أبهرت سلمية الثورة السودانية كثيرا من المتابعين والباحثين فى شؤون القارة السمراء، بل تنبأ البعض بأن السنوات المقبلة ستشهد عودة السودان مرة أخرى إلى الساحة الدولية بشكل قوي وذلك قياسا لما يمتلكه هذا البلد من موارد متعددة، وطاقة بشرية مؤهلة، وخبرات فى مختلف الميادين والتي توزعت على مختلف بلدان العالم بسبب سياسات النظام السابق، التى جعلت هذه الكفاءات تبحث عن ذواتها خارج ذالكم النظام المغلق، الذي دجن الدولة لفئة محددة من أبناء البلد الواحد.
لا شك أن هذه التوطئة حبلى بعبارات التفاؤل التى تدخل الطمأنينة الى النفس، ولكن هل يا تري أن هذه النظرة الإيجابية تعكس الواقع المعيش بعد مضي أكثر من سنة ونيف على إزاحة أطول نظام سياسي عرفه السودان منذ الاستقلال، انطلاقا من الواقع السياسي الراهن. سنطرح العديد من التساؤلات عن مآلات الثورة السودانية وسيناريوهات مستقبلها استنادا لما يدور داخل الساحة السياسية بصورة عامة، فهل ستنتقل الدولة السودانية من مرحلة الشمولية (المهذبة) الى مرحلة الفضاء الديمقراطي التعددي السياسي؟ أم يمكن أن تعود البلاد للمربع الأول لما قبل اندلاع الثورة؟ وهل هنالك خطر استنساخ حالة الاحتراب الداخلى التى عصفت بالعديد من الدول التى شهدت ثورات على أنظمة سياسية مشابهة لحالة السودان من عدة نواحى كما حدث فى ليبيا واليمن وسوريا، أم أن الأمر بعيد عن السودان تماما؟ أسئلة كثيرة قد لا نجد لها إجابات شافية ولكن تجعلنا نستشرف بعض السيناريوهات المحتملة استنادا لما تعج به الحياة السياسية فى اللحظة الراهنة.
أولا : سيناريو الانتقال الديموقراطي
لاشك أن الكل يراهن على هذا السيناريو كثمرة لنجاح الثورة فى إزاحة نظام جثم على صدر الشعب لأكثر من ثلاثين عاما، لهذا يرى العديد من الباحثين أن اختيار رئيس وزراء يحظى بقبول الجميع داخل الدولة يسهل من عملية التأسيس للمرحلة المقبلة من خلال وضع الأسس التى تبنى بها الدولة السودانية بمعايير جديدة يتفق عليها الكل ويترك أمر حكم البلاد للشعب. بمعنى آخر أن تتعلق المرحلة الانتقالية بهندسة كيفية حكم السودان مستقبلا وتهيئة الأجواء لما بعد المرحلة الانتقالية التى يحال فيها الأمر لهيئة الناخبين التى تقرر من يحكم البلاد .هذا السيناريو بلاشك يتمناه كل مواطن سوداني (عاقل) وهو الذي الخيار يبحث عنه السودان منذ استقلال البلاد وحتى اللحظة الراهنة بلاشك، إلا أن الواقع السياسي الذي أعقب الثورة أعاد نفس الاشكالات التى يظل يعاني منها السودان عند نجاح كل ثورة عرفها السودان (أكتوبر 1964 وأبريل 1985) وكأن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، من خلال عدم التوافق بين المكونات السياسية وبروز الصراعات مبكرا بين الاحزاب السياسية بل شمل ذلك الصراع حتى قوى الحرية والتغيير التى من المفترض أنها تشرف على عملية الانتقال الديمقراطي فى هذه المرحلة الانتقالية، وهو الأمر الذي سيجعل من ولادة حكومة مدنية صرفة فى ظل مثل هذه الظروف ولادة عسيرة ربما تودي بحياة المولود المرتقب!!! إذا لم تحسن النخبة السياسية الناشطة خلال هذه الفترة الانتقالية التصرف، وتتوافق على خارطة طريق واضحة المعالم تضع السودان على الطريق الصحيح لبدء انطلاق قطار التداول السلمى للسلطة مع حياد كل مؤسسات الدولة ( القضاء، الجيش، الشرطة …الخ) التى سخرت لما يربو عن ستين عاما ونيف من أجل خدمة من يمسك بزمام السلطة.
النتيجة إن عدم تعاون الجميع على خيار التداول السلمي للسلطة ربما يبعثر الأوراق مرة أخرى ويعيد الجيش للواجهة مرة أخرى.
