يعتبر نزاع الصحراء بين المغرب وجبهة “البوليساريو” من أقدم النزاعات المعروضة على الأمم المتحدة، فبعد خروج الاستعمار الإسباني عام 1975 نتيجة المسيرة الخضراء التي دعا إليها الملك الراحل “الحسن الثاني”.
استمر الصراع في المنطقة بظهور حركة انفصالية تدعى اختصارا “البوليساريو” تطالب بإقامة جمهورية على الأراضي الصحراوية ستحتضنها الجزائر وتقدم لها الدعم المالي والعسكري. حيث سيتحول الصراع إلى نزاع مسلح استمر إلى غاية سنة 1991 حين اتفق أطراف النزاع على وقف إطلاق النار برعاية أممية، واتباع الطرق الدبلوماسية من أجل إيجاد حل عادل ونهائي. سيسلك الطرفان طريق المفاوضات من أجل تقريب وجهات النظر والابتعاد عن لغة السلاح، التي استمرت بين سرية وعلنية بغية التفاهم على حل يرضيهما، كان آخرها مفاوضات جنيف واحد واثنان عام 2019، لم تسفر عن نتائج ملموسة غير تكريس الأمر الواقع وإبقاء الوضع على ما هو عليه حتى إشعار آخر.
إن من أبرز الأسباب التي أفشلت المفاوضات هو عدم امتلاك جبهة البوليساريو قرارها في يدها، فالجزائر المحتضن الرسمي والعلني للجبهة رغم إنكار أنها طرف في النزاع، إلا أنها ظلت ترسم الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها عند أي مفاوضات في وصاية تامة على الجبهة، وهي التشبث بالاستفتاء من أجل تقرير المصير وعدم الانفتاح على أي حل سياسي بديل يمكن التوافق عليه. فالنهج الثوري الذي تدعي الجبهة اتباعه قد ولّى زمنه وقد تخلت عنه الكثير من الحركات الثورية التي كانت تناضل بنفس الخطاب وانصهرت في الدولة الأم كمنظمة “إيتا” الباسكية وقوات كولومبيا المسلحة الثورية المعروفة اختصارا باسم “فارك”، وغيرهم من الحركات التي كان مصيرها الدّحر من طرف القوات النظامية كما وقع في سريلانكا، حيث قام الجيش بدحر ميليشيات “نمور التاميل” والتي كانت تتمتع بقوة عسكرية كبيرة وهي المنظمة الوحيدة في العالم التي كانت تمتلك قوة جوية.
فمطلب حق تقرير المصير والذي تحصره جبهة البوليساريو في الاستفتاء، حلّ غير قابل للتحقيق لصعوبة إحصاء اللاجئين في المخيمات بتندوف التي تعيش تعتيما إعلاميا كبيرا، وكذلك طعن الجبهة في أحقية سكان الصحراء في المغرب بالاستفتاء. كما أن تمثيلية الصحراويين في المفاوضات كانت محط جدل، بمحاولة جبهة البوليساريو إقصاء ممثلي الصحراويين بالمناطق الجنوبية المغربية من المشاركة على اعتبار أن الجبهة هي الممثل الشرعي والوحيد لسكان الصحراء، على الرغم من أن الانتخابات المحلية التي أجريت في المنطقة وتحت مراقبة دولية وشهدت بنزاهتها الأمم المتحدة، تعد تعبيرا واضحا عن ممارسة ساكنة الصحراء لحقوقهم السياسية بكامل الحرية والديمقراطية.
جاءت توصية الأمم المتحدة 1514 لتعريف تقرير المصير بتاريخ 14 ديسمبر 1960 وربطته بعدم الخضوع إلى الاستعمار الأجنبي من طرف دولة أخرى، كما تجنبت التوصية 1514 الحديث عن الانفصال عن الدولة الأم لتفادي أية محاولة للتدمير الجزئي أو الكلي للوحدة الوطنية، أو التكامل الإقليمي لأي دولة ضدا عن أهداف ومبادئ الأمم المتحدة.
