Share
  • Link copied

أغاثا كريستي.. كتابات “ملكة الغموض” تحافظ على قمة الروايات البوليسية

يُستدعى المحقق الشهير هيركيول بوارو للعودة إلى إنجلترا من سوريا فوراً، فيستقل قطار الشرق السريع. ينهب القطار السكة الحديدية تحت عجلاته نهباً شديداً، كأن الشرر يتطاير منها، بينما تُرتكب جريمة قتل في إحدى مقصوراته، إذ إن أحد المسافرين (ثريّ أمريكي) مقتول بطعنات عدة في جسده.

هذه عمدة رواية “جريمة في قطار الشرق” الصادرة عام 1934 لرائدة الروايات البوليسية أغاثا كريستي التي ألفتها بعدما سافرت على متن قطار الشرق السريع، فصارت إحدى أشهر رواياتها. كما أنها صُورت سينمائياً مرات عدة، آخرها عام 2017.

تكرار البطل.. تأثير أم مصادفة؟

ليست أغاثا كريستي الأولى في عالم الجريمة والغموض، لكنها تقف في الصف الأول لأدباء عالم الجريمة النسوي، فقد سبقها كثيرون مثل الكاتب الأسكتلندي آرثر كونان دويل (1859-1930) صاحب الشخصية الشهيرة شارلوك هولمز والتي جسدت سينمائياً، كما عاصرتها الكاتبة الإنجليزية بي دي جيمس (1920-2014) التي ألفت روايات تغوص في الجريمة وبطلها آدم دالغليش.

هيركيول بوارو، ذاك المحقق الحاذق الساعي وراء الأدلة، المستكشف عوالم مسارح الجرائم والشخصيات، هو البطل الرئيسي في روايات كريستي، فقد ظهر في أول رواية نشرت لها عام 1920 “القضية الغامضة في ستايلز”، مستمراً في رواياتها حتى قُتل عام 1975 في رواية “الستارة”، وربما جعلته المعادل الموضوعي لشارلوك هولمز، وهو ما فعلته جيمس مع شخصية دالغليش.

وهذا التفاعل والتبادل والتقمص بسلسلة روايات يكون بطلها محققاً واحداً يبين التأثير الروائي في عالم البوليسية، فهذا العالم واسع متشعب معقد صعب المسالك، يحتاج إلى بصيرة وحبكة مكثفة حتى يبقى القارئ مشدوداً إليه، دون أن يفلت الخيوط الأساسية، وحتى لا يتشتت مع بطل متكرر.

خبرات تنعكس أدباً

ولدت أغاثا كريستي (وتعرف بالسيدة مالوان) في بلدة توركي جنوبي إنجلترا في 15 سبتمبر/أيلول عام 1890 لأب أمريكي وأم إنجليزية. عاشت طفولة سعيدة، حتى توفي والدها وهي في الحادية عشرة من عمرها، مخلفاً مشكلات مادية، فاكتسبت خبرة في الحياة نتيجة الظروف الصعبة التي عاشتها، مبينة فكراً وتحليلاً انعكسا في أدبها.

لم ترتد المدرسة، بل تعلمت في البيت على يد أمها التي دفعتها ودعمتها لتمارس الكتابة عندما كانت مريضة في الفراش، فقد شجعتها على الكتابة لتسلي نفسها وتخفف آلام مرضها، فكتبت روايتها الأولى “ثلوج على الصحراء” التي رفضها الناشرون، ولم يتسنّ لها لاحقاً أن تجد طريقاً إلى دور النشر.

وفي الحرب العالمية الأولى تطوعت للعمل في أحد المستشفيات ممرضة لتساعد الجرحى، فكان عملها يتطلب تحضير الأدوية وتركيبها، لذا تعرفت إلى السموم المختلفة والعقاقير، فازدادت خبرة في هذا المجال، واستفادت منه في رواياتها عن عالم الجريمة.

تنقيب في الشرق

عام 1914 تزوجت طياراً اسمه أرشيبالد كريستي، لكنها انفصلت عنه عام 1928 بعد موت والدتها -صاحبة الأثر فيها- بفترة وجيزة، فعانت انهياراً امتد فترة ليست قصيرة.

ثم تزوجت عالم الآثار الشهير السير ماكس مالوان عام 1930 وأمضت برفقته سنوات من عمرها في المشرق (العراق وسوريا ومصر) حيث كان ينقب عن الآثار، وعملت معه في التنقيب فاقتحمت هذا العالم، وساعدته في التقاط الصور للمواقع وتنظيف القطع الأثرية[1]، فعبر رحلاتها نسجت حقائق وغرائب أدخلتها في النصوص وفي حواراتها التحفيزية.