ثانيا: سيناريو عودة الحكم العسكري
لاشك أن هذا السيناريو أيضا يبقى حاضرا حيث أن المؤسسة العسكرية السودانية مسيسة الى حد بعيد حتى ولو أنكر منتسبوها لهذا الوصف، حيث تجد تاريخيا ومن خلال الانقلابات التى حدثت فى السودان او حتى المحاولات التى فشلت، كان ورائها ضباط يدينون بالولاء لإيدلوجيات محددة، وهذا ما جعل من الحياة السياسية فى السودان ترواح مكانها منذ الاستقلال وحتى الوقت الراهن، وذلك لعدم حياد المؤسسة العسكرية ولعل أفضل مثال على عدم حيادية هذه المؤسسة دورها من خلال منتسبي ( جماعة الاخوان المسلمين) فى الانقلاب العسكري فى يونيو 1989م، ومنذ هذا التاريخ وحتى سقوط النظام السابق كانت هذه المؤسسة عصية للاختراق من أي لون سياسي لا سيما فى القيادات العليا ، وبالتالى يمكن التقرير بأن سيناريو عودة الجيش مرة أخرى للحكم ومن ثم إزاحة الحكومة الانتقالية وعدم تمكينها من إكمال مدة الثلاث سنوات يبقى أمرا واردا، حيث برزت فى الآونة الاخيرة العديد من الاختلافات والمراشقات بين المكون العسكري فى المجلس السيادي الذي يشكل رأس السلطة التنفيذية فى المرحلة الانتقالية والشريك الرئيسى من قوي الحرية والتغيير فى العديد من الملفات بل وصل الامر فى فى بعض الحالات الى حد التهديدات المبطنة ، أضف الى ذلك الحملات الاعلامية (الموجهة) التى تحاول التقليل من شأن عمل بعض أعضاء الحكومة المؤقتة وإظهارها بالضعيفة إضافة الى أن العديد من الضباط اللذين يحملون الرتب العليا فى القوات المسلحة كانوا وإلى عهد قريب من المقربين للنظام السياسي السابق بمعنى ان الجانب الأيديولوجي الذي تحدثنا عنه آنفا يبقى هو الوقود المحرك لهؤلاء الضباط وهو ما قد يؤدي فى النهاية الى اللعب على ( المكشوف) من خلال خلق الذرائع ووضع (المتاريس) بشكل أكبر وأعقد أمام الحكومة الانتقالية وإظهارها بمظهر الضعف وعدم المقدرة على تدبير الشأن العام، مع الاتكاء على الغلاء المعيشي وندرة بعض الاحتياجات الضرورية للمواطنين (الموروثة أصلا من النظام السابق) إضافة الى الاحتجاج ببروز النزاعات القبلية فى بعض مناطق السودان فى الاونة الاخيرة واحتمال تجددها مرة اخرى، كل هذه الاسباب ربما تعجل من سيناريو تحرك (الحرس القديم) الذي ما يزال فاعلا فى القوات المسلحة حتى بعد سقوط النظام السابق ، للإنقضاض على السلطة وإعادة السودان مرة أخرى الى الحكم العسكرى تحت تبريرات كثيرة كما أوضحنا، وتتعهد بإعادة السلطة لحكومة منتخبة من الشعب مباشرة ومن ثم تعود البلاد مرة أخرى الى المربع الأول الذي سبق قيام الثورة. ولعل هذا السيناريو يبقى حاضرا إلى جانب السيناريو الاسوء، والمتمثل فى الحرب الأهلية كما حدث فى بعض التجارب الدولية الباحثة عن الانتقال الديموقراطي.
ثالثا: سيناريو الحرب الاهلية
لاشك أنه لا يرجو أحد هذا السيناريو الاسوء على الاطلاق ولكن يبقى حاضرا كنتيجة هامة للتناقضات التى تضرب بأطنابها الواقع السياسي والعسكري السوداني ، ففى الوقت الذي تتفاوض فيه العديد من الحركات المسلحة مع الحكومة الانتقالية برزت أعمال عنف فى شرق السودان وأخرى بغرب السودان وكادت أن تدفع تجاه اتساع دائرة العنف والعنف المضاد من هنا وهناك ، كما سجل وعلى سبيل المثال حادث الاعتداء على قوات الدعم السريع بولاية جنوب كردفان (بمدينة كادوقلي). حالة من الترقب لردة الفعل التى قد تلجأ لها قوات الدعم السريع كنتيجة لاستهداف منتسبيها، وهذا هو بيت (القصيد) في هذا السيناريو حيث أن التقاطعات والمنافسة لبسط النفوذ بدت ظاهرة للعيان مابين القوات المسلحة (الجيش) وما بين قوات الدعم السريع التى كان يعول عليها النظام السابق لحمايته فكانت له سما زعافا، وخيبت ظنه من خلال انحيازها للثورة، إلا ان هذا الموقف لم يشفع لهذه القوات التى ترى بعض الحركات المسلحة ولاسيما فى دارفور أنها جزءا أصيلا من النظام السابق وأنها شاركت بشكل رئيس فى ارتكاب مجازر بحق سكان هذا الاقليم، وبالتالى فإن قيادتها مسؤولة ويجب محاكمتها، مع اتهامات مباشرة لهذه القوات بفض إعتصام القيادة العامة فى 29 من رمضان العام الماضي مما أدى الى استشهاد عدد كبير من الثوار، وهو الأمر الذي تنفيه هذه القوات مرارا وتعتبره أمرا مقصودا من النظام السابق نكاية بها لانحيازها لثورة الشباب. هذا الواقع المأزوم مع تنافس القوات المسلحة وقوات الدعم السريع لبسط النفوذ داخل الدولة مع عدم قبول الحركات المسلحة بدارفور لهذه القوات ولقيادتها قد يدفع فى الاخير الى اندلاع النزاع المسلح بين هذه القوات جميعها من أجل حسم هذه الازدواجية العسكرية من جهة داخل الدولة وكقتال عدو يجب إزاحته من السلطة ومن ثم من مؤسسات الدولة وهو ما قد تقوم به الحركات المسلحة المعارضة سواء بدارفور او بجنوب كردفان وهو ما سيدخل البلاد فى أتون حرب أهليه قد تدور رحاها داخل العاصمة القومية التى تعرف سيولة للسلاح مع وجود عدد كبير من قوات الدعم الدعم السريع منتشرة على مختلف مدن العاصمة منذ سقوط النظام السابق.
النتيجة التى يمكن تقريرها على ضوء هذه السيناريوهات المحتملة هو أنها ممكنة الحدوث وليست ببعيدة عن الواقع السوداني كما حدث تماما فى بلدان عديدة كانت تظن أن مجتمعها محصنا من مثل هذه السيناريوهات، و لكن يبقى العقل السوداني قادرا على أن يتلافى السيناريوهين الاخيرين ، لأن حدوثهما يعنى مزيدا من العودة للوراء بسرعة الضوء وهو ما سيؤدي الى اعتبار السودان دولة فاشلة حيث سيدفع هذان السيناريوهان الأخيران الى مقاطعة الدولة من قبل المنظمات الدولية ولن يتم التعامل مع أى حكومة بإعتبارها غير شرعية، ومن ثم سيضطر الجميع للبحث من جديد عن التأسيس لانتقال سلمي للسلطة وهو ما سيعيدنا لذات الدائرة التى مازال يدور فيها السودان منذ خمسينيات القرن الماضى.
لذلك فى تصوري الخاص على الجميع، بما فيهم الأحزاب السياسية التى تحاول القفز من مركب التجهيز لمرحلة الانتقال الديموقراطي، العمل وبشكل توافقي لجعل السيناريو الأول هو الخيار الوحيد الذي تراهن عليه، لأن الرهان على أي حلول أخرى غير الانتقال الديموقراطي يعنى انتظار هذه الاحزاب ربما لثلاثين عاما أخرى أو أكثر، وبالتالى يجب على النخبة السياسية أن تتوافق على مستلزمات المرحلة الانتقالية وتترك التفاصيل المختلف فيها لمؤسسات السلطة السياسية التى سيتم انتخابها لاحقا.
* باحث فى العلوم السياسية والدستورية، كالفورنيا – الولايات المتحدة الامريكية
نعم قد يكون السيناريو الأول أقرب إلى التحقيق مالم تتدخل القوى الخارجية لتعميق الأزمة و ضرب أي محاولة ناجحة حتى لا تكون امتدادا لنجاحات أخرى خارج السودان. ولعل حبل الود الذي لا زال مبسوطا بين قوى المجلس العسكري و بعض دول الخليج الرافضة لكل تغيير ديموقراطي جدير بالتخوف حول السيناريوهات الصعبة التي تسعى هذه القوى إدخال السودان في أثونها لكي يتم وأد كل نجاح.
أليس الصبح بقريب، ذلك ما ستواجهه الإمارات والسعودية من فجر جديد قد ينبأ باهتزازات ارتدادية داخل نظم الحكم لديها. وآنذاك يمكن الحديث عن استقرار السودان و اتجاهه في طريق الديموقراطية المنشودة.
من خلال متابعتي ارى ان السيناريو الثاني هو الاقرب فبالإضافة الى ما ذكر نجد ضعف الأحزاب التي هي نفسها تحتاج الى (فرمته) وكذلك عقلية النخب السياسية الاقصائية التقليدية ومكائدها ضد بعضها البعض واشكالية الهوية نجدها جميعا تضعف الثقة بين المتنافسين وبالتالي سيكون للمؤسسة العسكرية كلمة الفصل لسنوات اخرى بمباركة من بعض الأحزاب لإنقاذ جديد للبلاد والعباد من الحرب الأهلية وانهيار وتفكك البلاد.. الخ
كل أمنياتنا ان يتحقق السيناريو الأول ولكن بعض الغموض تعتبرى هذا السيناريو من عدم تحقيقه منها بعض الدول الإقليمية التى ترى تحقيقه زعزعة فى انظمتها وخوفها من العدوة كما ترى استقرار البلاد تحت نظام ديمقراطى هو تحجيم لمصالحها فى المنطقة وبالتالى تسعى لؤد المشروع بكل ما أوتيت من قوة لجر البلاد إلى السيناريوهات الثانى والثالث