كذلك تناولت التوصية رقم 2625 لعام 1970 حق الشعوب في تقرير المصير في إطار احترام السيادة الوطنية والوحدة السياسية للدولة حيث جاء فيها: “لا شيء في الفقرات السابقة يمكن تفسيره على أساس أنه يبيح أو يشجع فعلا أيا ما كان هذا الفعل، إذا ما كان من شأنه تمزيق أو تهديد التكامل الإقليمي أو الوحدة السياسية لأي دولة مستقلة ذات سيادة تمزيقا جزئيا أو كليا، طالما أنها تتصرف وفقا لمبدأ المساواة في الحقوق، وتعبر عن جميع طوائف الشعب المنتمي إلى الإقليم بدون تمييز حسب الجنس أو الدين أو اللون”.
إن الأقاليم الجنوبية المغربية تعيش استقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كباقي الأقاليم المغربية، كما أن سكان تلك الأقاليم لا تميزهم عن المواطنين المغاربة خصائص قد تجعلهم أقلية مضطهدة كاللون أو العرق أو الدين، عدا الاختلاف الثقافي واللهجة الحسّانية التي تعد تراثا مغربيا يحتفى به كباقي مكونات التراث الوطني. فهناك أقليات أكثر تميزا وعمقا في التاريخ وأقصى ما تتمتع به هو الحكم الذاتي، كالشعب الكردي في منطقة الشرق الأوسط، والكتلان في إسبانيا وشعب التبت في الصين.
لقد عبّر قرار مجلس الأمن 2414 بتاريخ 27 أبريل 2018 عن قلقه لتحركات “جبهة البوليساريو” في المنطقة العازلة “الكركارات” ودعا إلى انسحابها من المنطقة، كما طالب الجبهة بالامتناع عن أي عمل من الأعمال التي يمكن أن تزعزع الاستقرار بالمنطقة في إشارة إلى محاولتها نقل المهام الإدارية إلى منطقة “بير لحلو”، في حين أشاد ذلك القرار برد فعل المغرب الذي وصفه بالمتزن. وتطرق القرار لأول مرة لحالة حقوق الإنسان بالمنطقة حيث أشاد بالجهود المبذولة من طرف المغرب في مجال حماية حقوق الإنسان وتعاونه مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في حين عبر عن قلقه إزاء الوضعية التي يعيشها سكان المخيمات في تندوف من الناحية الحقوقية ونقص المساعدات الخارجية.
القرار الأخير لمجلس الأمن رقم 2548 بتاريخ 30 أكتوبر 2020، لم يختلف عن القرارات السابقة والتي أصبحت تشير بكل وضوح إلى ضرورة تعاون الجزائر كطرف في النزاع من أجل التوصل إلى حل سياسي واقعي وعملي ودائم لمسألة الصحراء على أساس من التوافق، كما نلاحظ أن المجلس قد أشار في قراراته إلى جهود المغرب الذي قدم مقترح الحكم الذاتي باعتبارها جهودا تتسم بالمصداقية والجدية. الأمر الذي يجعلنا نستنتج ضمنيا حرص مجلس الأمن في قراراته على تسوية النزاع بالطرق السياسية وحلول تتسم بالواقعية وأن مقترح استقلال الصحراء المغربية غير واقعي وغير مقبول بل حتى غير مطروح للنقاش.
أمام واقعية قرارات مجلس الأمن ودبلوماسية المغرب النشطة والتي استطاعت سحب البساط من تحت أقدام جبهة البوليساريو الانفصالية، ودحض ادعاءاتها كون المملكة المغربية محتلة للصحراء، نهج المغرب طريقا دبلوماسيا سمي بدبلوماسية القنصليات. إذ افتتحت العديد من الدول تمثيليات دبلوماسية في العيون المغربية، الأمر الذي واجهته جبهة البوليساريو بعرقلة حركة السير بمعبر “الكركارات” الحدودي بين المغرب وموريتانيا، كما سيتم إغلاقه بشكل نهائي لمدة تزيد عن عشرين يوما بواسطة ذروع بشرية ادعت الجبهة أنها عناصر مدنية تحتج على استغلال المعبر من طرف المغرب.
