي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ضمن المرتبة الثالثة من بين أفضل البرامج الاجتماعية في العالم.

وبالرجوع إلى النموذج التنموي الجديد، يلاحظ أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية صنفت ضمن خانة الإصلاحات الحيوية التي انخرط فيها المغرب مع بدايات القرن 21، حيث مكنت إلى جانب برامج أخرى كنظام المساعدة الطبية، وتعميم التعليم، وفك العزلة عن العالم القروي وربطه بالشبكة الكهربائية، وكذا محاربة السكن غير اللائق، من تقليص العجز في المجال الاجتماعي وتسجيل انخفاض ملموس في معدل الفقر.

وعموما، يرتكز النموذج التنموي الجديد على مقاربة نسقية ومندمجة، تسعى في أبلغ مراميها إلى إحداث تحولات جذرية تشمل العمل على تحقيق طموح مشترك، وفي نفس الوقت جماعي للانتقال إلى مغرب مزدهر، مغرب الكفاءات، مغرب الإدماج والتضامن، مغرب الاستدامة والجرأة. ويستوجب هذا الطموح في جوهره تعبئة كل إمكانات البلاد عبر وضع العنصر البشري في صلب أولويات السياسات العمومية، سواء باعتباره فاعلا أو مستفيدا من نتائج التنمية. ويتوافق هذا الطموح مع الانتظارات المستعجلة المعبر عنها من طرف مواطنين تواقين إلى المشاركة والتمكين والاعتراف، وفق أهداف تنموية محددة وفي المتناول قصد الارتقاء بالمملكة المغربية لتتبوأ مكانتها ضمن الثلث الأول من ترتيب الدول في عدة مجالات في أفق 2035.

ولعل من بين أهم تجليات حضور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في صلب النموذج التنموي الجديد، ما ورد في صلب التذكير بمضمون ووتيرة الإصلاحات التي تسارعت في عقد 2000، والتي سمحت بإطلاق دينامية تنموية حميدة وتعبوية. حيث مكنت برامج كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية من تقليص العجز في المجال الاجتماعي وتسجيل انخفاض ملموس في معدل الفقر. وهنا يتبين أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أشير إليها بالاسم، في حين أن باقي السياسات العمومية جاءت على سبيل العموم والاستشهاد. وهذا يدل دلالة قطعية على أهمية واستراتيجية وحتمية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كواحدة من النماذج الجريئة للسياسات العمومية في جوانبها الاجتماعية المتصلة بالنهوض بالرأسمال البشري. وهو اعتراف يمثل حافزا لاستمرارية واستدامة هذا الورش الاجتماعي الكبير الذي راكم من المؤشرات الايجابية في مجالات الإدماج والتشارك و لاسيما بالنسبة لفئات اجتماعية عانت من التهميش والإقصاء، وغياب كل المحفزات التي تستقطبها للاندماج في سيرورة العملية التنموية للدولة.

وفي مقابل ذلك، يبدو أن حضور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لا يقتصر فقط على النقط المضيئة، بل هي واردة في سياق جرد المعيقات التي تحد من مردودية النموذج التنموي الحالي، وهي معيقات، و إن كانت عامة تطال مختلف السياسات والبرامج والاستراتيجيات العمومية، فإنها تمس في الجوهر أداء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وكان لها التأثير السلبي في عدم بلوغ مشاريعها للطموحات الجريئة التي حكمت ميلادها. ومن بين هذه المعيقات، نشير إلى ضعف الالتقائية بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وباقي السياسات العمومية، ذلك أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ما زالت عبارة عن برنامج تكميلي لسياسات حكومية أخرى، دون إمكانية الحديث عن سياسة حكومية شاملة، فهي لا زالت إلى حدود الآن برنامجا إضافيا للحد من الفقر والإقصاء.

ومن بين المعيقات كذلك، ما يسري على خدمات القطاع العام، حيث يتحدث النموذج التنموي عن محدودية قدرات القطاع العام في صياغة وبلورة خدمات عمومية سهلة الولوج، وذات جودة تهم المجالات الأساسية للحياة اليومية للمواطنين ورفاهيتهم. وتفسيرا لذلك، يلاحظ أن القطاع العام يشتغل بصفة علوية و ممركزة، وبمنطق لا يعتمد بشكل كاف على المردودية والنتائج، و لا يسمح بتطوير رؤية استراتيجية للاطلاع بدوره في إطلاق ومواكبة العديد من أوراش التحول. وهي اختلالات حقيقية تطال بدرجة أو بأخرى مسار تنزيل مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية خصوصا على مستوى إعداد و إنجاز وتنفيذ و تتبع وتقييم مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. حقيقة تشكل الحكامة الجيدة أحد المحددات الناظمة لهذه الأخيرة، غير أنها تعاني من حدود شتى تتجلى في صلابة العلاقة العمودية بين التنسيقية الوطنية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية و اللجان الإقليمية و الجهوية للتنمية البشرية، و نوعية الموارد البشرية، وطول الإجراءات والمساطر الإدارية اللازمة لصرف التمويلات الموجهة للمشاريع.

