Share
  • Link copied

أي درس يستفاد من التوتر في تونس؟

ما يجري في تونس من توتر اجتماعي وأمني، ليس أمرا عاديا يمكن أن يلجأ فيه إلى المقاربات الجاهزة، التي تحاول الوصول إلى النتائج، أو بعث الرسائل السياسية، قبل فهم الظاهرة في عمقها.

البعض يستسهل القراءة، ويظن أن هذه التوترات الاجتماعية والأمنية، تسمح بالحديث عن مأزق خيار الثورة، وأن جميع تطلعاتها، أصبحت سرابا، وأن تونس أضاعت عقدا من الزمان، لتعود إلى نقطة الصفر التي منها انطلقت شرارة الثورة، أي أن مسار ما بعد الثورة، بدل أن يحقق حلم التونسيين، فإنه انتهى إلى خلق شروط ثورة على الثورة.
في المقابل، ثمة رأي آخر، لا يقل سياسوية عن سابقه، يرى أن الأحداث التي تجري هي ثمن لتبخيس الحقل الحزبي، والتحكم فيه عبر تشغيل ورقة التكنوقراط، وألا أحد اليوم يستطيع استيعاب الحراك الاجتماعي، أو على الأقل، إعادته إلى خط السلمية. الفريق الثالث، يلوذ بمعطيات الوضعية الاجتماعية، وبالتحديد ارتفاع مؤشرات البطالة (حوالي 18 في المائة) وتوسع الفئة التي باتت تعيش تحت عتبة الفقر، وفشل السياسات المتعاقبة في الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، ويعتبر أن تفجر الوضع، وبلوغه درجة الاحتكاك المباشر مع الأجهزة الأمنية ومع الجيش، لا يفسره إلى حالة الإحباط والياس من وجود أي خيار يمكن اللجوء إليه لتصحيح الوضع الاجتماعي.

ثمة فريق آخر، أو رأي رابع، يعبر عن ذاته دائما بالاستناد إلى أطروحة المؤامرة الخارجية، والأيدي الأجنبية، التي عبثا حاولت في الماضي أن تزعزع الاستقرار، وأن تفت من عضد الثورة ففشلت، فسنحت لها الفرصة اليوم، بعد تردي الأوضاع الاجتماعية، لاختبار تكتيكاتها من جديد، للعب بورقة الشباب للمس باستقرار تونس وخياراتها الوطنية والدمقراطية وسياستها الخارجية التي لم ترق بعض المحاور الإقليمية في المنطقة. لا نستطيع أن نمضي أكثر في استعراض التفسيرات الجاهزة، التي تنتفع من رسائلها الأطراف التي تريد أن تحسن شروط تموقعها أو الأطراف التي خسرت في تحصين موقعها في مربع السياسة، فما يجمع هذه التحليلات كلها، أنها لا تزال تعيش زمن ما قبل الثورة وربما لا تختزن أي تمثلات عن زمن الاستبداد والتحكم أو أحلام الثورة وتطلعاتها. لنتوقف على ثلاثة أبعاد سوسيولوجية في حركة الشباب الاحتجاجية في تونس، تتعلق بالتركيب الشبابي غير المنسجم، والوضع الاجتماعي، وأشكال التعبير. تكشف هذه الأبعاد عن ثلاثة معطيات دالة، أولها أن الظاهرة الاحتجاجية جمعت ثلاثة مكونات أساسية، مكون حانق اجتماعيا يحركه مخزون الغضب من السياسات الاجتماعية، ومكون مسيس، يربط الوضعية الاجتماعية بنقد سياسي قاس لبنية السياسة، ومكوناتها الحزبية، والعلاقات التي تحكم المؤسسات، ومكون ثالث، يحمل خلفية إجرامية، امتزجت حركيته داخل هذا الزخم بحكم الواقع الاجتماعي المتردي في تونس.

أما المعطى الثاني، فيتعلق بمحورية الغضب الاجتماعي المازج بين مكونات هذا الطيف الاجتماعي، فإذا كان من المألوف والاعتيادي أن ينتقل التعبير عن الغضب الاجتماعي إلى فعل سياسي مؤطر أو عفوي، فإن البعد الجرمي، لا يدخل المعادلة بشكل قوي، إلا إذا حصل قدر كبير من التفكك في بنية الدولة أو العلاقة بين مؤسساتها. أما المعطى الثالث، الذي يتعلق بأشكال التعبير، فالحالة الغضبية التي اختارت العنف كخيار للتعبير الاجتماعي أو ربما السياسي، لا يمكن فهمها فقط من زاوية اشتراك المكون الجرمي في الأحداث، بل، إن ما يفسرها، يوجد بالقطع في مربع السياسة. تركيب هذه المعطيات يفيد بأن الأحداث التي حصلت في تونس، هي تعبير عن جيل جديد من الشباب، الذي لا يحمل أي مرجعية تحدد موقفه من مستقبل تونس، لا مرجعية ما قبل الثورة، ولا مرجعية الثورة، ولا مرجعية الفكاك من نخب الثورة، وإنما تتحدد تمثلاته في تطلعاته الاجتماعية التي لم تجد من يحققها، لا نخب الثورة، ولا النخب التي تريد الثورة على الثورة، ولا الوضعية السياسية الجديدة التي دخلتها تونس، بعد أن حمل تقييمها السابق محاكمة للمشهد السياسي الحزبي، فانتهى بها المطاف إلى إخراج الفاعل السياسي من مربع التدبير الحكومي وإناطته بحكومة تكنوقراط التي سرعان ما تم التنصل منها !

التقييمات السياسية التي تنتجها تقريبا كل نخب السياسة في تونس، أن البلاد عجزت عن إنتاج برنامج اقتصادي واجتماعي ينهض بالبلاد، ويحقق قدرا من النمو الاقتصادي الذي يكفي عائده لردم الفجوات الاجتماعية التي أنتجتها مرحلة الخروج من الاستبداد، لكن، سؤال سبب العجز عن ذلك، لا يجد تقييما جريئا وشجاعا. فنخب الثورة ليست معنية بالمطلق ببحث أخطائها الاستراتيجية ومحاولة تصحيحها، فقد أخطأت خطأ استراتيجيا، حينما دخلت الحكم، وهمها اقتناص الفرصة لمصالحة ضحايا الاستبداد بإدماجهم في دواليب الدولة مما رفع من الكتلة الأجرية للبلاد، فصار معها أي تحرر لميزانية الدولة غير ممكن، وأخطأت مرة أخرى، حينما جعلت بناء التوازنات الماكرو اقتصادية للبلاد على هامش، المحاصصات الحزبية، وأخطأت مرة ثالثة، عندما، عاشت تحت رحمة ضغط الشارع، وملاطفة الذين يبتزون الدولة بالاحتجاج، فارتهنت الميزانية العامة للدولة، وفقد الفاعل السياسي مصداقيته لدى الجمهور، وفقدت الدولة هيبتها أمام المحتجين. هذه الأخطاء الاستراتيجية الثلاثة، لم ينفع معها أي علاج، إذ عمقت الصراعات الحزبية في البدء، لتجد الدولة نفسها، بعد أن أخرجت الطيف السياسي، من التدبير الحكومي، في معركة بين المؤسسات، تظهر صورتها في رئيس يصارع مؤسسة البرلمان، ويصارع الأحزاب، ويصارع مؤسسة رئاسة الحكومة، وتظهر الصورة في المقابل، رئيس حكومة، يسود ضباب كثيف حول من سيصوت لصالح تعديله الوزاري، ومن لن يصوت عليه، وهل ستكون تونس على موعد مع تطليق حكومة «الرئيس» باستقبال حكومة رئيس الحكومة أم أنها لن تخرج بالمطلق من الدوامة؟

واضح من لغة الشباب وحركتهم الاحتجاجية أن ما يهمهم بدرجة أولى، هو وضعيتهم الاجتماعية، التي فشلت بنية السياسة في تونس، بفاعليها، وعلائقهم المؤسسية، في إنتاج جواب عنها. الدرس الذي لم تستفذه النخب السياسية في تونس، أن القاعدة الشعبية هربت من السياسة، وأن الدستور بخلفيته الديمقراطية المعيارية، وكل الزخم الذي عاشته تونس وهي تبني مسارها الديمقراطي، لم يغن شيئا في ظل هشاشة الفاعل الحزبي، وضعف رؤيته الاستراتيجية، وقلة وعيه بمفهوم الدولة ومنطقها في الاشتغال السياسي، وكيف يسبق هم بناء الدولة بمرفقاته ومتعلقاته السياسية والمالية والأمنية، أي هم آخر.

Share
  • Link copied
المقال التالي