الجدير بالذكر وحتى نعطي المشكلة حقها القانوني، فالمنطقة التي يتواجد بها المعبر هي منطقة نفوذ مغربية وتحت السلطة الإدارية المغربية وبالتالي سياديا هي منطقة تابعة للمغرب، أما الخمس كيلومترات بعد المعبر وعلى طول الجدار الأمني الدفاعي الذي يصل إلى 2720 كيلومتر، فهي مناطق عازلة تركها المغرب بعد اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991، حتى تتمكن القوات الأممية من ضبط عملية وقف إطلاق النار والحد من هجمات الجبهة التي كانت تنطلق من أراضٍ جزائرية ضد الجيش المغربي في خرق سافر لمبدأ حسن الجوار. فاللاجئ حقوقه تكمن في المأكل والمشرب والصحة والتعليم حسب قوائم المفوضية العليا للاجئين وليس التسليح والدعم العسكري ضد دولة جارة.
إنّ وقف الحركة التجارية بمعبر “الكركارات” في شبه حصار اقتصادي على المغرب لم يضر بالمصالح الاقتصادية والتجارية للمملكة المغربية فقط، بل أضر بمصالح دول عديدة على اعتبار أنه معبر دولي تمر منه قوافل تجارية نحو العديد من الدول الافريقية آتية من المغرب وأوروبا، وبالتالي فتصرف جبهة البوليساريو كان عملا غير قانونيا كاد أن ينسف باتفاق وقف إطلاق النار كما أشار إلى ذلك قرار مجلس الأمن رقم 2414 لسنة 2018 في الفقرة 8، التي حثّ فيها الأمين العام للأمم المتحدة الجبهة لعدم عرقلة حركة المرور المدنية والتجارية وعدم اتخاذ أي إجراءات قد تغير الوضع القائم بالمنطقة، غير أن الجبهة أبت إلاّ أن تكرر الفعلة سنة 2020.
أمام صمت الأمم المتحدة وعجز قوات “المينورسو” على ضبط الأوضاع بمعبر “الكركارات” تدخل المغرب بشكل سلمي وقانوني لحماية مصاله الاقتصادية، وحماية التجار المدنيين والسلع التي تعبر المنطقة من القرصنة التي كانت تتعرض لها من طرف عناصر محسوبة على البوليساريو. حيث سبق وأن قامت دول عديدة بمنع مثل هذه التصرفات في أماكن مختلفة من العالم، نذكر منها التحرك العسكري الفرنسي ضد عمليات القرصنة في سواحل الصومال قبل أن تتخذ الأمم المتحدة أي قرار في ذلك الشأن.
يمكن القول أنّ الاستفزازات التي قامت بها جبهة البوليساريو في معبر “الكركارات” على الحدود المغربية الموريتانية، لم تكن سوى حركات للفت الانتباه أنّها لازالت تتواجد على الساحة وإلهاء ساكنة المخيمات الذين ضاقوا ذرعا من السكن في اللجوء لأزيد من خمسة وأربعين سنة، دون أن يتحقق شيء من وعود ثلة من زعماء المليشيات تنعم في فنادق العاصمة الجزائر وعواصم بعض الدول المتعاطفة على قلتها. فإعلان الجبهة الانسحاب من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المغرب، هو إعلان إفلاس مشروع دولة فاشلة ولد ميتا قامرت عليه الجزائر لإضعاف جارتها المغرب في إطار السباق نحو الريادة والزعامة في المنطقة.
*باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية -المغرب
مقال جدير بالقراءة وممتع. شكرا لكم