ومما يندرج ضمن هذه المعيقات، محدودية تفعيل الآليات المحلية للتتبع والتقييم للوقوف الآني على سير وتقدم مختلف المشاريع المبرمجة بصفة دورية ومستمرة، على مدار عمر المشروع، وبالتالي التأكد من أن التنفيذ في الطريق والإطار الصحيح من جهة، ومن جهة ثانية لقياس تأثيرات البرامج والمشاريع ومعرفة مدى فعاليتها ونجاعتها و أثرها على الفئات المستهدفة.(للاستزادة يرجى مراجعة مقال الأستاذ هشام الحسكة تحت عنوان: تقييم البرامج التنموية للجماعات الترابية: المفهوم والتأصيل التشريعي، ضمن المؤلف الجماعي: البرامج التنموية للجماعات الترابية-منشورات مركز الدراسات في الحكامة والتنمية الترابية-طبعة2020). وتعتبر هذه المعيقات نتاجا لتمثلات تتصور الرقابة الممنهجة والمركزية بمثابة أنماط مثلى لتدبير التنمية، ولاسيما التنمية البشرية.

ومن هذا المنطلق، جاء النموذج التنموي الجديد بتدابير طموحة، الهدف منها تجاوز كل هذه المعيقات من خلال العمل على إطلاق خيارات إستراتيجية ورهانات مستقبلية، من شأنها إطلاق دينامية جديدة قادرة على خلق الثروة الضرورية لإدماج جميع المواطنين وجميع المجالات الترابية. بعض من هذه الخيارات تتضمن تعزيز ما هو قائم أو تسريع وتيرة الإصلاحات الجارية. وهناك خيارات أخرى هي بمثابة قطيعة مع الوضع الراهن على الأقل فيما يخص المنهجية أو فيما يتعلق بالهدف المنشود.

وعلى هذا الأساس، تندرج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ضمن إطار تعزيز ما هو قائم على الأقل فيما يخص الفلسفة العامة، و التصورات الكبرى التي تؤطر مراميها في الجوانب المتصلة بتأهيل الرأسمال البشري. فهي تعد من بين الخيارات الإستراتيجية التي يجب أن تستمر على مستوى التصور والطموح بالنظر إلى مزاياها التي راكمتها منذ انطلاقتها في 18 ماي 2005، و التي أكسبتها مناعة حقيقية في مواجهة كل التحديات التي رفعتها في مجالات اشتغالها.

وفي إطار هذا الضوء المبدئي العام، يمكن القول أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ستلعب أدوارا حاسمة في تسريع تنزيل الطموحات التي سطرها النموذج التنموي الجديد وفق ما يلي:

  • مغرب الازدهار: تستطيع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن تساهم في تعزيز التحول الهيكلي للاقتصاد الوطني من بوابة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، انطلاقا من برنامج تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي، دون أن يقتصر ذلك فقط على الشباب، حيث يجب أن يشمل جميع الفئات الاجتماعية، و أن يتجاوز المنظور الضيق لهذا النوع من الاقتصاد، والذي يتمثل في تعاونيات بسيطة أو مقاول ذاتي، باتجاه مشاريع تعاونية كبرى قادرة على استيعاب فرص شغل كبيرة، مع الحرص على توسيع وتنويع هوامش التمويل المتاحة، وهي تدابير ضرورية لتمكين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من المساهمة في جعل هذا النوع من الاقتصاد دعامة للتنمية، ومصدرا لخلق فرص الشغل داخل المجالات الترابية.

    ولابد من التأكيد على دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحسين القابلية للتشغيل، وهو دور أساسي يحتاج إلى المزيد من العناية والابتكار والتنسيق بينها وبين مراكز التأهيل المهني والوكالات الإقليمية و الجهوية للتشغيل وإنعاش الكفاءات ضمن منظور استراتيجي شامل، وتوجه التقائي منسجم يوفق بين مخرجاتها و حاجات الاقتصاد الترابي من جهة والاقتصاد الوطني من جهة ثانية.
  • مغرب االكفاءات: مما لاشك فيه أن من بين المجالات التي تشتغل عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كل ما يتعلق بتحسين مؤشرات التنمية البشرية في مجالات الصحة والتعليم للارتقاء بترتيب المغرب ضمن التصنيفات العالمية ذات الصلة. ومن ثمة، فإن مساحة الاشتغال ستتسع أمام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للاضطلاع بدور هام في تجويد الرأسمال البشري، وتحديدا في مجالي التعليم والصحة باعتبارهما ركائز هامة لبلورة هذا الأخير.

    ولأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية شريك، و تشتغل في الوقت الحالي على بلورة مجموعة من المشاريع البناءة، التي تشمل أساسا التعليم الأولي والدعم المدرسي و المراكز الصحية ودور الأمومة واقتناء معدات طبية متطورة لفائدة المؤسسات الصحية العمومية وتنظيم العديد من القوافل الطبية….. و مراعاة لكل هذه المكتسبات، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تتمتع بجاذبية كبيرة على مستوى تعزيز المجهود العمومي في تحريك آليات الارتقاء الاجتماعي المبنية على تجويد أداء و نجاعة المرافق العمومية التعليمية والصحية.
  • مغرب الادماج: ظهرت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كرد فعل اتجاه مظاهر الإقصاء والتهميش والحرمان التي عرفتها مجموعة من الفئات الاجتماعية كالمرأة والمسنين وأطفال الشوارع و مرضى القصور الكلوي والنساء ضحايا العنف و المتسولين والمشردين، والمختلين عقليا….. وهي نفس الأولويات التي أرساها النموذج التنموي الجديد، والتي ينبغي أن تشكل القاعدة المستقبلية لاشتغال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على أساس الدفع بصفة إرادية ومقصودة نحو استقلالية ومشاركة المرأة، ودعم إدماج وتنمية الشباب انسجاما مع قيم المشاركة المدنية والثقافية والرياضية، وضمان قاعدة صلبة للحماية الاجتماعية، تعزز القدرات و الإدماج لفائدة الفئات المحرومة، وتجسد التضامن بين المواطنين وفق مبادئ المساهمات المنصفة.
  • مغرب الاستدامة: يجب تعزيز دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية باعتبارها أحد المداخل الأساسية للتنمية الترابية في بعدها الإنساني والتضامني والاجتماعي، و المساهمة في بناء إطار للعيش الكريم يسمح بتوفير غالبية الخدمات الاجتماعية التي تحفز وتساعد العنصر البشري على الانخراط بدينامية في الحياة العامة سواء كمستفيد أو كفاعل في بناء لبنات العملية التنموية الموجهة إلى جيله أو إلى الأجيال القادمة. علاوة على السعي وراء النمو الأخضر، وذلك في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان الحفاظ على البيئة والهبات الطبيعية.
  • مغرب الجرأة: إذا كان النموذج التنموي الجديد لا يتصور مستقبل المغرب إلا من خلال الارتقاء به إلى مصاف الأقطاب الإقليمية الأكثر دينامية وجاذبية في المجال الاقتصادي والمعرفي، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية توجد في قلب هذا التحدي، و مطلوب منها مواكبة دينامية هذا التحول، والمساهمة بحكامة عالية في الزيادة في سرعة التقدم و الرفاه، لأن المجالات التي تشتغل عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي حوافز موضوعية ووظيفية لانسجام عناصر التحول.

    ومن هذا المنطلق، و حتى تستطيع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن تساهم بفعالية ودينامية ايجابية في تنزيل طموحات النموذج التنموي الجديد، فإنها مدعوة إلى تحديث جهاز اشتغالها فيما يخص الكفاءات وطرق العمل والاعتماد الكبير على الرقميات بالنظر إلى آثارها من حيث تحقيق التحول السريع. كما أن تحسين أدائها يقتضي تبسيط مساطر إعداد وتنزيل المشاريع، و مراعاة الكفاءة والخبرة و الفاعلية في تكوين أجهزة الحكامة، وخاصة اللجان الإقليمية والجهوية للتنمية البشرية. مع استحضار ضرورة الارتقاء بأقسام العمل الاجتماعي إلى مستوى مراكز جهوية وإقليمية للتنمية البشرية تدبر – تحت إشراف السادة الولاة والعمال- من طرف كفاءات بشرية تكرس ثقافة الأداء والنتائج. مستفيدة من مزايا الشخصية الاعتبارية التي تضمن لها الاستقلالية القانونية في اكتساب الحقوق والتحمل بالواجبات، وهي قفزة قانونية ستساهم في تجويد وتسريع وتيرة اشتغال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على الصعيد الترابي.

    ومن شأن اعتماد هذه التغييرات في منظومة تدبير برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن تجعل العلاقة بين هذه الأخيرة والفئات المستهدفة أكثر انسيابية وشفافية. كما تتطلب فرضية الإصلاح، مواكبة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للثورة الرقمية، لان السرعة والفعالية والجودة جلها أهداف تسعى إليها الإدارة الالكترونية في سبيل الرفع من جودة الخدمات المقدمة، وتقليص المدة الزمنية لهذه الأخيرة، وتقريب وإرساء إدارة سهلة الولوج.
    وفي الختام، ينبغي التأكيد على أهمية ودور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في المساهمة بفاعلية واحترافية في تنزيل التصورات المضمنة في النموذج التنموي الجديد، لأن لديها من التجربة والمكتسبات والتراكمات ما يؤهلها للإضطلاع بهذا الدور، غير أن ذلك يتوقف على إجراء تغييرات جذرية في طريقة وبنيات اشتغالها باتجاه مزيد من الحكامة المؤسساتية والإدارية.

دكتور في القانون العام/إطار بوزارة الداخلية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي