شهد العالم خلال الأسابيع الفارطة معركة بين المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة و قوات الاحتلال الإسرائيلية عقب الأحداث التي عرفها حي الشيخ الجراج و التي كانت تسعى إسرائيل إلى ضمه مع المستوطنات في مخطط يسعى إلى بناء 200 وحدة سكنية لإسكان مستوطنين يهود فيها، وسط هذا الحي العربي الواقع في القدس الشرقية المحتلة عام 1967م. أثار هذا المخطط انزعاج لدى الفلسطينيين مما جعلهم ينتفضون رفضا لهذه السياسات التوسعية. في المقابل كان مطلبا شعبيا فلسطينيا للمقاومة بأن تقوم برد عسكري يردع الاحتلال من القيام بأي توسع على حساب ممتلكات الشعب الفلسطيني.
خلال هذه الأحداث نشبت حرب استمرت لأزيد من عشرة أيام و التي عرفت تراشقا بالصواريخ و بالقصف الجوي بين فصائل المقاومة و بين قوات الاحتلال. لتنتهي هذه الحرب مخلفة أثارا للقصف العسكري و اثارا سياسية و استراتيجية سيترتب عنها نقلة نوعية في نمط الحروب المستقبلية و نمط في المواجهة المدنية أيضا.
فما إن وضعت الحرب أوزارها حتى سارع قادة المقاومة على إعلان النصر الاستراتيجي الذي تم تحقيقه من خلال هذه المعركة التي أطلقوا على اسمها سيف القدس في لإشارة لما حصل بالقدس من توسيع استيطاني.
و في ما يلي نورد أهم ما اكتسبته المقاومة و ما حققته من أهداف تكتيكية مرحلية و أخرى استراتيجية استطاعت المقاومة من خلالها أن تفرض بعض قواعد اللعبة بشكل متميز :
• عودة التفكير في المقاومة لدى شباب قطاع غزة
يعاني قطاع غزة منذ عدة سنوات حصارا بريا و بحريا و جويا، حصار تبعه عدة إجراءات اتخذتها إسرائيل في حق القطاع، كان أحد هذه الإجراءات هو تضييق الخناق السياسي و الديبلوماسي على حركة حماس، و من جهة أخرى وضع خناق اقتصادي على غزة. ترتب عن كل هذه الإجراءات أزمة اقتصادية، حيث وصف خبراء اقتصاديون في لجريدة ”القدس العربي” الأوضاع الاقتصادية خلال سنة 2020 بالأكثر سوءاً مقارنة مع باقي السنوات الفارطة. هذه الظروف الاقتصادية غيرت نمط التفكير لدى سكان قطاع غزة خصوصا الشباب منهم الذين يعتبرون وقود أي ثورة أو حراك، حيث أصبح البحث عن رغيف الحياة و حتى الهجرة أولوية ملحة و ضرورة مرحلية في عقول الشباب بالقطاع.
الحرب الأخيرة على القطاع غيرت نمط هذا التفكير حيث أعادت إلى أدهان سكان القطاع المعركة الحقيقية و المصرية و هي تحرير أراضيهم من الاحتلال، تجلى هذا من خلال الالتفاف و الدعم الاعلامي الذي حظيت به المقاومة من قبل سكان القطاع. و برز أيضا من خلال الدعم المعنوي الذي حضي به قادة المقاومة من طرف سكان القطاع.
• تطور على مستوى الحرب الاعلامية
بدون شك بأن الحروب العسكرية وحدها ليست كافية لحسم أي صراع ما لم يرافقها حرب اعلامية مدروسة بشكل يخدم أجندات كل طرف. فاستهداف الرأي العام و التأثير فيه من خلال بروبكندا معينة يعتبر أمر جد ضروري في أي معركة. فخلال الحرب التي شهدها قطاع غزة برز و بشكل ملحوظ هذه المرة على غرار عدة قنوات دخول الإعلام التركي على الخط و تبنيه فكرت الدفاع عن الشعب الفلسطيني. برز هذا من خلال الطريقة التي تناول بها هذا الإعلام مجريات الحرب و مدى إبرازه للجرائم التي ارتكبتها اسرائيل من خلال قتله للأطفال و هدمه للبنايات المدنية و الاعلامية. و من جهة أخرى خاضت هذه المرة المقاومة الفلسطينية الحرب الاعلامية باحترافية عالية و ذلك من خلال استهدافها لمنظومة الأفكار التي كانت اسرائيل تحاول بثها أثناء الحرب كان أبرزها أنها ما تقوم بقصفه هو فقط أهداف عسكرية و ليست مدنية، أيضا كانت تنشر اسرائيل في دعايتها أن جبهتها الداخلية مستقرة بينما كان القرار السياسي في أزمة حقيقية و أن أغلب السكان عاشوا تحت الملاجئ في سخط خلال الحرب. كل هذه الادعاءات الاعلامية كان لدى الفصائل طريقة نوعية لدحضه و إبراز حقيقة ما كان يعيشه الكيان المحتل من أزمة داخلية.
• توسيع دائرة القصف و شل الاقتصاد
لعل أعظم انتصار حققته المقاومة خلال هذه المعركة هو إزالتها لتلك الهيبة التي كانت تطرح عندما تحاول المقاومة التفكير في قصف تل أبيب أو حيفا أو الموانئ و المطارات الاستراتيجية. خلال هذه المعركة فتحت المقاومة نوع جديدا من المعارك في استراتيجيتها و حققت بذلك أعظم انتصار و ذلك من خلال توسيعها لمناطق و جغرافيا القصف وأيضا من خلال استهدافها للمناطق الحساسة. بزر هذا خلال الحرب عندما استهدفت المقاومة تل أبيب بوابل من الصواريخ و أيضا من خلال استهدافها للموانئ و شلها لحركة الملاحة الجوية و البحرية.
هذا المكسب الجد مهم سوف يعطي ميزة جديد في الحروب القادمة لصالح المقاومة، و أيضا سوف يجعل قرار خوض الحرب ليس من السهل اختياره عند قيادة اسرائيل، لأن هذا سيكلفها اقتصادية و سياسيا منذ اليوم الأول للإعلان عن أي مواجهة. فبداية الحرب مستقبلا يعني توقف الحركة و الاقتصاد الاسرائيلي و توجه السكان الى الملاجئ ، هذا سيضعف مصداقية أي حكومة اسرائيلية في حال قررت الدخول في المعركة.
• صعوبة اتخاذ قرار الاجتياح البري
في الوقت الذي كانت تطور فيه اسرائيل منظومات الاعتراض الصاروخية و تنشط في العمل الاستخباراتي، كان للمقاومة اهداف استراتيجية أخرى، أبرز هذه الأهداف هي تطويرها لبنيتها التحتية في الأنفاق التي تعتبر تكتيك استراتيجي جد مهم يشكل عائق في اتخاد أي قرار. اسرائيل بدورها تعي مدى قوة هذه الأنفاق لدى حركة حماس. و بالتالي فقرار خوض أي اجتياح بري لن يكلف الاحتلال فقط خسائر اقتصادية و سياسية، بل سوف يدخله في حرب مجهولة المصير مع عدو لا يمكن رصده فوق الأرض.
من جهة أخرى لا تزال القيادة الاسرائيلية تعاني من عدت انتقادات بسبب عدم ايجادها لأي حل في ملف الجنود الأسرى لدى كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس. و بالتالي فقرار الاجتياح البري لم يعد بتلك السهولة التي كانت من قبل بل أصبح الاحتلال يخاف من دفعه لضرائب فقدانه لجنوده و أسرهم لدى المقاومة.
• حضور القيادات العسكرية في الصفوف الأولى خلال الحرب
شهدت السنوات الأخيرة حربا اعلامية بين المقاومة و اسرائيل، تبنت اسرائيل خلال هذه المعركة أسلوب التضليل الاعلامي من خلال نشرها لعدة أكاذيب. أبرز ما كانت تروج له هو أن قادة المقاومة غير متواجدين على مناطق التماس.
خلال هذه الحرب تم استهداف خمس كوادر عسكرية حساسة لدى كتائب القسام، هذا الاستهداف على الرغم من أنه سيأثر نسبيا و لمدة قصير على المقاومة إلا أن النهج التي تسير نحوه المقاومة من خلال تكثيرها لخطوط القيادات العسكرية سيجعلها تستدرك بسرعة هذه الخسارة. لكن في المقابل سيعطي رسالة للشعب الفلسطيني بأن قيادة المقاومة حاضرة في الصفوف الأولى سياسيا و عسكريا و ميدانيا، سيترتب عن هذا تقوية لمصداقية المقاومة و بالتالي الرفع من منسوب الدعم عند الشعب الفلسطيني و العربي للمقاومة.
• عودت حس الانتفاضة بالضفة الغربية
يعتبر طرد الفلسطينيين و تهجيرهم من حي الشيخ الجراح الشرارة لبداية السخط عند الفلسطينيين بالضفة الغربية، ترتب عن هذا السخط و الاحتقان بروز مناوشات بين المدنيين الفلسطنيين أصحاب الحق و الأرض و قوات الاحتلال التي تسعى لتهجيرهم و توطين مستوطنين محلهم لتفرض بعدها سياسة أمر الواقع. تصاعدت هذه المواجهة و تمادى جنود الاحتلال في قمعه للسكان المدنيين، لينتفض بعدها الشباب في عدة مناطق بالضفة الغربية و في وقت واحد ضد هذه الغطرسة. و مع توالي المواجهات بات مطلبا لدى الشعب الفلسطيني للمقاومة بالرد على هذه الانتهاكات.