في هذه المناطق تفتّح وعي “ملكة الغموض” -كما عُرفت- على ثقافة وحضارة جديدين، فكتبت روايات تدور أحداثها فيها مثل “موت فوق النيل” و”لقاء في بغداد” و”جريمة في العراق” وغيرها.

حكاياتها تتميز بدقة حبكتها، وتربط أحداثها بمنطقية تسلسلية، تحلل النفس البشرية، تسبرها من الداخل، تغوص فيها، تُخرج منها كوامنها وتفاصيل خفية، بعبقرية فذة وبصيرة نافذة، تؤدي إلى أن الخير لا بد أن ينتصر في كتاباتها، لأن “الجريمة لا تفيد”.

روايات في السينما

الحبكة التي تميزت بها كتابات أغاثا كريستي والأعمال البوليسية التي تستقطب جمهوراً، جعلا أعمالها تدخل السينما دونما توقف[2]، فأمست مورداً مهماً لها، لأنها تتمتع بحيوية وحوار رشيقين، ومن هذه الروايات التي جسدتها السينما:

“ثم لم يبق أحد” (And Then There Were None) (1945):

وهي من تحف كريستي الفنية، صُورت سينمائياً مرات عدة آخرها عام 2015، بقي أجودها وأعلاها قيمة نسخة عام 1945، فصار هذا الفيلم من كلاسيكيات السينما.

تحكي أحداث الفيلم/الرواية عن مضيف غامض يدعو عشرة غرباء إلى جزيرة معزولة، ثم يُقتلون واحداً تلو الآخر، تعلو الإثارة والتشويق فيه بتكثيف شديد لمعرفة القاتل.

“شاهد الادعاء” (Witness for the Prosecution) (1957):

وهو فيلم أضحى أيضاً من كلاسيكيات السينما، وترشح لجوائز أوسكار عدة، ونال غولدن غلوب عام 1958. مقتبس من قصة لأغاثا كريستي بالعنوان ذاته، تقص فيها اتهام رجل بقتل سيدة عجوز ثرية قضى الفترة الأخيرة إلى جانبها وتقرب منها، ثم أوصت له بأملاكها.

“الجرائم الأبجدية” (The Alphabet murders) (1965):

وفيه يسعى المحقق بوارو لكشف جرائم تحدث في لندن، لكن بطابع كوميدي لا يتماشى مع التشويق في جرائم القتل، لذا ضعفت القيمة الفنية للفيلم، ثم يكتشف أن القاتل يختار ضحاياه حسب الترتيب الأبجدي.

“موت فوق النيل” (Death On The Nile) (1978):

تنقلت أغاثا كريستي في المنطقة العربية، فصارت هذه المنطقة مكاناً لروايات كثيرة لها، كرواية “موت فوق النيل” التي كان مسرحها باخرة في النيل، وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي. وتحكي قصة شابة وزوجها يمضيان شهر العسل على متن هذه الباخرة، فتُقتل الشابة، ويصادف ذلك وجود بوارو عليها، فيسعى لفك لغز الجريمة ومعرفة القاتل.

“المرآة المكسورة” (The Mirror crack’d) (1980):

في سانت ماري في بريطانيا يجتمع حشد هوليودي لتصوير فيلم عن الملكة إليزابيث الأولى، فتُقتل سيدة لا علاقة لها بما يجري، بينما الهدف كان أحد مشاهير هوليود. في هذا الفيلم/الرواية تحاول المحققة -وهي الآنسة ماربل (البطلة في روايات كريستي)- كشف خيوط الجريمة.

“البيت الأعوج” (Crooked House) (2017):

ويحكي قصة أسرة تعيش في هناء في بيت كبير بضواحي لندن، فيُقتل كبيرها، وتدور الشبهات حول أفراد الأسرة بمواقف غامضة وحبكة فنية، ويتبين أن لكل فرد منهم دوافع لارتكاب الجريمة.

بناء سينمائي

تتحرك الأحداث أحياناً في الأفلام المحوَّلة روائياً بصورة متقنة، وبعض من مواقف الحركة/الآكشن الغامضة التي تنقلها الصورة السينمائية بانفعالات تتجسد للإيحاء السينمائي، ولإلباس الأفلام قليلاً من الإثارة ليتفاعل المشاهد مع الأحداث.

ليست روايات كريستي جرائم بوليسية فقط، بل هي ألغاز محبوكة مسبوكة، تستدعي إعمال الفكر لفهم الناس فهماً دقيقاً بتصرفاتهم ومشاعرهم وتفكيرهم، تسير بأسلوب واضح أنيق، لكنه خفي يواري الحقيقة، فتجرب أن تخمّن القاتل، لكنك تخفق في كل مرة، هذا ما تريده السينما عندما تنقل الأحداث إلى الشاشة، عنصر التشويق والجذب متوفر لديها، فتحمله الصورة السينمائية إلى المشاهد لتستحثه على المتابعة حتى اللحظة الأخيرة.