شكل هذه الزخم في الأحداث و الوقائع عودة حس الانتفاضة عند الشباب في الضفة الغربية و ما ترتب عنده من فتح عدت نقاط للتماس مع الاحتلال. شكل هذا أيضا حرجا جد كبير لدى السلطات الاسرائيلية التي كانت تعتقد بأنها حسمت الامر مع السلطة في الضفة الغربية من خلال التنسيق الأمني مع السلطة. و بالتالي سيتيح اعادة نفس السيناريو هذه المواجهات مستقبلا في حال تعرضت أي منطقة للتهجير.
• تلاشي كل مبررات التطبيع
عرفت السنة الفارطة هرولة العديد من الدول نحو تطبيع للعلاقات مع اسرائيل، هذا التطبيع كانت تسوق له الدول العربية على أنه يمكن من خلاله أن تشهد هذه الدول نهضت اقتصادية، أو أن تقايض من أجل حصولها على مكتسبات سياسية أو حل لأزمات داخلية أو خارجية، و أيضا سوقت بعض الأنظمة خطابا مفاده أن التطبيع سوف يقوي قوة البلدان العربية في الدفاع عن القدس.
هذه المعركة، أظهرت لشعوب العالم العربي حقيقة التطبيع، و الذي لم يكن في حقيقته إلا أسلوب حتى تستطيع إسرائيل الحصول على شرعية قانونية وشرعية للمجتمع الدولي تستطيع من خلاله قتل المدنيين الفلسطينيين بالشكل الذي تريده و تستطيع توسيع استيطانها بالشكل الذي تريد طالما أنه ليس هناك موقف عربي رسمي قوي يلجم مثل هذه الأفعال. و بالتالي أصبح ملموسا أن خيار التطبيع يخدم اسرائيل أكثر مما يخدم القضية الفلسطينية.
• أصبحت المقاومة طرف مهم من الحل
استطاعت المقاومة خلال هذه المعركة أن تفرض نفسها كطرف بارز و مهم في الدفاع عن القدس في الوقت الذي كانت تسعى فيه اسرائيل و العديد من الدول العربية إلى تهميش دور المقاومة و خفض تأثيرها سياسيا. هذه المعركة بدى واضحا لأي متتبع لها مدى الدعم الذي حظيت به المقاومة سواء لدى الشعب الفلسطيني و أيضا لدى شعوب العالم العربي. حيث برز هذا من خلال تفاعل على منصات اتواصل الاجتماعي و التي لعبت دور مهم في نقل تفاصيل و مجريات المعركة و انجازات المقاومة و خطابات القادة العسكريين و السياسيين للمقاومة.
ما ستعرفه الأيام القادمة هو أن نسبة شعبية المقاومة ستزداد و بالتالي فإن المقاومة ستحصل على قاعدة وفية أوسع تجعلها سندا معنويا لها في الحروب القادمة.
و ختاما، يمكن القول بأن هذه المعركة ستفتح الباب أمام نقلة نوعية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، نقلة على المستوى السياسي حيث سيكون لحركة حماس دور مهم في رسم معالم النضال السياسي و السلمي مستفيدة من حجم التعاطف الشعبي العربي و الفلسطيني، و نقلة على المستوى العسكري من خلال فتح الباب للمقاومة لفرض بعض قواعد اللعبة مستقبلا. يمكن القول بأن المرحلة المقبلة سوف تعرف تحركا ديبلوماسيا فلسطينيا واسعا تقوده حماس. و في المقابل ستسعى اسرائيل الى تكثيف الجهود لعزل حركة حماس. أما عسكريا فستسعى اسرائيل الى تطوير منظومات الدفاع الجوي و توسيع دائرة الجواسيس لكي تتمكن من الحصول على أكبر قدر من المعلومات عن فصائل المقاومة.
المصادر :
لقاء على قناة الجزيرة : بلا حدود ..هنية : “سيف القدس” أفشلت صفقة القرن وخيارات المقاومة مفتوحة
جريدة القدس العربي : غزة: الاقتصاد خلال عام 2020 وصف بالأسوأ على الإطلاق
ترك برس : الإعلام التركي الناطق بالعربية يتحول إلى “كابوس” يؤرق الاحتلال الإسرائيلي
موقع الجزيرة: الاحتلال وصفهم بـ”هيئة أركان عمليات حماس”.. القسام تؤكد استشهاد قائد لواء غزة وعدد من رفاقه وتتوعد بالرد
تعليقات الزوار ( 0 )