تومض أغاثا بحقيقة القاتل، تقدم معلومات وأدلة تجعلك تسير خلف إحدى الشخصيات، ثم تومض إلى آخر، فتجعلك مرتبكاً مشوّشاً لا تمسك به، لكن هذا التشويش يحملك إلى الإثارة والتشويق، تترصد القرائن عبر تلميحات تبثها الكاتبة تشير إلى الطبيعة الحقيقية للقاتل[3].

كذا حاولت السينما أن توحي بأفكار كريستي وجرائمها التي صارت في السينما مدخلاً للتصوير البوليسي، حيث ترصّدها المخرجون يسعون وراء تفاصيل يبنونها سينمائياً، مستخدمين نظرتها الثاقبة في دوافع الإنسان والنفس البشرية، فهي أشبه بعالِم نفس يحلل الواقع والحاجات ويسير بها إلى الغايات.

القرار لدور النشر

عندما سارت كريستي في الأدب البوليسي نجحت وأمتعت، واستقبل الجمهور والنقاد رواياتها بحفاوة، فصاروا ينتظرون نتاجها الأدبي المقبل عملاً بوليسياً، فحققت إيرادات ضخمة ومبيعات كبيرة، لذا استحكمت دور النشر في أغاثا، فلم يُقبلوا على أعمالها البعيدة عن عوالم الجريمة الخفية، ومانعوا أن تؤلف في أنواع أخرى أو تستكشف نفسها في أي غرض أدبي آخر، فتأطرت في القالب البوليسي على الرغم من كتابتها في موضوعات أخرى، لكن هذه الكتابات لم تلق رواجاً لأن كريستي صارت مرتبطة بالأدب البوليسي والفكر الخصب في السعي وراء الجرائم. وتفادياً لذلك كتبت روايات رومانسية باسم مستعار هو “ماري ويستماكوت”، لكن روح كريستي في عالم الجريمة جعلها ضعيفة أمام تلك النتاجات.

ومع بدايتها في عالم الجريمة، هاجمها بعض النقاد لأن الأدب الجاد كان يسود في تلك المرحلة، ولأن من يكتب في الجريمة هم كتاب ذكور، ورأوا أنه أدب شعبي لن يصمد[4]، وأنها تكتب جرائم لا تحدث بعيدة عن الواقع، لكن حنكة وحرفية كريستي جعلتاها تصمد وتصبح سيدة الأدب البوليسي وتبيع إلى الآن ملايين النسخ.

أخبرني كيف تعيش

عام 1976 رحلت أغاثا كريستي لتتوقف مسيرتها التي امتدت لـ67 رواية طويلة وعشرات القصص القصيرة نشرت في 13 مجموعة. تُرجمت أعمالها إلى معظم اللغات، وطبع لها مليارا نسخة، كما دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية لتحقيق رواياتها أرقاماً قياسية في المبيعات.

لم تُجسّد أعمالها سينمائياً فقط، بل مُثلت على خشبة المسرح، فكانت أول رواية لها مثلت مسرحياً هي “من الذي قتل السيد روجر أكرويد” التي يرى نقاد أنها أهم نتاجاتها الأدبية، ثم تتابعت أعمالٌ غيرها. كما صُور الكثير من أعمالها تلفزيونياً.

قبل أعوام قليلة أخرجت أسرتها محفوظات لها تتضمن صوراً وجوانب حياتية مخبأة للكاتبة، فظهرت صور لها تركب الأمواج، وأخرى عن زيارة لها إلى باريس قبل الحرب العالمية الأولى.[5]

أحبت أغاثا سوريا والعراق، ودأبت على زيارتهما لتستلهم منهما أحداثاً لرواياتها، وتستنطق باطن الأرض لتخرج ما في جوفها، حتى إنها وضعت كتاباً عن عمليات التنقيب الأثرية فيهما بعنوان “تعال.. أخبرني كيف تعيش”.

المصادر:

[1] مقدمة رواية إبزيم الحذاء، ط 3 (دار الأجيال، 2004).
[2] https://bit.ly/2DALbys
[3] Sophie Hanna, “No one should condescend to Agatha Christie – she’s a genius”, The Guardian, 16/5/2015, accessed on 18/9/2019, at: https://bit.ly/2mmxspo
[4] مريم عادل، “الجريمة الدافئة.. لماذا لا يخفت سحر أغاثا كريستي”، ميدان، شوهد في 18/9/2019، في: https://bit.ly/2lXetRZ
[5] https://bit.ly/2kPsK2X

Share
  • Link copied
المقال التالي